السياسة.. المقال الأول

  السياسة.. المقال الأول... 

د. مهند العلام. 

12/11/2024 

ارتبط مفهوم السياسة لدى كثير من الناس بلعبة المصالح وكيفية استحصالها بشتى الطرق والأساليب، فيما اعتقد كثير من اهل الإسلام انها مرتبطة بالسياسة الشرعية أي تنظيم وإدارة شؤون الحكم والسلطة والدولة بما يتفق مع المبادئ والقيم الإسلامية، وهي تهدف عندهم إلى تحقيق المصلحة العامة والعدل، من خلال وضع القواعد والأسس التي تساعد الحاكم على إدارة الدولة وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية وتوجيه المجتمع في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وضمان العدالة وحفظ النظام والأمن العام.. 

وهنالك ادراك اجتماعي عام للسياسة نشأ عن طريق مقولات متداولة كمثل "لا اخلاق في السياسة" او "ان السياسة جلب المصالح" او ان "السياسة كذب" او "انها فن الممكن" غيرها من تلك الامثال الدارجة، والتي جميعها مخالفة لأصول السياسة في تاريخ حضاراتنا الإسلامية. 

فالفكر السياسي الإسلامي لم يفصل الأخلاق عن السياسة يوما. والأخلاق عادة ما تكون في بداية كل تصنيف في احكام السياسة الاسلامية وهي عادة عند اهل الفكر، اذ نجدها مثلا في "الذريعة في مكارم الشريعة" للراغب الأصفهاني (500هـ) وفي "الأحكام السلطانية" لعلي بن محمد الماوردي (450هـ). وفي "أحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي (505هـ). وفي "مكارم الاخلاق" لابن مسكويه (421 هـ). وفي كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" لشهاب الدين احمد بن محمد ابن ابي الربيع، وعند ابن خلدون في كتابه "العبر - المقدمة"، وغيرهم. 

ومما يميز هؤلاء العلماء في كتاباتهم انهم يركزون على المشاكل، والحلول، ويعتمدون طرق المنطق في كتاباتهم من حيث تركيزهم على الحد والمطلع، وعلى الظاهر، والباطن، وهذا في المجمل يعبر عن الآدب السياسي في تقديم المشورة للأعلى دون أن يجرح أو ينتقد أو يذم، عن طريق استدلالهم بالحجة التي يظهرونها بتصيح مسار الأخلاق في المصنفات التي يكتبونها للخليفة دون العامة وبالتالي يعدها الخليفة مرجعه للاستدلال ومما يؤسف له اليوم هناك خلط مقصود لدى النخبة الفكرية الإسلامية بين ما هي فلسفة سياسية وبين مبادئ الفكر السياسي وبين ماهية النظرية السياسية وبين الأداء والاعمال والتجربة السياسية. 

وان عدم التفريق والتمييز بين هذه المفاهيم ادى الى ان التقاليد السياسية الاسلامية المعاصرة، لعموم المجتمعات والحركات والحكومات والتيارات الاسلامية في الشرق المسلم، تميزت بالتجمد والتقوقع والرفض، وارتبطت بممارسات لم تعد مقبولة في العالم المعاصر، بحيث جعلها تدعو الى المحافظة على التقاليد، واغلاق الباب على نفسها، ورفض الحديث بلغة العصر... 

اي انها وبمعنى اخر ترفض الوظيفة السياسية، في حين ان هناك صراع يومي وجسدي ومتوالي ومستمر في الحياة السياسية العامة للمجتمعات، تؤدي الى ان تكون الوظيفة السياسية هي القيادة الجماهيرية... 

وهنا تثار الاسئلة المتعددة والتي تناقشها هذه السلسلة من المقالات، وقد اختلف الناس في الاجابة عليها او حتى في فهمها كمثل: 

هل هناك نظرية سياسية اسلامية؟ وماهي اصول النظرية السياسية الاسلامية؟ هل هو فقهي ام فلسفي، ام حركي، ام هو تراث اخلاقي؟ 

وما هي مصادر التراث السياسي الاسلامي؟ وما هي الكيفية التي يتم التعامل بها مع هذا التراث؟  

وهل نجحت اسلمة السياسة؟ 

وماهي اقسام السياسات في التجربة السياسية الاسلامية؟ 

ولماذا فشل الإسلاميون اليوم في الحكم، بالرغم من نجاح بعضهم بالوصول الى السلطة؟ 

ومن حيث الفرضيات العامة هناك مسالة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وظاهرة السلطة. وهذا الخلط والتناقض والجهل الحاصل في الحياة الفكرية السياسية للمجتمعات المسلمة المعاصرة، بسبب التأثير الاستعماري، ومراحل التحديث المفاجئ في بعض المجتمعات الإسلامية والذي ادى في كثير من الاحيان الى تحول الاسلام الى مجموعة من الطقوس الشكلية وممارسات دينية في التعاملات اليومية بشكل محدود جعلت المسلمين يهملون وظيفة الدين بهذا الشكل الذي نراه اليوم. 

فالنصوص الدينية محترمة ومقدسة، ولكنها وعلى مر العصور والاوقات طالما بقيت دون تطبيق واقعي وتجارب جماعية فستكون محدودة القيمة سلبا ام ايجابا ... او ربما سيكون لها سياسة تشريعية لكن لن يكون لها ممارسة سياسية. 

بداية وقبل ان نتعامل مع تلك الأسئلة علينا ان ندرك ان السياسة تحتاج الى علوم ولغة مختلفة عما الفناه في العلوم الأخرى، فالسياسة تحتاج الى العلم بمقصود العبادات والطاعات، والتخلق بجميل الأخلاق، والى علم التاريخ في اخبار الملوك وسياساتهم، وذكر الدول وحوادثها. واخبار الفضلاء والحكماء والكرماء واضدادهم، وتحتاج الى علم المنثور وعلم الألفاظ المفردة والمركبة وقوانينهما، وعلم قوانين تصحيح الكتابة والقراءة، وعلم قوانين الاشعار. 

وتحتاج السياسة أيضا الى اقسام علم النطق، كالنطق بقدر ما ينبغي، لنفع السامع والقائل حصرا. والنطق كما ينبغي، ومخاطبة الطبقات بخطاب يناسب كل طبقة وما يليق بها. والنطق متى ينبغي عند الحاجة فقط. 

وهناك صناعة المنطق، فمنها ما يؤدي للحق المحض والصدق في الجملة وهو ما يسمى برهانا وهي صناعة اليقين. ومنها ما يؤدي للصدق غالباً ويكذب نادراً، ويسمى جدلاً، وهي صناعة الظنون. ومنها ما يؤدي للحق مرة وللباطل اخرى، ويسمى خطابة، وهي صناعة الاقناع. ومنها ما يؤدي للكذب غالباً، وقد يصدق قليلا، ويسمى سفسطائيا، وهي صناعة المغالطة. ومنها ما يؤدي للباطل المحض، ويسمى شعرياً، وهو صناعة التخيل 

إضافة الى ذلك تحتاج السياسية الى علوم مفيدة صالحة يراد بها للحكم، كأقسام الرياضيات، وعلم الهندسة، وعلم الهيئة، وعلم الموسيقى، وعلم الطبيعيات، ومعرفة القوى المدبرة لابدان الانسان ومعرفة عللها واعراضها وامراضها ودلائلها على كل الامراض وسائر اسبابها.....  يتبع.