الأصولية...المقالة الثالثة
د. مهند العلام
21/04/2025
الأصولية الجديدة الحاكمة... القيامة، النبوءة، وصناعة النهايات السياسية.
يعتقد الكثيرون أن العالم سيتغير، لكنه بالفعل تغير، بل إن الأصوليين باتوا يحكمون العالم فعليًا، مستندين الى عقائد موروثة واحداث مكتسبة ورؤية واحدة لشكل وما سيكون عليه العالم، ويرون أنفسهم أبطالًا ومخلّصين اختارهم الله لقيادة العالم، وانهم اكثر من يملك حس الدولة، وهم من أشد الناس اقتناعًا بأن السلطة هي وسيلة للقمع قبل كل شيء سواء أكانت ضدهم او لهم وبها يحكمون.
اليوم هناك اكثر من 85 مليون انجيلي يميني اصولي مسلح يحكمون الولايات المتحدة ويؤمنون بمفهوم الاختطاف السماوي المعروف بـ "Rapture "، وهناك من الأصوليين من يؤمن "بالبلاء العظيم" Tribulationوهو يمتلك النفوذ على البنى الاقتصادية والمؤسساتية وأنظمة الدول التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية، وهناك الكثير من الأصوليين الإسلاميين من يعتقد ان الوقت قد حان لتجمع خير اجناد الأرض في حلب استعدادا للملحمة الكبرى، وقد حسمت التيارات الشيعية الأصولية موقفها تجاه مسألة الإمامة وتمهد اليوم لخروج المهدي من سرداب سامراء. وجميعهم يريدون ان يعززوا مكانتهم في المجتمعات التي يعيشون فيها وأن على الأتباع تمهيد الطريق له بإزالة الأنظمة السياسية القائمة وإعادة هندسة المجتمع وفق رؤية غيبية.
وكل هذه التصورات، ورغم اختلاف الأديان والسياقات، تُنتج نمطًا خطيرًا من التفكير هو توظيف الأخرويات لإعادة تشكيل العالم الأرضي. إن المفاهيم الغيبية لا تُفهم هنا بوصفها رموزًا روحية أو أدوات تهذيب نفسي، بل تُحوَّل إلى مبررات للعنف، وأدوات للتعبئة، وأسس لاستراتيجيات توسعية.
ان خطر الأصولية على العالم وتسييس المفاهيم الدينية وتوظيف النبوءات في السياسة جاءت بعد ان شكلت أطروحات نهاية القرن الماضي كمثل "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" الأسس الفكرية للأصولية الجديدة ولم تكن مجرّد نظريات سياسية، بل ساهمت في تشكيل وعي ديني جديد متداخل مع الفكر السياسي، اذ تحوّلت المفاهيم الأخروية مثل "البلاء العظيم" و "الملاحم الأخروية"، إلى أدوات رمزية لتفسير الحاضر، وإلى مبررات للصراع والتعبئة.
بالتالي، فإن هذا التداخل الخطير بين الدين والسياسة، بين النبوءة والاستراتيجية، يستدعي فهما نقديًا عميقًا من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع والدين، لفهم كيف يُعاد إنتاج المفاهيم الدينية في ظل الخطاب الإمبراطوري الجديد.
فنظرية "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما وأطروحته الأساسية بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتصار الديمقراطية الليبرالية، وانه وصلنا إلى "نهاية التاريخ" من حيث التطور الإيديولوجي، وانه لا مزيد من الصراعات الكبرى بين الإيديولوجيات، بل سيادة النموذج الليبرالي الغربي.
في حين اكدت نظرية "صدام الحضارات" لصموئيل هنتنغتون على ان الصراعات المستقبلية لن تكون بين دول أو إيديولوجيات، بل بين حضارات إسلامية، غربية، فيما ترى أن الدين والثقافة سيكونان المحرك الأساسي للنزاعات القادمة، لا السياسة ولا الاقتصاد فقط.
لقد اثرت هذه الأطروحات على المفاهيم الدينية من خلال إحياء السرديات الأخروية والدينية وتسييس العقائد الدينية، وخاصة في الغرب والإسلام، كاستدعاء مفاهيم مثل: المخلّص المنتظر والمعركة الأخيرة بين "قوى الخير والشر" ونهاية الزمان والبلاء العظيم والمهدي والمسيح والدجال، وأصبحت هذه المفاهيم تُوظّف كدوافع رمزية في فهم أو تبرير الصراعات.
وقامت بتغذية "القلق المروّع في الغرب لكثير من الجماعات الدينية كالإنجيليين لتحقّق نبوءات الكتاب المقدّس، وأن العالم يقترب من لحظة "البلاء العظيم ". وفي المقابل، اخذتها بعض الحركات الإسلامية كإعلان عن نهاية فرض الغرب لمنهجه، واعادة إحياء مفاهيم "الطائفة المنصورة" و"الملحمة الكبرى" و"الحرب النهائية بين الحق والباطل" ومرحلة ما قبل ظهور المهدي او كمقدمة لعودة المسيح.
مصطلح الـ Rapture الاختطاف أو الاختطاف السماوي، هو مفهوم لاهوتي يختلف تفسيره بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة المسيحية، الإسلام، واليهودية وعند الشيعة، وهو مرتبط بالإيمان بالمجيء الثاني للمسيح واختطاف المؤمنين، ويشير إلى حدث مستقبلي يُؤمن به الطوائف الأصولية المتدينة على ضفتي الأطلسي وفي شرقنا الاوسط، اذ سيأخذ المسيح المؤمنين الحقيقيين من الأرض إلى السماء قبل فترة البلاء العظيم أو خلالها.
يُستخدم"The Rapture" في العقيدة الاصولية المسيحية عند بعض الطوائف البروتستانتية الإنجيلية ويُشير إلى حدث مستقبلي يؤمن به بعض المتدينين كحدثًا مستقبليا حرفيًا سيحدث فعليًا في الزمان والمكان وسيحدث قبل أو أثناء أو بعد فترة البلاء العظيم، وهذه هي فترة مستقبلية شديدة الاضطراب والألم على الأرض تسبق المجيء الثاني للمسيح ونهاية العالم.
ورغم انه لا يظهر كمصطلح صريح في الكتاب المقدس، بل هو استنتاج عقائدي من عدة نصوص، اذ يعتقدون أن المسيح سيعود فجأة، ويأخذ المؤمنين به من الأحياء والأموات ليكونوا معه في السماء، وذلك قبل أو أثناء أو بعد فترة البلاء العظيم "Great Tribulation" التي تسبق نهاية العالم.
وهي فترة يُعتقد أنها ستشهد كوارث طبيعية واسعة النطاق. وحروب مدمّرة. واضطهاد كبير للمؤمنين بالمسيح. وسيطرة الشر، خصوصًا من قبل ما يعرف بـالمسيح الدجّال "Antichrist".. وفيها أيضا تجارب روحية عظيمة واختبار للإيمان. وستكون مدتها بحسب سفر دانيال وسفر الرؤيا، بـ سبع سنوات. ويُقسَّمها البعض إلى قسمين: أول ثلاث سنوات ونصف: معاناة شديدة. وآخر ثلاث سنوات ونصف: ذروة الضيق مع ظهور المسيح الدجّال.
وكلمة Rapture مأخوذة من الكلمة اللاتينية raptura، وتعني "الاختطاف" أو "الانتزاع". ويستند هذا الاعتقاد إلى بعض النصوص من العهد الجديد، كرسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي. وهذا المضمون اللاهوتي يُنظر إليه على أنه إنقاذ للمؤمنين من عذاب والمشاكل الدينونة الآتية.
وعلامات الاختطاف حسب المعتقدات المسيحية هي انتشار الخطيئة والحروب والكوارث الطبيعية والحروب العالمية، وظهور "المسيح الدجال" وأن هناك أحداثًا تلي الاختطاف في المسيحية كالبلاء العظيم "حكم الله على العالم" ومعركة هرمجدون، وعودة المسيح لحكم الأرض 1000 سنة "الملك الألفي".
وتعد فترة البلاء العظيم في اللاهوت المسيحي الإنجيلي كامتحان الإيمان وتُعتبر وقتًا لتجربة إيمان المسيحيين الحقيقيين. وإعلان غضب الله اذ يراها البعض كتجسيد لدينونة الله على الأمم. ومقدمة للمجيء الثاني التي تسبق ظهور المسيح المنتظر وبدء الملكوت الألفي.
اما عند الاصوليون اليهود فلا يوجد مصطلح واضح مطابق لـ "البلاء العظيم "، لكن توجد تصورات عن عصر الألم والمخاض "Chevlei Mashiach " חבלי משיח أي "آلام المخاض المرتبطة بمجيء المسيّا" والتي تشير إلى فترة من الألم والمعاناة تسبق ظهور الماشيح اليهودي "المسيّا المنتظر".
وطبيعة هذه الفترة عندهم كثرة الحروب والاضطرابات، وانقلاب في القيم الاجتماعية، وانتشار الظلم وضعف الإيمان، ويُقال عندهم إن تلك الفترة ستكون بمثابة مخاض الولادة لعالم جديد تُقام فيه العدالة الإلهية. وفيها أيضا قيامة الأبرار اذ بعد مجيء المسيّا الذي سيقود العالم إلى السلام وهو الذي سيبني الهيكل الثالث ويجمع اليهود في أرض إسرائيل ويقوم بحرب جوج وماجوج "Gog and Magog" اذ ستقع حرب ضخمة بين إسرائيل وأعدائها وسينتصر الله على الأعداء، ويبدأ عصر السلام وسيُقوم الأموات الصالحون وتتحقق الوعود الإلهية بعودة إسرائيل إلى مجدها الروحي والسياسي.
والفرق بين اليهودية والمسيحية انه لا يوجد في اليهودية فكرة "اختطاف المؤمنين إلى السماء"، بل انتصار إسرائيل الأرضي، اما المسيحية فتعتبر أن المسيح "يسوع" هو المخلص، بينما اليهودية تنتظر المسيّا آخر.
كذلك فالعقيدة اليهودية تركز على القيامة العامة في آخر الزمان، ومجيء "المسيّا". وعودة الأرواح إلى الأجساد في الأرض المقدسة. أي أن الأموات الأبرار سيقومون من القبور ليعيشوا في العالم الذي سيُجدَّد في زمن الماشيح.. وهذه الفكرة محورية في التيارات الأرثوذكسية الأصولية الحاكمة في إسرائيل اليوم، لكنها رمزية أو غير مركزية في التيارات الليبرالية المعارضة.
اما عند الجماعات الأصولية الإسلامية فهناك أحداث مشابهة في آخر الزمان كنزول المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان ليقاتل الدجال وظهور يأجوج ومأجوج وبعدها القيامة والحساب، لكنها تختلف عن فكرة الاختطاف المسيحية.
فلا يوجد في الإسلام مفهوم الرابتشر بالمعنى المسيحي، لكن هناك أحداث مشابهة في آخر الزمان، كنزول عيسى عليه السلام اذ ينزل المسيح عيسى بن مريم في آخر الزمان عند ظهور المسيح الدجال فيقاتل الدجال ويقتله عند باب لُدّ في فلسطين ثم يحكم بالشريعة الإسلامية، ويسود السلام.
وبعد موت الدجال، يخرج قوم يأجوج ومأجوج فيدمرون الأرض، ثم يهلكهم الله بدعاء عيسى. ثم تبدأ علامات الساعة الكبرى كطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة والنار التي تحشر الناس إلى محشرهم.
وعلامات الساعة الكبرى كالبلاء العظيم عند المسيحية والتي تظهر في أواخر الزمان وتشير إلى اقتراب يوم القيامة، وتشمل: خروج الدجال. ونزول عيسى بن مريم. وخروج يأجوج ومأجوج. وخسوفات عظيمة "خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب". وطلوع الشمس من مغربها. ودخان يغطي الناس. ونار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. وفي فترة الفتن العظمى يظهر كثرة القتل، وفساد الأخلاق، وانتشار الظلم، ويُفتن الناس في دينهم.
وفي النهاية إن هذا التلاقي المتنامي بين التيارات الأصولية على اختلاف مشاربها، فيما يُرتَّب له كـ "حرب الجزيرة" القادمة، بعد أزمتي أوكرانيا وغزة، لا يُفهم بوصفه مجرد صدًى لنبوءات قديمة، بل كتجلٍّيات حديثة لعقيدة سياسية تُعيد تشكيل المستقبل على اساس انتظار النهاية.
فحين تتحول الرؤى الأخروية إلى خرائط استراتيجية، وتُستدعى النبوءات لتبرير الحروب وصياغة السياسات، نكون إزاء عالم يُصاغ من جديد، ليس كوفق وقائع الأرض كما كان، بل على إيقاع ما يُعتقد أنه قدر السماء.
هنا، ستصبح السياسة رهينة الخيال الديني المسلّح، وسيُدفع الواقع نحو هاويةٍ تُرسم ملامحها في نصوص الغيب لا كمعطيات سياسية. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى وعي نقدي يقظ، يُعيد تفكيك هذا التداخل الخطير بين المقدّس والمصالح، ويكشف كيف يُعاد إنتاج السلطة تحت عباءة النبوءات، وكيف تُصاغ النهايات بوصفها بدايات لقوى تسعى لاحتكار المستقبل باسم الحق.
يتبع...