الأصولية...
المقالة الثانية.
د. مهند العلام
18/04/2025
لماذا يحكمنا الاصوليون؟
لطالما كانت الغيبيات والاساطير والخرافيات جزءًا من الحياة البشرية، إذ يلجأ إليها الناس كوسيلة للشعور بالأمان في مواجهة المجهول. وغالبًا ما تنبع هذه المعتقدات من الخوف، سواء الخوف من الفشل، أو من المجهول، أو الخوف من عواقب الذنوب والآثام. فالخوف يعمل كمحرك خالد للخرافات.
يؤدي الخوف هذا إلى نشوء سلوكيات وأفكار مختلفة من خلال سلوكيات محددة، فقد يلجأ الناس إلى الدين بحثًا عن تفسير لما يحدث لهم من مصائب او مشاكل اقتصادية او سياسية حياتية. اذ ان رجال الدين عادة ما يربطون الطقوس الدينية بالحماية من الحظ السيئ والعقاب الإلهي. ويصبح الخوف من ارتكاب الاخطاء في هذه الحياة دافعًا وراء سلوكيات خرافية متكررة.
يستغل الاصوليون في تعاملهم اليومي العديد من مظاهر الخوف تكمن في جوهرها ما يُعرف في علم النفس بـ"الارتباط الوهمي"، وهو إدراك أو تصور خاطئ لوجود علاقة سببية أو ترابطية بين حدثين أو ظاهرتين، أي هو ميل العقل البشري لرؤية علاقة بين حدثين لا صلة لهما، كأن يظن البعض أن كل من يُبتلى أو يصاب بمصيبة فهو مذنب، وان الله غاضب عليه، لأن النصوص الدينية تؤكد أن الابتلاء قد يكون رفعة للدرجات أو اختبارًا أو حتى محبة من الله. او كالربط بين كثرة الشعائر وظروف الشخص المادية، اذ يظن البعض أن من يصلي كثيرًا لا بد أن يُرزق بالمال والنجاح الدنيوي وهذا وهم، لأن الدين في حقيقته يُفرّق بين الجزاء الأخروي والابتلاء الدنيوي، او الربط بين المظهر الخارجي والأخلاق كأن يُعتقد أن من يلبس ملابس "محافظة" هو بالضرورة خلوق، أو العكس وهذا ارتباط وهمي خطير، لأن الأخلاق لا تُقاس بالمظهر، بل بالسلوك والمعاملة.
او في الربط بين الاستقرار السياسي وغياب الحريات اذ بعض تقول الأنظمة الأصولية "إما نحن أو الفوضى"، وكأن الحريات والديمقراطية تجلب الخراب وهذا ارتباط وهمي خطير لأن كثيرًا من الدول جمعت بين الحرية والاستقرار، او الربط بين الانتماء لمعارضة سياسية والخيانة حين يُتهم كل معارض بأنه "خائن للوطن"، لمجرد انتقاده للسلطة وهذا أيضا هذا وهم، لأن المعارضة جزء من التعددية السياسية ولا تعني بالضرورة العداء للدولة. او الربط بين التدخلات الأجنبية والديمقراطية حين تُبرر بعض التدخلات العسكرية على أنها "نشر للديمقراطية لكنه ارتباط وهمي لأن النتائج الفعلية قد تكون زعزعة واستغلال، لا إصلاح.
فهذه الأوهام تعزز الخرافات التي يؤمن بها الناس، هي نتاج طبيعي لآليات دماغية تطورت للبقاء، خاصة عندما يقترن الخوف بعدم اليقين، وهي استجابة معقدة للتكيف مع عالم لا يمكن التنبؤ به، وهو ما يفسر بقاءها رغم التقدم العلمي..
لقد واجه سكان العالم نتائج سيئة حين جربوا حكم الدولة الحديثة، او صعود الشعبوية، او القومية، او الاشتراكية، او الشيوعية وحتى الرأسمالية التقليدية، وعندما يواجه الناس نتيجة سلبية، فإنهم غالبًا ما يعتقدون أن شيئًا ما فعلوه سابقًا قد تسبب في تلك النتيجة. فيتجنبون تكراره لاحقًا، ليس لأنه منطقي، بل لأنه يمنحهم شعورًا زائفًا بالأمان. هذا السلوك ناتج عن الخوف، وهو نفس ما دفع البشر قديمًا إلى اتباع طقوس دينية لتفادي المصائب. فالخوف لا يزال يتحكم في سلوكنا، وإن اختلفت مظاهره من جيل إلى آخر.
ولا شك أن إحدى اهم الأدوات الأساسية للأصوليين هي الإيديولوجية الدينية. اذ إنها تستند إلى التفسير النصي للنصوص والى السلوك والشكل الذي يعبر عن الناس والمواطنين الأكثر حرمانا داخل المجتمع والى جهلهم السياسي.
وبالتالي لا يقدم الاصولي افكارا اصلاحية، لكنه يعتمد ولا يعرف غير الاستفادة من المشاعر الدينية فقط. فالاستخدام المتواصل للتقاليد، والطقوس، والاحتفالات والمناسبات لا يزال فعًالا لتحريك السكان في الشارع وإلهاب عواطفهم ليضمن تأطير المجتمع بفعالية ويخدموا أية سياسة شعبوية ذات منحى اصولي، صادرة ضد اي جهة كانت..
القيادة الأصولية تصنع التقسيم الطبقي، اي أنَّ الأصولية بقيت منظمة بشكل غير رسمي من خلال رجال الدين هؤلاء والذين غالبًا ما يتنافسون للحصول على مزيد من الأتباع، ففي الولايات المتحدة هناك اليوم اكثر من 85 مليون مسلح اصولي يحكمون، وفي اوربا بعد الحرب العالمية الثانية حكم الاصوليون على فترات متقطعة العالم من خلال الهيئات والمنظمات الدولية التي اسسوها، وفي شرقنا الأوسط بدأوا بنوع من اللامركزية، والقيادة متعددة الرؤوس، وهي الأخطر والأهم في القوة الأصولية، وهذا النوع يعد أمراً شائعاً في تاريخ الأصولية الجديدة..
والصراع الاصولي القادم بين ضفتي الأطلسي قد يجعل العالم مختلفا لما الفناه، فزعماء العالم بدأوا يتحدثون عن نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ويتحدث رئيس وزراء كندا الجديد مارك كارني والذي شغل سابقاً حاكم بنك كندا 2008 _ 2013، وحاكم بنك إنجلترا 2013 _ 2020. اننا نعيش الآن نهاية حقبة الولايات المتحدة، فالاقتصاد العالمي تغيّر جذرياً، وريادة أمريكا الاقتصادية انتهت بعد 80 عاماً من القيادة، واليوم الاقتصاد العالمي يختلف بشكل جذري عما كان عليه بالأمس. فنظام التجارة العالمية المرتكز على الولايات المتحدة والذي اعتمد عليه دول العالم منذ اكثر من 85 أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هو نظام قد انتهى، ورغم انه لم يكن مثاليا لكنه ساعد في تحقيق الرأسمالي للعالم الغربي قد انتهى والعلاقات القديمة المتمثلة في تعميق التكامل المستمر مع الولايات المتحدة قد انتهى... هذه الفترة التي استمرت 80 عاما حيث تبنت الولايات المتحدة دور القيادة الاقتصادية العالمية اذ أقيمت تحالفات قائمة على الثقة والاحترام المتبادل ودعمت الحرية والتبادل المفتوح للسلع والخدمات قد انتهت اليوم ...
هذا هو الواقع الجديد.
يتبع....