د. مهند العلام
04/04/2025
سلسلة مقالات تنظر الى سيناريوهات عدة لمستقبلنا القريب حين يحكم الاصوليون العالم اليوم.
كلمة "أصولية" في السياق اللغوي مشتقة من أَصَل، أصول، اِستِئصال اِستأصَلَ، اِستئصاليّة، إِيصال، أَصَلَة، أَصَلِيَّات، أَصِيلَةُ، أَصْلِيٌّ، أَصالَةٌ، أَصيل، أُصَلاءُ، أُصْلان، أُصول، أُصوليّ، أُصوليَّة، أصائلُ، آصَلَ، آصوال، تأصَّلَ، تأصيل، تأصيلات، مُتاَصِّل، مُتأصِّلة، مُستأصَل، مُؤصَّل.
وتدل الكلمة "أصولية" عادة على أنماط معينة من المحافظة الدينية وهي في الفكر الإسلامي تُشير إلى "علم أصول الفقه" الذي يُعنى بالقواعد والمناهج التي تُستنبط منها الأحكام الشرعية والذي يهتم بأسس استنباط الأحكام من النصوص الشرعية (القرآن، السنة، الإجماع، القياس).
وقد برز المصطلح لأول مرة في التراث الإسلامي ليعبر عن الالتزام بالمبادئ الأساسية للدين، أي "أصول الدين" و"أصول الفقه". وكان يُستخدم للإشارة إلى العلماء والفقهاء الذين يلتزمون بالقواعد التأصيلية لاجتهادهم.
في العصور الإسلامية الأولى، كان مفهوم الأصولية مرتبطًا بمدارس الفقه الإسلامي كالحنفية، المالكية، الشافعية، والحنابلة الظاهرية، حين كان لكل مذهب منهجيته في الاستدلال على الأحكام الشرعية بناءً على أصول محددة.
ومع دخول مصطلحات الخطاب الاستشراقي والغربي الى أديباتنا، أخذ مدلول "الأصولية" منحىً جديدًا، فأصبح يُستخدم لوصف الشخصيات والحركات الدينية التي تدعو إلى التمسك الحرفي بالنصوص الدينية وتطبيقها في الواقع السياسي والاجتماعي. فاطلق المصطلح على الشخصيات كمحمد عبده والأفغاني والكواكبي ومحمد رشيد رضا وغيرهم، وعلى الحركات الإصلاحية كالسلفية الإصلاحية والتي دعت إلى تجديد الفكر الإسلامي مع الانفتاح على العلوم الحديثة، وعلى التيارات كالسلفية الجهادية والتي ركزت على مقاومة الاستعمار الغربي بالعودة إلى النصوص. وعلى الحركات كحركة الإخوان المسلمين والتي جمعت بين الدعوة الدينية والعمل السياسي.
وفي ستينيات القرن الماضي تأثرت الأصولية بأفكار سيد قطب والذي دعا إلى "الحاكمية لله"، و"الدعوة إلى الثورة الشاملة"، و"رفض الأنظمة العلمانية"، و"التوحيد الحركي"، و"العزلة الشعورية"، و"الطليعة المؤمنة"، و"التصور الإسلامي الشامل"، و"الصراع بين الحق والباطل"، و"الحرية الحقيقية". والتي غذت التيارات الجهادية السلفية التي شملت جغرافية العالم الإسلامي.
إضافة الى ذلك شهدت الثورة الإيرانية 1979 ظهور أصولية اثني عشرية شيعية ذات طابع وتحوّل سياسي كبير، وتعبيرًا عن نهوض تيار ديني أصولي تم من خلاله إعادة إحياء فكر ديني شيعي أصولي، وتوظيفه في بناء نظام حكم سياسي واضح جديد، وسعى إلى تأسيس نظام حكم قائم على العقيدة الدينية، ويتمحور حول ولاية الفقيه والمرجعية الدينية وظهور الامام المهدي، مما أعاد تشكيل علاقة الدين بالسياسة في إيران والمنطقة.
ثم أصبحت "الأصولية الإسلامية" موضوعاً مركزياً في الخطاب الغربي بعد أحداث 11 سبتمبر، رغم اختلاف السياقات المحلية للحركات. فتطورت وتغيرت دلالة المصطلح حتى وصل الى الوقت المعاصر حين استخدم مصطلح "الأصولية" كترجمة للمصطلح الغربي "Fundamentalism"، والذي ارتبط بالحركات الدينية السياسية في الشرق والغرب والتي تدعو إلى التمسك الحرفي بنصوص الكتب المقدسة في السياسة والثقافة.
فأصبح مصطلح "الأصولية" ذا بعدين رئيسيين أولهما البعد الديني حين يُستخدم لوصف التيارات التي تلتزم بتفسير تقليدي للنصوص الدينية وترفض التأويلات الحداثية، والأخر البعد السياسي اذ يُطلق على الجماعات التي توظف الدين في السياسة وتسعى إلى إقامة نظم حكم يستند إلى الكتب المقدسة.
أما التطور التاريخي للأصولية المسيحية فقد نشأ كرد فعل ضد اللاهوت التحديثي والنقد الكتابي التاريخي الذي بدأ يشكك في تاريخية بعض روايات الكتاب المقدس وفي التفسير الحرفي للكتاب المقدس. وكذلك كرد فعل على التطور العلمي، خاصة بعد انتشار نظرية التطور لداروين، ففي مؤتمرات نياجرا الكتابية 1870–1890 والتي ركزت على عقائد كالانتظار المسبق للمسيح أي "فكرة عودة المسيح قبل بدء ملكوت الألف سنة".
وركزت الأصولية المسيحية على خمس عقائد أساسية وهي "عصمة الكتاب المقدس وكونه موحى به من الله." و"ألوهية المسيح وولادته العذرية". و"الفداء بدم المسيح وقيامته الجسدية". و"المعجزات كحقائق تاريخية". و"العودة الحرفية للمسيح في المستقبل".
في القرن العشرين، تطورت الأصولية المسيحية لتشمل اليمين المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة، والذي سعى إلى إدماج المبادئ الدينية في السياسة. وأصبحت الأصولية المسيحية أكثر ارتباطًا بالقضايا الاجتماعية "حروب الثقافة" مثل معارضة الإجهاض، رفض زواج المثليين، ومعارضة تدريس التطور في المدارس ونشر فكرة "التصميم الذكي" وإنكار التغير المناخي.
ثم بدأ الصعود السياسي للأصولية المسيحية البروتستانتية في منتصف القرن الماضي وكان لها تأثير قوي على الحزب الجمهوري الأمريكي عبر تحالفات مع قادة اخرين. واليوم، تشمل الأصولية المسيحية عدة طوائف، منها الإنجيليون، البروتستانت المحافظون، وبعض التيارات الكاثوليكية المتشددة.
اما جذور الأصولية الاوربية اليهودية فقد بدأت كرد فعل على التنوير اليهودي "هاسكالا" في القرن الثامن عشر، الذي دعا إلى تحديث الفكر اليهودي وإدماجه في المجتمعات الأوروبية الحديثة، وان الصهيونية هي إرادة الله" التي ستُحقق الخلاص بيد المسيح اليهودي.
وانقسمت المجتمعات اليهودية بين اليهود الأرثوذكس الذين تمسكوا بالتفسير التقليدي للتوراة والتلمود. وبين اليهود الإصلاحيون والمحافظون الذين سعوا إلى تكييف اليهودية مع الحداثة. وأصبحت الأصولية اليهودية أكثر وضوحًا في إسرائيل، حيث يوجد تأثير قوي للأحزاب الدينية المتشددة مثل شاس، يهدوت هتوراة، والصهيونية الدينية. وتلعب الأصولية اليهودية دورًا رئيسيًا في السياسات الإسرائيلية، لا سيما فيما يتعلق بمسائل الهوية اليهودية، الاستيطان في الضفة الغربية، والعلاقات مع الفلسطينيين. فبعد حرب 1967، صعدت الصهيونية الدينية وحركة جوش إيمونيم التي رأت في احتلال الأراضي "خطوة إلهية" نحو الخلاص.
في عالم اليوم، تتداخل الأصوليات الدينية مع القضايا السياسية والاجتماعية، ما يجعلها عاملًا مهمًا في العديد من الصراعات العالمية. وتحول مصطلح الأصولية من كونه تيارًا دينيًا محافظًا يعارض الحداثة إلى كونه قوة سياسية مؤثرة في العديد من الدول.
ولم يعد مصطلح "الأصولية" محصورًا في الدين، بل أصبح يستخدم للإشارة إلى أي تيار سياسي واجتماعي متشدد، فقد ارتبطت الأصولية المسيحية بالحركات السياسية المحافظة، بينما ارتبطت الأصولية اليهودية بالصهيونية الدينية، اما في السياق الإسلامي، فقد برزت الأصولية كظاهرة متعددة الأوجه، دينية سياسية، وأيديولوجية حركية، يمكن فهمها من خلال عدة أبعاد كالعودة إلى النصوص "القرآن والسنّة"، ورفض التأويلات العقلانية أو الحداثية للدين، والسعي إلى إعادة تشكيل المجال السياسي والاجتماعي وفق تصور ديني محدد.
وعلى خلاف الأصوليات اليهودية والمسيحية التي بقيت في معظم تجلياتها مرتبطة بأنظمة سياسية قومية كما في الصهيونية الدينية في إسرائيل أو اليمين الإنجيلي في أمريكا، فإن الأصولية الإسلامية تمظهرت، منذ بداياتها الحديثة، كحركات تحررية وثورية في وجه الاستعمار أو النظم القومية العلمانية، ثم تحوّلت لاحقًا إلى حركات عابرة للحدود القومية تحمل مشاريع الخلافة أو المهدوية أو الأممية،
لقد ظهرت الأصولية الإسلامية في القرن العشرين كردّ فعل على التفكك السياسي للأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية، وعلى هيمنة التأثير الغربي في السياسة والثقافة، ومع تزايد الفقر، وزيادة الأمية، شكلت الحركات الأصولية رد فعل على شعور الشعوب المسلمة بالضياع والهشاشة، مما دفعها للبحث عن هوية دينية قوية توفر بديلاً للنظم السياسية العلمانية، فتمحورت حول استعادة "النموذج الإسلامي الاول" كنظام شامل للحكم والمجتمع. وهذا ما يجعلها تختلف نوعيًا عن الأصوليات اليهودية والمسيحية، إذ لا تتجه نحو دعم سلطة قائمة أو منظومة قومية ضيقة، بل تميل في كثير من أطيافها إلى نقد الدولة القطرية نفسها، ورفض الشرعية الوضعية، والمطالبة بإعادة بناء الكيان السياسي على أسس شرعية دينية.
وبذلك، فإن الأصولية الإسلامية لا ترتبط بأفكار محافظة تريد تثبيت الأوضاع كما عند المسيحية الأمريكية، ولا بأيديولوجيا قومية توسعية كما في الصهيونية الدينية، بل غالبًا ما تظهر كحركات معارضة شاملة، تتبنى رؤية تحويلية للطبيعة السياسية والاجتماعية والدينية للواقع، ما يجعلها أكثر عرضة للتحول إلى مشاريع ثورية أو صدامية.
لكن ما يجمع الاصوليات الثلاث " الإسلامية والمسيحية واليهودية" هي فكرة عودة المسيح "المسيّا" وهي إحدى الأفكار المهدوية الجوهرية التي ظهرت في الديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية، المسيحية، والإسلام)، لكنها تختلف من دين لآخر من حيث الفكرة، والتصور، والدور، والغاية، وكيفية بناء المستقبل القريب بناءا عليها.
ففي اليهودية الاوربية يُنتظر مجيء المسيّا "המשיח – المشيح"، وهو ملك مخلّص من نسل داود، لم يأتِ بعد حسب العقيدة اليهودية. ومهمته أن يُعيد المُلك لليهود، ويقيم السلام والعدالة، ويعيد بناء الهيكل في القدس. وهنا الفكرة تحمل طابعًا قوميًا وسياسيًا أكثر من طابع روحي أو ديني صرف.
اما في المسيحية فيؤمن المسيحيون الامريكان أن يسوع المسيح هو المسيّا المنتظر Jesus Christ, the Messiah الذي تنبأت به كتب العهد القديم، ويعتقدون أن المجيء الأول تحقق في ميلاده، وأنه سيعود ثانية في آخر الزمان فيما يُعرف بـ "العودة الثانية للمسيح" the Second Coming of Christ. وعند عودته، وإنه سيحكم بالعدل، ويحاسب الأحياء والأموات، ويقيم ملكوت الله. وهنا الفكرة ذات طابع روحي–خلاصي، يركّز على الفداء والخلاص.
اما في الإسلام فيؤمن المسلمون السنة بـ عودة عيسى بن مريم النبي الرسول في آخر الزمان وهو غير معلوم متى؟ ليكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت جورا وظلما ويحكم بشريعة الإسلام.
اما عند الشيعة الإثني عشرية، فيترافق ظهوره مع ظهور الإمام المهدي المنتظر، وتكون مهمتهما مشتركة في إقامة الحق. وهنا الفكرة عندهم ذات طابع ديني عقائدي مهدوي، وتُمثّل العودة أحد مفاتيح نهاية التاريخ.
هنا فكرة عودة المسيّا تعبّر عن توق واشتياق وسعي إنساني وأممي اصولي لخلاص نهائي، وظهور المنقذ المخلص الموعود ليُنهي الظلم والفساد، ويقيم نظامًا عادلا مثاليا، في سياقات سياسية أو أيديولوجية بصورة "ابراهيمية" لإضفاء الشرعية على الحركات أو الأنظمة القائمة اليوم.
يتبع ...