الفشل وفن السقوط..

الفشل وفن السقوط.. 

د. مهند العلام 

14/01/2025

من مفاهيمنا السائدة حول تعبير كلمة "فَشَل" فانه يعني السقوط، الإِحْباط، الاستسلام، الانكسار، الانهزام، التَثْبيط، التَعَثُّر، الجُبْن، الخَوَر، الخَوْف، الخَيْبَة، الزَلَل، العَجْز، القُنوط، الهَزِيمَة، الاخْفَاقَ، الاستسلام، الاندحار، الخيبة.

وعادة ما يسعى الانسان الى تجنب الفشل في حياته، واكثر كوابيسه ان يقع فيه في حياته اليومية والاجتماعية والدينية.

وبعض الناس يُقدِم الفشل كمفهوم قد يربط بالموت أو الانتحار إذا شعر بالخزي أو الفشل في أداء واجبه.

في حين ان الفشل معلم عميق يرشدنا نحو وعي ذاتي أكبر والتحرر من دائرة التعلق، واستاذ كبير يعلمنا ويتحدانا للتخلي عن التعلق بالأشياء المادية والمعنوية، وانه مدرب عظيم ينمي عند الانسان المرونة والتناغم، وانه مرشد رائع للتوافق مع الحقائق الأعمق للوجود.

اريد في هذا المقال ان اتناول الفشل من منظور متعدد الثقافات والآراء، بما يعزز أهمية هذا الطرح وشموليته، ويسهم إسهامًا فكريا ليُشجع على التفكير النقدي في الفشل كجزء ذي صلة واسعة من التجربة والطبيعة الإنسانية.

هناك من يرى ان الفشل جانب أساسي من الرحلة البشرية، ليس لأنه نهاية الحكمة، بل بداية أخرى للحكمة، فمن خلال السقوط والنهوض مرة أخرى نكتشف إمكاناتنا الحقيقية، فالفشل يشق طريقًا نحو السلام الداخلي والوفاء.

فالإنسان الحكيم لا يتنافس مع أي احد؛ وبالتالي، لا يمكن لأحد أن يتنافس معه. أي أن المقاومة والجهد المفرط غالباً ما يؤديان إلى الفشل، في حين أن الاستسلام والقدرة على التكيف يمكن أن يحولا النكسات إلى فرص للنمو. فمقاومة الحياة تعني أصل المعاناة. والسر ليس في محاربة الحتمية، بل في التدفق معها.

الفشل ليس نهاية، بل فرصة لإعادة التوازن والانسجام مع مجرى الحياة. فعلى سبيل المثال، الحكمة كالماء الذي ينساب حول العقبات دون مقاومة، مما يشير إلى المرونة والصبر، وليس إلى الهروب أو الانسحاب التام. لكن تآكل الصخور بفعل الماء يأتي من خلال المثابرة والعيش بتناغم مع الطبيعة والابتعاد عن الصراع والمقاومة، وهو ما يسلط الضوء على قوة التكيف والاستسلام وعلاقته بالتوافق مع التدفق الطبيعي للحياة. فالفشل فرصة للتعلم، وفرصة للنمو من خلال التناغم، بل ويمكن اعتباره جزءًا لا يتجزأ من الرحلة الإنسانية نحو الحكمة،

الفشل جزء من الطبيعة البشرية لا مفر منه وكمصدر للتعلم وتطوير الفضائل، فانه يُعتبر فرصة لاختبار وتحسين الصفات الشخصية مثل الصبر والقناعة، فالإنسان له السيطرة على عقله وليس على الأحداث الخارجية، فبدلاً من الهروب منه يمكن النظر إليه كفرصة لتقوية الإرادة وإعادة صياغة الأهداف.

وهناك من يعتقد ان الفشل هو وسيلة للتخلص من التعلق والتوقعات، وهو جزء من معاناة الحياة التي تقود إلى الحكمة إذا تم التعامل معها بوعي، فهو يعكس عدم الثبات في الحياة، ويعلمنا التخلي عن التعلق بالنتائج، ويُساعد في قبول الفشل وتحويله إلى أداة للارتقاء الروحي، فهو وسيلة لإعادة النظر في خياراتنا وتحديد مسؤوليتنا تجاه الحياة.. فعندما نفشل فليس العالم الذي خذلنا، بل بسبب ارتباطنا بنتائج معينة، فالنجاحات والإخفاقات جزءًا من التجربة الإنسانية العابرة. اذ ان عدم الرضا في الحياة ينبع من التعلق والشغف، وبالتالي فإن الفشل ليس خارجيًا، بل داخليًا - متجذرًا في عدم قدرتنا على التخلي عن التوقعات.

ولا يمكن لاي انسان عاقل ان يتجنب الفشل لشغفه وهوسه وحاجته إلى التحقق والسيطرة، مع ان الانسان له الحق في العمل فقط، وليس في نتائجه كما يعتقد البعض، فالعمل يُركز على التعلم من التجربة، فعندما نفشل، فالعالم ليس هو الذي خاننا؛ بل تعلقنا بالنتائج هو الذي يسبب لنا الألم لكن يبقى الفشل بيانات قيمة لتحسين الاستراتيجيات المستقبلية.

الفشل يقود إلى تقوية الذات وإعادة بناء القيم، وما لا يقتل الانسان يقويه، كما قال شيخ المجاهدين عمر المختار، فالإسلام يدعو إلى رؤية الفشل كفرصة للتعلم والتطور، حيث تتجلى هذه الفكرة في العديد من النصوص الإسلامية والتي ترتكز على القيم الأخلاقية والروحانية.

فهو يرى الابتلاء (بما في ذلك الفشل) جزءًا من حكمة الله في اختبار الإنسان وتطويره "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". وهو فرصة للتوبة والإصلاح "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ". والى التوكل على الله والسعي باستمرار حتى بعد الفشل والذي يتطلب المثابرة والعمل دون الاستسلام "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".

الفشل أيضا هو وهم او تخيل يحجب الواقع، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) من خلال إدراك أن هوياتنا وإنجازاتنا عابرة، وعليه فالمسلم يجب تحرير نفسه من دائرة التعلق وخيبة الأمل.

كذلك تناول الامام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" الفشل كجزء من التجربة الإنسانية حين يرى أن السقوط في الخطأ أو الفشل هو وسيلة لفهم النفس وتقوية الإيمان. بينما ناقش ابن خلدون في المقدمة فكرة أن انهيار الأمم أو الأفراد ليس نهاية، بل هو جزء من دورة طبيعية يمكن أن تؤدي إلى الإصلاح والنهضة.

لكن هذا الدمج بين الروحانية والطبيعة والسلوك البشري والتي تُظهر الفشل كجزء من دورة حياة طبيعية ومتوازنة، والاستسلام للتجربة كجزء من الوجود بدلاً من السعي الدائم للسيطرة على الظروف، قد لا يكون ملائما للفهم العصري الجديد السائد بين مجتمعاتنا اليوم.

في المقابل فان الميل إلى المنهج التحليلي الفردي، حين يُعتبر الفشل عائقًا يجب التغلب عليه من خلال الجهد أو الإرادة والتركيز على الإنجاز والعمل، والتحكم بالعقل والصمود أمام الفشل كجزء من التحديات التي يجب تجاوزها لتحسين الفضائل وكمعنى خاص يختاره الإنسان كدليل على القوة الشخصية والمسؤولية الفردية تجاه النجاح أو تجاوز الفشل.

ويبقى الفشل جزءًا لا مفر منه من التجربة الإنسانية وفي مسيرة الانسان، لا ليكون نهاية او حاجزا يقف في طريق النجاح، بل كمرشد يوجه نحو تشكيل بداية جديدة بالتغيير والنمو، فمن خلاله نكتشف بعضا من انفسنا ونعيد تشكيل أهدافنا لتحقيق التوازن في حياتنا. ومن خلال التعامل الواعي مع الفشل، نتعلم قبول الحياة بتحدياتها وفرصها، ونتحرر من قيود التعلق والخيبة.