قبل ستين عاما، قدمت الولايات المتحدة نموذجا في القيادة العالمية في سبيل احتواء السلطة السوفياتية وتلك الرؤية الاستراتيجية وضعت الاساس لواقعية ومبدأية للسياسة الخارجية الأمريكية فيما بعد وعلى الرغم من الاخطاء والنكسات في فترة الحرب الباردة. الا انها كانت ناجحة بحسب النتائج التي وصلت اليها تلك الحرب.
في 1947 قدمت طروحات حول اساليب ادارة الحرب الباردة ضد النظام السوفييتي والايديولوجية الشيوعية من خلال ديمقراطية ذات مصداقية في القيادة. وان احتواء الشيوعية السوفياتية سوف يتطلب قيادة قوية اميركية ودولية على حد سواء مع الدعم العسكري، ديناميكية اقتصادية.
وهذه الرؤية الاستراتيجية استندت الى الحقائق الاساسية والقيم هي التي رسمت لسياسات هاري ترومان ودوايت آيزنهاور وكل الرؤساء الامريكيين بعدهم لجيلين.
والمفتاح التاريخي للقيادة المشتركة الفعالة هو الذي سيستعيد وسيسعى الى ايجاد ارضية مشتركة، بربط مصالح الولايات المتحدة الامريكية الخاصة مع مصالح الآخرين. فقد فهم ترومان وايزنهاور ان الدفاع عن اوروبا وامريكا من السوفيات يتطلب وجود عسكري قوي، لكنهم فهموا ايضا انه لا يمكن ضمان النجاح اذا لم يكن الاوربيون يريدون ذلك. من هنا فهم الرؤساء الاميركيون أهمية القيادة الاخلاقية والتي تعطي القوة للقيادة، من خلال الالتزام بالكرامة الانسانية واحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان والحريات المدنية وهذا مالم تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع شعوب وامم العالم الثالث والعراق بشكل خاص تحت ظل هذه الادارة.
اليوم، ونحن في بداية عهد جديد لم يسبق له مثيل من الفرص والتهديدات العالمية والتحديات الجديدة التي تتطلب رسم استراتيجية جديدة. فى ظل عالم اليوم - عالم سريع التغير التكنولوجي والاقتصادي وتدهور مصادر تامين الطاقة والمخاطر البيئية والتحديات الامنية غير المتماثلة.
في القرن الحادي والعشرين، والعولمة في جميع اشكالها من تآكل اهمية الحدود الوطنية والتي تعتبر من اكبر التحديات التي يواجهها العالم إلى جانب الانتشار النووي والاحترار العالمي. فان السياسة الوطنية الجديدة يجب ان تكون قادرة على التعامل بفعالية مع هذه الحقائق. ويجب عليها ان ترفض كل التخيلات الانعزالية من عدم المشاركة الاخرين ومن تخيلات الحكام الجدد من تحويل وتغيير العراق من خلال التطبيق الانفرادي باستخدام القوة العسكرية فقط.
لقد افتقرت ادارة الحكومات السابقة والتي جاءت مع الاحتلال إلى المبادئ السليمة واستخدمت بانتظام الخطابة الفاضلة، دون الافعال واستعاضت عن القيادة الاخلاقية، بإلقاء المحاضرات للآخرين عن الديموقراطية وبدل احترامها للقيم الديمقراطية فان تلك الحكومات المتعاقبة على حكم العراق جعلت الصورة العراقية تتضاءل امام انظار العالم من خلال السجون السرية، والتعذيب، وانتهاك الحرمات وهو ما يذكر العالم بحماقة هذه الحكومة، وخيانتها للأمانة، وعدم اكتراثها لآراء الآخرين .
إن ما يطلق عليه اليوم اعادة ترتيب العملية السياسية هي اول الخطوات نحو استراتيجية جديدة من الولايات المتحدة ومن خلال مشاركة واسعة للقيادة. ولكن هذه الخطوة وحدها ليست كافية لمعالجة المشاكل الجديدة في العراق بفعالية، فيجب أولا فهم كل تعقيدات المشكلة العراقية واعادة صياغة مفهوم الحلفاء في الحرب في العراق ويجب التساؤل عن الافتراضات القديمة، وكسر النماذج القديمة من التعامل مع الاطراف العراقية المختلفة، وتبني نهج جديد للمهام في اتجاهات متعددة لاصلاح الواقع العراقي.
فمع السنة الخامسة من غزو العراق والاطاحة بصدام حسين فى اذار عام 2003. اصبحت الفوضى تسيطر على هذا البلد وليس لدينا اليوم اي حوار على مستوى وطني، مما عطل الطاقات وشتت الاهتمام على القضايا المصيرية للبلد الذي بدا اليوم يطوف على أهواء سياسية من قبل هواة للسياسة ليس فيهم اي محترف لها بمواجهة اهم المسائل الحاسمة التي تواجه أمتنا التي ستؤثر على مستقبلنا لسنوات قادمة .... مستقبل العراق الى الأبد..
لقد تطورت هذه الحرب الى حرب متعددة الجبهات، فبعد مراحل نهب المدن وسرقة المتاحف والمكتبات والكنوز إلى عنف الغوغاء والتطهير المذهبي الاعمى والابادة البشرية للسكان المتعاطفين مع المقاومة إلى الاشكال الاخرى بحصار وتجويع وتدمير المدن اصبحت صحاري وبراري ومدن العراق ساحات القتال لتشمل مختلف الجماعات المقاومة والمتمردة، والجناءية والميليشيات القبلية والطائفية وفرق الموت، والمتعاطفين مع القاعدة في جميع انحاء الدولة.
فالعراق اليوم هو بلد ممزق ويجري تفجيره. وفيه من القوى الداخلية المدمره اكثر بكثير تلك القوى التي تريد بناؤه. وهو البلد الذي فيه قوى الانقسام والهيمنة الساحقة قد غلبت قوى التعاون والمصالحة.
والشعب العراقي في كسر متزايد وعلى طول خطوط شعبه فقد ادى العنف الاعمى والمرعب إلى نزوح اكثر من مليونين من اللاجئين تتدفقوا عبر الحدود مما سيؤدي الى زعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها. والى هجرة جماعية داخلية تقدرها بعض المصادر الاغاثية باربعة ملايين مهاجر ومن مختلف مناطق العراق.
وبينما المواطنون يشعرون بالغضب والياس فإن الحكومة لا تستطيع وعاجزة عن تحقيق الاستقرار مع الفصائل المتحاربة التي تشارك في الحرب الاهلية والواقع ان نوري المالكي وهو رئيس وزراء ما يسمى "بحكومة الوحدة الوطنية" غير راغب وغير قادر على انجاز اي شيء من فكرة معجزة المصالحة حيث يتطلب ذلك إن يتراجع العراق اولا عن حافة الهاوية ووقف استمرار الحرب الاهلية التي تعصف به! في حين ان قوات الاحتلال لازالت منشغلة حتى اليوم بقتل المدنيين العراقيين ونسف البيوت والمراكز العامة والمساجد وفي كل يوم دون وجود خطة عمل حيال وقف العنف ذلك.
ولكن هل يمكن للتاريخ إن يساعدنا قليلا للخروج من هذه المحنة التي تعصف بالعراق وتساعده وتهيئهه للاستعداد للتعافي من جديد
كتب لورانس العرب في كتابه (اعمدة الحكمة السبعة) عن القبائل (العربية) التي قاتلت ضد الاتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى, عن حلم جميع الرجال العرب، الذين يحلمون بدولتهم ليلا وفي النهار مع الغرور الذي كانوا يحملونه يقاتلون العثمانيين، ولكن الحالمون من الرجال -كما يقول- اليوم هم اخطر الناس لان حلمهم هذا سيفتح اعينهم لجعله ممكنا.
وحلمهم هذا يتمثل بخلق امة جديدة، لاستعادة النفوذ المفقود، ولاعطاء للعشرين مليون من العرب الساميين الاسس التي تبنى من وحي افكار حلم الوطنية. وحينما انتصرت بريطانيا في الحرب العالمية الاولى كان خصمنا شركات النفط البريطانية والتي كانت امتيازاتها في بلاد مابين النهرين مريبة إلى جانب السياسة الاستعمارية الفرنسية في بلاد الشام والتي حولتها إلى خراب.
واخشى - والقول للورنس - إلى إن نولي اهمية لهذه الامور اكثر من الشرف والحفاظ على الارواح البريئة ومن جعل النساء والاطفال سعداء. حيث كنا سنلقي الالاف من ابنائنا إلى النار لكي تكون الذرة والارز والنفط في بلاد ما بين النهرين لنا. لكن ومع حكمة اللنبي هزمنا الاتراك باقل الخسائر من خلال استخدامنا للمظلومين في تركيا.
العراق الذي يمتد تاريخه إلى اكثر من 3000 سنة قبل الميلاد ويحتل جزءا كبيرا من المنطقة التي تعرف باسم بلاد ما بين النهرين، والتي نشات عليها الثقافات والحضارات على مدى القرون السابقة.
في تشرين الثاني 1914 اعلنت بريطانيا العظمى الحرب على الامبراطورية العثمانية بعد إن شكل العثمانيون تحالفا مع الألمان في الحرب العالمية الاولى. وفي ذلك الوقت نزل الجيش البريطاني في الكويت وبعد ست سنوات مريرة من الحرب وخسارتها لاكثر من مائة الف قتيل واربعين مليون باون ذهب تولت بريطانيا السيطرة على حقول النفط، والتي كانت تستخدم لتزويد القوات البحرية البريطانية.
واقر البريطانيون بان كردستان كانت مكتفية ذاتيا، وانها يمكن ان تستقل لوحدها داخل العراق. وكانوا يعرفون ان في العراق أكثر من السنة والشيعة يعيشون في هذه البلاد) وفي اجزاء منفصلة) ورغم هذا فقد اوصت بريطانيا وبقوة ان السنة هم القاعدة الاهم لحكم العراق لانهم كانوا القادة التاريخيون وانه اذا حكمت الشيعة فسيصبح العراق دولة دينية والتي من شان ذلك إن يؤدي إلى عدم الاستقرار في المنطقة .
فكما نرى اليوم حقيقة أن التيار الإسلامي الشيعي المهيمن على غالبية الحكومة العراقية الحالية، ليس لديه النية للتخلى عن السلطة أو حتى المشاركة مع الاخرين في حكم العراق مما استدعى الكونغرس والادارة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني خطة بديلة عن هذه الحكومة اذا لم تستجب الى اي من ألافكار الجديدة . ففي (26 ايلول 2007 ، اقر مجلس الشيوخ الامركي خطة السيناتور بايدن بالتعديل رقم 2997 والذي يعبر عن" احساس الكونغرس عن الفدرالية في العراق والذي قال في قراره هذا قال "نحن في الاساس نهداف لان يكون للاميركيين خطة في العراق-- خطة من اجل النصر والسلام فى العراق-- وتجسد خطتنا "الذكية" ترتيب القوى الديناميكية والعرقية لسكان العراق الى بلد يفتخر باستقلاله والذي يمكن ان يرتفع ثانية مثل العنقاء من هذا الرماد من اليأس"-نص قرار الكونغرس الامريكي.
غير إن الامن والسلام لا يتحقق الا اذا كانت هنالك خطط مشتركة ترسم لعراق مسالم ومزدهر وتمثل الرغبة بذلك عن طريق الاحترام المتبادل، والأمن الحقيقي، والتطلعات المشتركة بين ابناء العراق الواحد إلى جانب ديناميكية المساهمة لكامل منطقة الشرق الاوسط والعالم.
إن التحديات التي تواجه العراقييين اليوم تتمثل اليوم بانفجار متزايد من العنف ومزيد من عدم الاستقرار في الشرق الاوسط. وبالتاكيد كان السبب الاول في انفجار هذا العنف الاعمى هو الاحتلال الامريكي للعراق وهذا الاتجاه من العنف قد يبقى وينمو لسنوات، وان الغزو وانهيار العراق اسهم بشكل كبير في تغذيته وصعوده.
كذلك فان تزايد القوة وتطور الشبكات الاجرامية فيه والفساد الاداري وقلة الكفاءات الادارية قادرة على تعطيل الاقتصاد العراقي.
كذلك اصبح النفط والسيطرة على موارد الطاقة واحدة من اسباب والتحديات التي تواجه العراق اليوم فهو نافذة للاغراء والتسلط وتقدم النزعات القومية والعنصرية والمذهبية. إلى جانب المشاكل البيئية والصحية والاوبئة والفقر، والصراعات المذهبية، والتوزيع السكاني العشوائي على امتداد الحدود الوطنية.
إن هذه الاتجاهات الحالية من التحديات والمشاكل والتي تتطلب حلولا محلية بالدرجة الاولى ثم اقليمية ودولية ستحدد بالتاكيد الواقعية الجديدة لمواكبة هذا العالم الجديد، فنحن بحاجة الى واقعية جديدة في سياستنا الفكرية والداخلية والخارجية . سياسة أخلاقية، ومبدئية تستند على هذه الواقعية التي تتفهم اهمية الحوار والدبلوماسية والتعاون المتعدد الاطراف. فنحن بحاجة الى واقعية جديدة على اساس الفهم بأن ما يجري داخل بلدنا له اثار عميقة لايظمن لاحد النفوذ بشكل مطلق، ولا السيطرة، فنحن بحاجة إلى إن نفهم كيف نحل مشاكلنا، و الى العمل مع شركائنا الاخرين في الوطن على الاحترام والثقة .
لذلك علينا قبل كل شيء إن نحدد الاولويات التالية. اولا وقبل كل شيء، انه يجب علينا اعادة بناء تحالفاتنا الداخلية والسير باتجاه حلول مشتركة للمشاكل المشتركة. ونحن بحاجة الى استعادة الاحترام والتقدير للقيم التي توحدنا, ويجب أن نعيد التزامنا بالقانون الوطني والى التعاون المتعدد الاطراف. وهذا يعني احترام كلا من نص وروح الاتفاقيات التي تؤسس اسس السلام الاجتماعي الداخلي.
ويجب ان علينا كذلك وقبل كل شيء احترام حقوق الانسان. وان نرتقي بثبات نحو البناء مع اولئك الذين يريدون بناء بلدهم ويعلمنا التاريخ أنه اذا اراد شعب الاستقرار فعليه اول كل شيء معالجة الفقر الذي هو أساس هذا القدر الكبير من العنف من خلال زيادة المساعدات والمضاعفة من المساعدات الانمائية والرعاية الصحية وخلق فرص العمل وتحفيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص وتمويل خطط البناء والعمران.
ان التحديات التي تواجهنا اليوم والتي لم يسبق لها مثيل بحاجة الى ان نتعلم من اخطاء السنوات السابقة ومن اخطاء الاحتلال بان نرى انفسنا كما هي من خلال هذه الرؤية الواقعية الجديدة ومن خلال سياسة فعالة لمواجهة التحديات التي تعصف بالعراق.