كان لاكتشاف العالم الجديد دوراً كبيراً في التأثير على قيمة الذهب والفضة داخل الدولة العثمانية ، بشكل أدت إلى التأثير على اقتصادياتها بأثر سلبي ، كما كان للحصار البرتغالي والأسباني ثم الهولندي اثر بالغ السؤ على الاوضاع الاقتصادية والتجارية في المنطقة الإسلامية .
فقد أدت عمليات الحصار التجارية إلى حرمان المسلمين من موارد مالية هائلة، كانت تعود على الخزانة العثمانية، فقد شل دور العرب المسلمين في التجارة الشرقية كذلك وحرمهم من الاستفادة من عائداتها المهمة والكثيرة .
ثم جاء الدور الفرنسي المرتبط بمعاهدة الامتيازات التجارية والاقتصادية، وأضحت المصالح المسيحية الغربية تدخل إلى الأسواق الإسلامية العثمانية والعربية، وهي محمية بتسهيلات كمركية، ومعفاة من الكثير من الضرائب والمكوس، ولا تدفع إلا ما يدفعه العثماني على الأراضي العثمانية، مما أدى إلى سيطرة فرنسا على التجارة الشرقية وأسواقها، وقد استفادت فرنسا، ومن بعدها الدول الأوربية فائدة اقتصادية كبرى من عائدات تلك التجارة إلا أن الدولة العثمانية تضررت بشكل فادح في اقتصادياتها، لأن تلك السياسة حرمت خزانتها من موارد داخلية هائلة. أدت بالتالي إلى انهيار الاقتصاد العثماني وظهر نتائجه في القرن التاسع عشر .
لقد بدأت المشكلة حين بدأ الذهب يتدفق من العالم الجديد على يد التجار الأوربيين. ولكن سرعان ما اكتشفوا أن التبادل التجاري مع الدولة العثمانية يحقق لهم أرباحاً عالية، فالتضخم النقدي الذي عانت منه الدول الأوربية نتيجة لتدفق الذهب، قد خفض من القيمة الحقيقية للذهب العثماني، وكان على التجار المحليين أن يبيعوا بضاعتهم إلى التجار الأوربيين بسعر الذهب العثماني، ويشترون البضائع الأوربية بسعر الذهب الأوربي الذي قلت قيمته في أوربا نتيجة لارتفاع الأسعار فأدى ذلك إلى ارتفاع سعر السلع على نحو متتابع مما أربك الاقتصاد العثماني التقليدي وجعله عاجزاً عن الارتقاء إلى المستوى العالمي للسوق، خصوصاً، وأن اعتماداته كانت مقتصرة على المواد الأولية، وعدد محدود من المنتجات ذات الطابع الحرفي، فأصيبت الميزانية بعجز دائم وكبير [1].
ساهم في تعميقه واستمراره ارتفاع تكاليف حروب الدولة في صراعها الطويل مع مختلف القوى الأوربية المسيحية خاصة روسيا والنمسا وفرنسا، فضلاً عن الحروب العثمانية – الفارسية التي كانت مستمرة طول الفترة، والتي كانت فيها المنطقة الإسلامية تشهد حصاراً بحرياً تجارياً على مواردها وتجارتها. وكان للتحالف البرتغالي الفارسي دوراً في إضعاف المقاومة العثمانية. فأضعف ذلك الكثير من القدرات الطاقات الاقتصادية التي كان المسلمون بحاجة ماسة إليها، لمواجهة التحديات الغربية[2] .
أما بالنسبة لقيمة الذهب والفضة داخل الدولة العثمانية ، فكانت أدنى مما هي عليه في دول غرب أوربا ، وبذلك أصبحت عملية تصدير العملة الفضية إليها من الأمور المربحة جداً بالنسبة للتجار الأوربيين الذين كانوا يستبدلونها بالذهب العثماني، فأدى تراكم الفضة فيها إلى انخفاض قيمة العملة الفضية العثمانية، وانعكس ذلك على ارتفاع أسعار السلع إلى حد كبير، على الرغم من الإجراءات التي اتخذتها الدولة لتعديل قيمة العملة الفضية، إلا أن تلك المحاولات لم
تكن ذات فائدة اقتصادية حين قامت الدولة العثمانية بإصدار وحدة نقدية جديدة وهي( البارة ) للقضاء على التضخم النقدي وغلاء الأسعار ، كما فشلت محاولة أخرى لإصدار عملة جديدة هي ( القرش ). وزاد على ذلك نقص في وأرادت الضرائب التي كانت تفرض على بضائع الشرق الأقصى المارة في الأراضي العثمانية بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح ، حيث أصبحت تصدر مباشرة إلى أوربا ، وأحياناً يعاد تصديرها من هناك إلى الدولة العثمانية [3].
فقد سيطر التجار الأوربيون على حركة التجارة والاقتصاد العثماني الداخلي، لأن البضائع الأوربية أخذت في ظل التدهور الاقتصادي العثماني، تنافس البضائع العثمانية في الجودة والأسعار، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الطلب على السلع العثمانية، وزيادة الطلب على البضائع الأوربية، وهذا بدوره أدى إلى كساد الصناعة العثمانية ، وبالتالي أدى إلى كساد الأسواق العثمانية، وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى أن كثير من التجار الأوربيون كانوا يمارسون تجارتهم بأنفسهم في الولايات العثمانية[4] .
وكان من اوجه تلك السيطرة التي تمتع بها التجار الأوربيون على الاقتصاد الداخلي العثماني، هو سيطرة الوكلاء للتجار الغربيين في الأراضي العثمانية ، ولم يكن هؤلاء سوى المواطنين العثمانيين ( المسيحيين ) الذين أعطوا ولائهم للبابا وكنيسته، فقد تحولت عبر ثقافة أبنائها المحصلة عبر النشاط الإرسالي التبشيري إلى ( أقليات ) في نظر الدول الأوربية – كما سبق الاشارة إليه – وأفرزت في ذات الوقت الفئات المؤهلة والمستعدة للعمل في خدمة القنصليات الأوربية، وعمليات التبادل التجارية الأوربية الناشطة في الأسواق العثمانية من جهة ، والبيوتات المالية الأوربية الكبرى من جهة أخرى. فقد كان في سوريا معظم هؤلاء الوكلاء من المسيحيين في المناطق الساحلية ، وبخاصة الملكانيون بالإضافة إلى الأرمن في حلب ، والموارنة في لبنان ، والكاثوليك الجدد في لبنان وفي الشام في حلب وفي العراق في الموصل وبغداد [5].
غير انه في القرن الثامن عشر كانت طبيعة التجارة بين الشرق الأدنى وأوربا كانت قد اخذت بالتغيير، فجاليات التجارة الأوربية في المدن العثمانية كانت تتراجع بسبب صعوبة التجارة في المناطق غير الآمنة، وعدم قدرتها على تحقيق أرباح أوفر من تلك التي في بلدان أخرى ، وهكذا أخذت التجارة تنتقل إلى أيدي المسيحيين واليهود الشرقيين بفضل الحماية القنصلية لهم ، وبمعرفتهم اللغات والأساليب التجارية الأوربية . وبذلك تركزت في هذه الفترة رؤوس الأموال بيد الطوائف المسيحية وتمكنت من أن تحوز على مكانة تجارية مرموقة بفضل إقامتها علاقات تجارية مع الدول الأوربية[6] .
وتمكن المسيحيون واليهود الناطقين بالعربية من إقامة شبكة تجارية تربط مدنهم بالساحل، فقد ربطت مدينتي دمشق وحلب بمدن الساحل ، وبنوا على غرار اليونان والأرمن شبكة تجارية تربط مدنهم بمدن الإسكندرية وليفورنو ومرسيليا. فنشأ عن ذلك فئة جديدة من التجار على معرفة بالحياة الأوربية وكانت أول فئة على معرفة مباشرة بالحياة الأوربية، وكانت أول فئة في الشرق الاسلامي قد أتقنت الأساليب الحديثة للتجارة والشؤون المالية[7].
وهكذا كانت الطوائف المسيحية تزداد ثراءً ونفوذاً وثقافة طوال القرن الثامن عشر، فارتفع مع هذا الغنى مستواهم الثقافي واشتد شعورهم الطائفي بالظهور. بينما حرم المسلمين من الموارد المالية، والتي كانت تعود لهم. فقد سيطر الأوربيون على مفاصل الاقتصاد العثماني الداخلي، وعلى عناصره الأساسية، وحركته في الأسواق والبضائع والأشخاص حتى أصبحت الدولة العثمانية عاجزة عن إبداء حركة إزاء هذا الاجتياح الأوربي الديني والاقتصادي. مما ادى إلى تفكيك القوى الاجتماعية والاقتصادية التي يتكون منها المجتمع الإسلامي العثماني[8].
فكانت( سياسة الفصل ) أولى خطوات السياسة التبشيرية المسيحية لتفكيك العناصر العثمانية وقد أولى لها التبشير عنايته الفائقة ، حيث جعلت تلك السياسة منذ البداية ( الأقليات المسيحية ) هدفا لها عبر الحماية التي حولت المواطنين العثمانيين المسيحيين من( مستأمنين – أو مستذمين ) إلى( أقليات ) مسيحية بطريقة استهدفت فيها الامتيازات ضبط الخصوصيات المذهبية في إطارتوافق مع حاجيات التوسع الأوربي , والتي ابتدأت تأخذ أشكالاً قانونية في علاقتها مع الباب العالي[9] .
ولم يكن هذا التحول أو ( الانفصال ) مجرد تغيير للمذهب الديني بالانفصال عن الكنيسة الشرقية، بل هو انفصال كامل عن المجتمع العثماني برمته في صيغة من التغيرات الدينية والتكوين المذهبي، الذي يمنح ارتباطاً روحياً وثقافياً جديداً ينشأ في ظل التبشير، حيث ربط بين كون المذهب الديني الجديد ، أن له لغة وثقافة تعبر عنه، ومثلتها المدارس التي أقامتها المبشرون في الدولة العثمانية ، والتي تطورت بشكل ملموس وعميق في بدايات القرن التاسع عشر، والتي كانت قد أولت اللغة اللاتينية والإيطالية والفرنسية عنايتها، وانتشرت هذه اللغات مع مجيء الإرساليات التبشيرية، ومثلت وجهاً مهماً من أوجه نشاطاتها في الوسط المسيحي الشرقي. وأصبحت تلك اللغات الأوربية الهوية الثقافية والفكرية لطائفة الكاثوليك ( الشرقية ) التي كانت نابعة من التطورات التي رافقت اعتناق الكثلكة [10].
لذلك حاول الغرب المسيحي ، إنهاء حالة التعايش الإسلامي المسيحي الشرقي، الذي تظلله الشريعة الإسلامية وتسمح به، عبر عمليات التبشير المرتبطة بالامتيازات ولقد عزز الغرب المسيحي هذا التغيير بإيجاد مصالح مادية مرتبطة به تعمل إلى جانب المفاهيم التي أوجدها التبشير الكاثوليكي ، وذلك لخلق إشكالية مادية تسند جانب التغيير وتعمقه وتجذره في المجتمع ، لتأكيد عملية الفصل عن المجتمع العثماني .
ونتيجة لتلك التغييرات التي نشأت على الطوائف المسيحية، اصبحت تلك الطوائف تعبر عن شخصية ذاتية خالصة، وفي ظل تلك التطورات، انفصلت بالكامل عن الدولة العثمانية دينياً واجتماعياً واقتصادياً، وإن كانت تشكل جزءً من تكوينه العضوي. وأصبحت علاقات الأقليات المسيحية بالدولة العثمانية هامشية، لأنها ارتبطت بمصالحها الحيوية مباشرة بالسفارات والقنصليات الأجنبية, الأمر الذي أضعف سلطة الدولة على مواطنيها، وشل قدرة الدولة على رعاياها.
ونتيجة للتدهور الذي حصل في المجتمع العثماني انذاك فقد ازدادت ظاهرة الصراع بين الولاة العثمانيين والزعماء المحليين، وبين قادة العرب وولاة الدولة، وبات النفوذ العثماني لا يتعدى المدن الكبرى، وكانت سلطة الدوله تاتي من خلال الزعماء المحليين أو المشايخ أو المفتين والائمة أو رؤساء الطوائف الذين كانت الفرمانات السلطانية والأوامر العليا تطلب منهم مساعدة الولاة ورجال الإدارة، حتى وصل الامر انه لم يبق ما يربط الدولة العثمانية في الأستانة بولاياتها العربية إلا الرابطة الروحية والخراج[11].
ان التبشير والمنفعة الاقتصادية قد ارتباطاً مع بعضهما وسيطراً على توجهات السياسة الأوربية الحديثة ودفعا باتجاه الظاهرة الاستعمارية التقليدية من جانب الدول الكاثوليكية ، الى جانب ظهور البروتستانتية والذي اصبح لها تأثيراً واضحاً حيث دفعت الروح الرأسمالية لدى الفرد الأوربي ووجهت سعيه لزيادة وتراكم رأسماله والذي ادى الى زيادة النمو الاقتصادي, وكانت إنكلترا أول الدول التي تفجرت فيها هذه الروح للاندفاع نحو المنافسة للدول الأوربية الكاثوليكية للسيطرة على مناطق النفوذ والثروة في العالم[12].
لقد تركز هذا النشاط الإرسالي التبشيري في هذه المرحلة على تكريس المصالح الغربية الأوربية بمظهرها ( الديني – المسيحي ) داخل الأراضي الإسلامية، والتي تمثلت بإقامة الأديرة والمدارس والمعاهد الدينية والثقافية وكذلك إنشاء الكنائس، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الكاثوليك، وتلبية لحاجيات الطوائف المنبثقة عن النشاط الإرسالي. وكذلك توافد أعداد كبيرة من المبشرين من مختلف الإرساليات والمذاهب الدينية لفرض الوعظ الإنجيلي المسيحية، بهدف التعبئة للمسيحيين المرتبطين بهم ولكي يشكل وجود هؤلاء المبشرين دعما وتنمية للمصالح الغربية الدينية، والتي تضيف إلى المصالح الغربية أبعاداً سياسية واقتصادية وتشكل عباءً واضحاً على الدولة العثمانية في المنطقة العربية الإسلامية[13].
فمع استمرار استقبال المنطقة العربية الإسلامية المد التبشيري الكاثوليكي الإيطالي والفرنسي حيث كان يفد إلى المنطقة الكثير من المبشرين اليسوعيين الذين تواجدوا في منطقة بلاد الشام ومصر، كذلك وفي نفس الفترة كان يعمل إلى جانبهم المبشرين الكبوشيين في بلاد الشام والعراق ، كما كان المبشرون الكرمليون مستمرين على نشاطاتهم في العراق وبلاد فارس، وبلاد الشام مع بعض المعوقات[14]
غادر المبشرون الكبوشيون ولاية الموصل للعمل في ماردين وديار بكر للعمل هناك للتأثير على القيادات الدينية للسريان الأرثوذكس والكلدان لاعتناق الكثلكة، الأمر الذي أدى بالبابا إلى إرسال المبشرون الدومنيكان للعمل التبشيري في ولاية الموصل، التي كانت فيها أعداد كبيرة من السريان الأرثوذكس، والتي ركزت نشاطاتها للعمل بينهم. وقد كانوا إيطاليين واستمروا بالعمل خلال القرن التاسع عشر[15].
وفي إطار التنافس البريطاني – الفرنسي للسيطرة على الطرق البرية المؤدية للهند ، لجأت فرنسا إلى احتلال مصر سنة 1798 كوسيلة لسد المنافذ على المصالح التجارية البريطانية في الخليج العربي، واعتبرت بريطانيا هذا العمل تهديداًَ لمصالحها في المنطقة إلا أن النفوذ الفرنسي هبط في الولايات العثمانية لقيام فرنسا بهذه الخطوة التي كانت موجهة كذلك للدولة العثمانية، مما أدى إلى هبوط المد التبشيري الكاثوليكي، حيث قامت الدولة العثمانية، بإغلاق لإرساليات الكاثوليكية ومنعها من مزاولة نشاطاتها .
واستمر هبوط النفوذ الفرنسي حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وكان النشاط التبشيري الفرنسي قد توقف بحكم عدم وجود الحماية الفرنسية لمؤسساته ورجاله، كذلك واجه الكاثوليك على الأراضي العثمانية الكثير من المشكلات مع طائفة الأرثوذكس والسلطات العثمانية مما أدى إلى تحديد نشاطاتهم.
فقد قامت الدولة العثمانية بطرد الأرمن الكاثوليك من الأستانة، واتهمتهم بالتجسس لصالح فرنسا، وقامت بمضايقتهم وتشديد الرقابة عليهم، إثر حادث غرق الأسطول التركي ( نافاران ) وقيام فرنسا بتشجيع اليونانيين على الاستقلال عن الدولة العثمانية[16] .
أدى هذا الأمر إلى اعتراف السلطات العثمانية ، بأن البابا هو الرئيس الأعلى لتلك الطوائف من الأرمن والسريان وغيرهم من الذين انضموا إلى كنيسة روما البابوية، وكان لهم زعامتهم الدينية والكهنوتية الخاصة بهم، فضلاً عن أنهم استحوذوا على بعض الكنائس والأديرة التي أصبحت ملكاً لهم[17] .
لذا كانت الحاجة ماسة إلى تجديد النشاطات الإرسالية التبشيرية بما يعمل على تحقيق هذه الأهداف ، فكان التحضير لرحلة استطلاعية إلى الشرق قام بها المبشر ريللو Ryllo والمبشر ريكادونا Riccadona لدراسة أفضل السبل لعودة اليسوعيين. وحمل المبشر ريللو إلى روما مقترحات لعمل الإرساليات في الشرق.
في ضوء تلك المقترحات حطت بعثة تبشيرية يسوعية عام 1831 تتكون من ثلاثة مبشرين ريكادونا وبلانشية الفرنسي وهانز الألماني.
عكف اليسوعيون منذ وصولهم على ممارسة التعليم وتأسيس المدارس، وأستقروا في غزير وما لبث نشاطهم، أن امتد وتوسع وبد التعليم ينتظم، فأوجدوا عدة مدارس أخرى. فبعد عودة اليسوعيين بسنتين أعادوا افتتاح اثنتين من مؤسساتهم السابقة في جبل لبنان، ثم الحق فيما بعد مدرسة بكل واحدة منها، وقد أنشؤوا مدرسة في بكفيا عام 1833 وكذلك مدرسة في بيروت عام 1839 وفي غزير من كسروان أقاموا مدرسة عام 1843 وفي زحلة عام 1844. وحين أنشأ اليسوعيين في عام 1843 مدرسة للتعليم الثانوي في غزير[18] .
وقد روجوا في هذه المطبعة التبشيرية الكاثوليكي والثقافة الغربية ، وطبعوا كتب المستشرقين ومن المسيحيين العرب الذين التصقوا بالتبشير كإبراهيم الأحدب وناصيف اليازجي وجبرائيل القرداحي . كما أقاموا دوراً للنشر مثل الكلاراندون برس التي طبعت كتاب الملل والنحل للشهرستاني ومكتبة بوسيامج بباريس لطبع ترجمة ( تاريخ ابن الراهب القبطي ) باللاتينية للمبشر شيخو اليسوعي .
كما أقاموا المكتبة الشرقية عام 1863 وقد تكونت نواتها في غزير، ونقلت إلى جامعة القديس يوسف في بيروت والتي حوت على ثلاثين ألف كتاب و2058 مخطوط شرقيا.
ثم وسعوا مجال نشاطهم التبشيري في المناطق المجاورة إلى المدى الذي أعانتهم عليه مواردهم المالية فشمل نشاطهم مراكز أبعد ففتحوا لهم إرسالية ومدرسة في دمشق عام 1872 وأخرى في حلب عام 1873.
ولم تتوقف هذه النشاطات على اليسوعيين ، فقد قام اللعازريون حين عودتهم في نفس الفترة، بافتتاح كليتهم في عنيطورة وأنشؤوا مدرسة أخرى في دمشق.
ولم تكن هذه البعثات الوحيدة إلى المنطقة. ففي عام 1832 أسس غريفوار السادس عشر بعثة بابوية في بلاد ما بين النهرين وكردستان وأرمينيا الصغرى، وألحقها بعد سنتين ببعثة إلى اليونان وتركيا، وفي عام 1839 بعث بثالثة إلى مصر والجزيرة العربية[19].
أما المبشرون الدومنيكان الذين جاءوا إلى العراق بناء على مقترحات بعثة ركادونا البابوية عام 1840 ، والذين كانوا من الإقليم الإيطالي ، فقد عملوا على إنشاء عدد من المدارس الدينية في بداية الأمر ألحقوها بمقر إرساليتهم التبشيرية في ولاية الموصل ، إلا أنه توسع نشاطهم بشكل ملحوظ بعد منتصف القرن التاسع عشر ، على ضوء التحديات التي مثلها التبشير البروتستانتي فجلبوا مطبعة إلى الموصل عام 1856 كما قاموا بطبع الكتب التي تعمل على نشر المذهب الكاثوليكي والثقافة الغربية كما قاموا بإنشاء معهد ديني للدراسات العليا لتخريج القيادات الدينية الكاثوليكية الوطنية في إطار التبشير. وقد جاء الدومنيكان إلى العراق لتلبية حاجة البعثات لدى النساطرة واليعاقبة في تلك البلاد.
وفي عام 1841 وصل الكبوشيين الأسبان إلى ديار بكر وأقاموا عام 1850 في أورفا وماردين بين السوريين الأرمن والأرثوذكس ، ثم وصل اليسوعيين إلى القاهرة عام 1879 الافتتاح حلقة دراسية صغيرة للأقباط ، وفي عام 1881 افتتحت الكبوشيون في القسطنطينية حلقة دراسية لجميع الفرق . كما افتتح الآباء البيض في القدس عام 1882 حلقة دراسية للأكليروس الملكي . وتأسست في روما عام 1883 حلقة دراسية للأرمن وأخرى للموارنة عام 1891[20].
وقد أسست إرسالية ( راهبات المحبة ) ومنظمات تبشيرية أخرى مدارس للبنات والبنين في بيروت وبعلبك ودمشق وفي مناطق أخرى من جبل لبنان .ما أنشأت راهبات القديس يوسف التي مقرها في مرسيليا في عام 1848 مدارس ومياتم في بيروت وصيدا وصور وغيرها من المدن السورية واللبنانية .
كما أنشأت ( راهبات الناصرة ) من ليون في فرنسا مدرسة في بيروت عام 1873 وعدد من المدارس في مناطق أخرى.وقام المبشرون الدومنيكان بإصدار الدوريات والنشرات الفصلية والشهرية التي تعمل على نشر الكاثوليكية والثقافة الفكرية والأدبية للغرب مثل ( إكليل الورد ) التي كانت مكرسة لأغراض التبشير[21] .
هذا التوسع الهائل للبعثات، وسط الأقليات الدينية بشكل خاص كان في ظل القوى الأوربية العسكري والمعنوي. وكان سمة أساسية من سمات العمل التبشيري في العصر الحديث. وقد كان ملازما للرغبة الاستعمارية في الاحتلال والتجزئة ، أو انه قد مهد لها في بعض الأحيان ، فنجح في تحقيق المشروع الاستعماري[22].
لذلك حرصت فرنسا في هذه الفترة بعد إقامة الكيانات الطائفية الجديدة من الكاثوليك على تعزيز هذه الكيانات وتغذيتها وسد حاجياتها، عن طريق ربطها بمؤسساتها الثقافية والدبلوماسية، ومن هنا جاء نشاط المبشرين الفرنسيين على إقامة المدارس والمعاهد والجامعات، ولم يكن هذا النشاط مقتصراً على العراق وبلاد الشام، بل تعداها إلى الولايات العثمانية التركية، حتى بلغ عدد المدارس التي أقامتها فرنسا هناك خمس مائة مدرسة. وكانت عدد التلاميذ الذين تخرجهم المدارس الفرنسية في سوريا أكثر من ثلاثين ألفاً.
وقد كان لهذه النشاطات دوراً فعالاً وكبيراً في نشر الثقافة الفرنسية بين الأوساط المسيحية الكاثوليكية بنحو خاص كجزء من المكونات الطائفية للكاثوليك حيث انتشرت، مع بداية النشاط الكاثوليكي في القرن التاسع عشر، اللغات الإيطالية واللاتينية والفرنسية، وكان للفرنسية دورها الثقافي على نحو خاص ، أما اللاتينية، فقد أصبحت لغة الثقافة والعقيدة لدى الأوساط المسيحية الكاثوليكية إلى جانب لغاتها المحلية والطائفية الخاصة. والتي قامت المؤسسات الثقافية للتبشير بإحياء تراثها وتنمية دراستها، وطبع الكثير من الكتب والنشرات بها والتي كانت تمثل اللغتين السريانية والكلدانية
لقد بذل المبشرون الكاثوليك جهود من أجل تنمية تلك اللغات في إطار الطائفة والمذهب من الناحية الثقافية والدينية، في محاولة إبعادهم عن اللغة العربية وحتى التركية خاصة وأن تلك اللغات، كانت لغات الدين والعبادة[23].
وقد كان للمدارس التي أقامها المبشرون دوراً كبيراً في بث الثقافة والنفوذ الفرنسيين في الأوساط الإسلامية والمسيحية بشكل عام في كل من تركيا والعراق وبلاد الشام، والتي كانت فرنسا توليها عنايتها على نحو خاص, فقد كانت مناهج تلك المدارس تركز أولاً على تدريس اللغات الأجنبية الفرنسية والإيطالية واللاتينية كما كانت تدرس إلى جانبها اللغة العربية ، وكانت مواد الدراسة فيها طافحة بتعريف فرنسا وتاريخها وتلقين التلاميذ لمحبة فرنسا ومدنها وحضارتها ، الأمر الذي سبب انتشار لغتها وثقافتها ومحبتها حتى في القرى المهجورة .
كما قام المبشرون ومن أجل تأكيد الخصائص الطائفية وتعميقها بإصدار الكتب والنشرات الثقافية في الولايات العربية باللغات الفرنسية والعربية والسريانية والكلدانية. وقد كان دأب هذه النشرات التأكيد على المذهب الكاثوليكي وربط المسيحيين به ، فإنها كذلك تؤكد على تقديم المادة الثقافية التي تؤكد على ثقافة الغرب المسيحي والثقافة الفرنسية مثل ( الوردية المقدسة ) التي كان يصدرها المبشرون الدومنيكان في أوائل القرن العشرين[24] .
For more question or explanation stay with the web site, www.nasr-i.org
Or call: Info@nasr-i.org
Copyright © 2006 . All rights reserved to N A S R , Nothing in this publication may be reproduced without the permission of the publisher.
[2] عبد العزيز الشناوي , أوربا في مطلع العصور الحديثة , ج/1 ، دار المعارف ، مصر – 1969 , ص 75.
[3] عبد العزيز الشناوي, مصدر سابق,ص 86.
[5] دي فوسيل , الحياة في العراق , ترجمة أكرم فاضل ، بغداد 1976, ص 59.
[6] ٍروفائيل بابو إسحاق , مصدر سابق , ص66.
[7] زكي صالح ,مصدر سابق, ص 127.
[8] علي محمد الصلابي, مصدر سابق, ص 192.
[9] عمر فروخ , مصدر سابق, ص 254.
[11] ساطع الحصري , البلاد العربية والدولة العثمانية ، معهد الدراسات العربية العالية 1957 ص82.
[12]- Widow Max , The protestant Ethic and the Spirit Capitalism, London , 1976, P155 .
[13] البرت حوراني, مصدر سابق, ص 188.
[14] طلال عتريسي , مصدر سابق, ص 86.
[15] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة , مصدر سابق, ص 122.
[16] محمد كمال الديسوقي, مصدر سابق , ص 278.
[17] محمد كمال الديسوقي, مصدر سابق, ص 221.
[19] خليل صابات , مصدر سابق , ص ص 120-135.
[20] خليل صابات , مصدر سابق , ص ص 120-135.
[21] عبد الأحد جرجي اليسوعي, مصدر سابق ,ص 158.
[22] طلال عتريسي, مصدر سابق ,ص187.
[23] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة, مصدر سابق , ص230.