سياسة أمريكا لتغيير الأنظمة لها حدود
ترجمة: شيرين حامد فهمي
"فورين آفيرز" الأمريكية في (يوليو/ أغسطس 2005)
لا تزال الولايات المتحدة حتى الآن تعمل في اتجاه استخدام وسيلة "تغيير النظام" لحل مشكلاتها مع كل من إيران وكوريا الشمالية، لكنها لا تستطيع إنزال هذه الإستراتيجية على أرض الواقع بسهولة كما حدث مع الحالة العراقية؛ لأن التعامل مع الدولتين يحتاج إلى رؤية أكثر اتساعا من مجرد "تغيير النظام"، تعتمد على دبلوماسية اللين والترويض واستلهام الدروس من سياسة الاحتواء المزدوج التي انتهجتها الإدارات الأمريكية في فترة الحرب الباردة تجاه الاتحاد السوفيتي.
هذه هي خلاصة الكتاب الذي صدر مؤخرا تحت عنوان "الفرصة.. اللحظة الأمريكية لتغيير مسار التاريخ" للمحلل الأمريكي المعروف ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية السابق "ريتشارد هاس"، والذي أوجزه في مقال له نشر بمجلة "فورين آفيرز" الأمريكية في عددها (يوليو/ أغسطس 2005)، تحت اسم "تغيير النظام وحدوده"؛ حيث يستعرض مخاطر الدولتين على المصالح الأمريكية والخيارات الأمريكية المطروحة لمواجهتها.
ويبدأ "هاس" بالقول: إن إعلان كوريا الشمالية عن تملكها لأسلحة نووية -بما يدل إما على وجود البعض منها فعليا أو وجود المواد اللازمة لتصنيعها- يشكل تحديا ليس فقط بسبب الترسانة النووية الكورية، ولكن لإمكانية قيام اليابان وكوريا الجنوبية بالأمر نفسه، وهو ما يهدد أمن المنطقة واستقرارها، فضلا عن المخاوف من قيام "بيونج يانج" ببيع هذه الأسلحة النووية إلى أطراف أخرى خارج المنطقة.
ولا تقل إيران -الأقل تقدما- في المجال النووي خطورة؛ لأن ما قامت به من جهود متراكمة لتطوير التكنولوجيا النووية وإخفاء برامجها النووية منذ عهد الشاه وحتى الآن فاق كل توقع.
تغيير النظام أم احتواؤه؟
وردا على تلك التهديدات، داوم الرئيس الأمريكي "بوش" على إعلان "تغيير النظام" كأفضل حل مقارنة بالحلول الأخرى؛ لأنه أقل خطرا من معايشة هذين النظامين النوويين الجديدين، وهو أيضا أفضل من الحل الدبلوماسي، لكنه يواجه إشكالية واحدة، هي أن نتائجه ليست سريعة بالقدر الكافي.
تعود سياسة "تغيير النظام" إلى ما قبل الحرب الباردة حينما واجه الرئيس "روزفلت" ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية ليس فقط بهزيمتهما العسكرية، وإنما مواصلة المعركة معهما حتى تعلن الحكومتان –الألمانية واليابانية– هزيمتهما وسقوطهما ليتم استبدال ما يروق لإدارة "روزفلت" بهما. وهو أمر أخذ أعواما طويلة من الاحتلال العسكري إلى التدخل في الشئون السياسية الداخلية، وهو ما يسمى اليوم بسياسة "بناء الدول".
وباندلاع الحرب الباردة عجزت الإدارة الأمريكية عن انتهاج نفس السياسة؛ فقد ظهر عدو عالمي جديد هو الاتحاد السوفيتي صاحب الترسانة النووية الضخمة، ولم تعد سياسة "تغيير النظام" تتناسب مع خطورة الموقف. ولذا، ظهرت سياسة "الاحتواء المزدوج" لتكون حلا وسطا تستطيع من خلاله الولايات المتحدة هزيمة ذلك العدو بأقل الأضرار الممكنة عبر مقاومة جميع المحاولات السوفيتية لبسط الهيمنة، كما أنها استهدفت أيضا -وبطريقة غير معلنة- "تغيير النظام".
وقد حققت هذه السياسة أهدافها بأسلوب متدرج استمر أكثر من 40 عاما. وهي سياسة لا نستطيع تصنيفها في إطار "تغيير النظام" regime change، وإنما "تطوير النظام" regime evolution. فبينما يعتمد الأول -كما يحلو لإدارة "بوش" أن تستخدم هذا المصطلح- على الأسلوب المباشر السريع العنيف الذي يتضمن استخدام القوة العسكرية أو العمليات السرية أو عزل الحكومات المعنية سياسيا واقتصاديا، يعتمد الآخر على أسلوب غير مباشر ومتدرج يأخذ بأدوات السياسة الخارجية بدلا من الأدوات العسكرية.
إن مؤيدي "تغيير النظام" داخل إدارة "بوش" الحالية يرفضون معظم -إن لم يكن كل- التعاملات مع الحكومات "المعادية"، ومن ثم فهم يحقرون من شأن الدبلوماسية، وهو ما رأيناه واضحا في السياسة الأمريكية تجاه كوبا على مدى 40 عاما، وما نراه الآن تجاه كوريا الشمالية وإيران.
ويختلف ذلك جذريا عن تلك السياسة التي كانت تؤمن بإيجاد دبلوماسية نشطة مع العدو السوفيتي ما دام سيصب ذلك في المصالح الأمريكية؛ فقد قبل المسئولون الأمريكيون الدخول في اتفاقيات اقتصادية وأمنية مع السوفيت، وهو ما أبعد شبح المواجهة النووية وحدّ من التنافس العسكري بين الدولتين. بكلمات أخرى، اقتنعت الإدارات الأمريكية بسياسة "الاحتواء" أكثر من سياسة "تغيير النظام"، وآمنت بضرورة التأثير على السياسة الخارجية السوفيتية أكثر من التأثير على السياسة الداخلية السوفيتية.
وفي النهاية حدث التغيير المرجو في النظام السوفيتي بطريقة سلمية بغض النظر عن أسباب هذا التغيير التي ما تزال محل تناطح الباحثين. ومن ثم يمكن القول: إن الصراع مع السوفيت قد انتهى مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية كما يريد الأمريكيون، إلا أنه لم يكن باستخدام الحرب الشاملة.
خيارات متعددة
تثبت الخبرات الأمريكية السابقة أن إزالة الأنظمة أمر صعب؛ فقد بقي الاتحاد السوفيتي قائما ما يقارب ثلاثة أرباع قرن، وعجزت الإدارة الأمريكية عن اعتقال "مانويل نوريجا" في بنما عام 1989، وعن عزل "فارح عيديد" في الصومال عام 1993، وما زال "فيديل كاسترو" موجودا بهافانا حتى اليوم.
ويؤكد عراق ما بعد "صدام" على أنه إذا كان إزالة الجبابرة صعبا، فإن استبدال حكام آخرين بهم أصعب؛ لأن إسقاط "صدام حسين" كان أمرا بسيطا إذا ما قارناه بإرساء حكومة عراقية جديدة تستطيع تأمين العراقيين وحمايتهم؛ حيث تضافرت عوامل "القومية" و"العولمة" و"المقاومة" لتجعل من الاحتلال واستمراره خسائر فادحة ومتواصلة للأمريكيين الذين لن يكونوا أحسن حظا في غير العراق.
ولا يعد الأمل موجودا في إمكانية التغيير في كوريا الشمالية وإيران من الداخل؛ إذ لا يتعرض نظامهما لأية تغيرات داخلية؛ فالنظام الكوري مصمم على إبقاء سياسته النووية المدمرة مع استبداد دولته الغاشمة، والنظام الإيراني ما زال مُصرا على قادته الدينيين. وحتى إذا فرضنا أن النظامين سيتغيران من الداخل، فإنه سيكون تغيرا بطيئا لا يسمح بإزاحة المخاطر النووية بالسرعة التي تأملها الإدارة الأمريكية.
إذن، هل يصير الاحتلال هو الوسيلة الوحيدة الباقية؟ سيكون النصر حليفا لأمريكا إذا ما أعلنت عليهما الحرب، لكنه سيكون نصرا مكبلا بالخسائر لأمريكا ولبقية العالم؛ فقد تستخدم كوريا الشمالية النووي ضد كوريا الجنوبية حليفة أمريكا، وهو ما سينجم عنه أضرار جسيمة على حياة الكوريين الجنوبيين والعسكريين الأمريكيين (30 ألفا) المتمركزين حاليا في كوريا الجنوبية. وأما احتلال إيران التي يزيد عدد سكانها ثلاثة أضعاف عن سكان العراق، فيعني مضاعفة الخسائر الأمريكية ثلاثة أضعاف وربما أكثر.
إن الأدوات غير المباشرة التي تؤدي إلى تطوير النظام وليس تغييره هي التي يمكن لها النجاح، لكنها ستأخذ أعواما طويلة إن لم يكن عقودا كما حدث مع عشرات الحالات في العقود الأخيرة، سواء في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق أو أمريكا اللاتينية أو آسيا.
ومن المتوقع أن تكرر الولايات المتحدة ذلك النجاح في كوريا الشمالية وإيران، شريطة أن تختار الاستثمار الصحيح في الوقت الصحيح؛ لأن تجاهل الأنظمة الخطرة ليس من الحكمة في شيء، والمطلوب هو تشجيع تلك الأنظمة على الاعتدال والتوسط، وتهذيبها وتليينها عبر السياسات التي تجبرها على الانفتاح والتعامل مع العالم الخارجي.
ومن ضمن هذه السياسات: الاستخدام الإستراتيجي للتليفزيون والراديو والإنترنت، وإدخال الدولة "الخطرة" في عضوية منظمة التجارة الدولية، وإمداد المجتمعات المدنية بالمعونات، وتقديم الإغراءات الاقتصادية والسياسية، ودعم التبادلات التجارية والبشرية بهدف إدخال الأفكار الجديدة.
ومن البدائل الأخرى للتعامل الأمريكي مع كوريا الشمالية وإيران، الاستخدام المقنن أو المحدود للقوة العسكرية، وهو استخدام قد يأخذ شكلين: الهجمات الاستباقية preemptive attacks والهجمات المنعية preventive attacks؛ فأما الهجمات الاستباقية، فمشروط فيها وصول مرحلة التهديد إلى ما يقرب من الـ100 في المئة، بحيث لا يجدي في هذه الحالة سوى الهجمات الاستباقية لحماية الدولة الضاربة، ومشكلة هذا الخيار أن صناع القرار الأمريكي حاليا لا يرون في الدولتين هذا النوع من التهديد.
أما الضربات المنعية فليست بالأمر السهل؛ إذ إنها تتطلب أولا تأييدا دوليا، وهو أمر صعب المنال. وتتطلب ثانيا مستوى عاليا من القدرات الاستخباراتية التي تستطيع إسقاط تلك البرامج النووية المحاطة بسياج من الكتمان والسرية. ويقلص هذان العاملان من فرص نجاحها؛ ففي الحالة الكورية معلوم لدى الجميع معارضة كل من كوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا لأي ضربات يمكنها أن تدخل شبه الجزيرة الكورية في حرب ضروس تخلف آلاف القتلى وتدمر اقتصاد المنطقة.
وبالنسبة لإيران، فإن ضرب برنامجها النووي يعتبر أيضا سهلا بالكلام ولكن صعبا بالفعل؛ فقد يسهل ضرب بعض أجزاء البرنامج النووي الإيراني وإعاقة تقدمه لأعوام مديدة، إلا أن هذا لن ينفي قدرة الدولة الإيرانية على إعادة تشكيل برنامجها بطريقة تستعصي عليها الضربات اللاحقة، هذا إضافة إلى قدرة الدولة الإيرانية على رد الصفعة مضاعفة إلى الولايات المتحدة من خلال إطلاق يد الإرهاب ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، أو عبر إطلاق الفتن في العراق وأفغانستان والسعودية. وكذلك فإن ضرب إيران سيؤدي إلى استعداء الشعوب العربية والإسلامية التي قد أعلنت منذ زمن رفضها لازدواجية المعايير الأمريكية في السماح للبرامج النووية الإسرائيلية والهندية ومنعها للبرامج الإيرانية، كما سيؤدي إلى استعداء الشعب الإيراني والتفافه حول حكومته، ورفضه لأية تدخلات أمريكية تستهدف تغيير النظام. وأخيرا، فإن ضرب إيران أمريكيا سيؤدي إلى ارتفاع مروع لأسعار النفط، الأمر الذي ستنتج عنه أزمة اقتصادية عالمية مدمرة.
الدبلوماسية أولا
تعتبر الدبلوماسية بديلا آخر لمجابهة التحدي النووي الإيراني والكوري. وتستطيع الولايات المتحدة جذب كل من الدولتين تجاه ما تريد من خلال تقديم الضمانات الأمنية والإغراءات الاقتصادية والدعامات السياسية، فهذه جميعا عروض مغرية يمكن الحصول عليها إذا ما قامت الدولتان بالتخلي عن طموحاتهما النووية.
وتكمن المشكلة -في هذه الحالة- في أن أيا من الدولتين لم تقدم حتى الآن بوادر حسنة تدل على احترام الاتفاقيات؛ فقد أخلت كوريا الشمالية باتفاقها مع كوريا الجنوبية في عام 1992 على إبقاء شبه الجزيرة الكورية خالية من السلاح النووي، ثم قامت باختراق روح الإطار المتفق عليه مع الولايات المتحدة في عام 1994. وإيران لا تلتزم بتعهداتها المطلوبة أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الخاصة بنشاطها في مجال تخصيب اليورانيوم. وتصر الدولتان على تملك السلاح النووي كنوع من الردع للطرف الأمريكي وتحقيق المكانة الإقليمية.
ورغم أن المكافآت الدبلوماسية سوف تغري دولا أخرى للسير على نفس المنهاج النووي، إيمانا منها بأن الدول "الشريرة" يمكن مكافأتها على سلوكها "الشرير"، فإنه ليس هناك مفر من اتباع الدبلوماسية مع هاتين الدولتين؛ لأن هذه السياسة أولا أكثر البدائل قابلية للنجاح، وتفسح المجال ثانيا للتأييد الإقليمي والدولي للاقتراب الأمريكي فيما بعد ذلك، والذي سيعتمد على المواجهة مع الدولتين المعنيتين.
وقد دخلت الولايات المتحدة -مستعينة بالصين واليابان وروسيا وكوريا الجنوبية- في محادثات مع كوريا الشمالية لمحاولة إقناعها بنبذ برامجها النووية. وتبدو أفضل الحلول تطبيقا الآن مواصلة العمل دبلوماسيا مع كوريا الشمالية، على أن تحصل الأخيرة على بعض المنافع أولا قبل مطالبتها بالخضوع للالتزامات النووية، وعلى أن يتم ذلك في ظل مساعدة الدول السالف ذكرها خاصة الصين، التي على واشنطن أن تقنعها باستخدام نفوذها لدى "بيونج يانج" لنبذ برامجها النووية؛ لأنها الشريك التجاري الأول ومصدر الطاقة الأساسي لكوريا الشمالية. أيضا تخشى الصين من عواقب سقوط نظام "كيم يونج"، وما سيجلبه ذلك من أفواج اللاجئين الكوريين التي ستغمر الصين آجلا أو عاجلا. وعلى أية حال، ورغم أن ذلك يضع الصين أمام امتحان صعب، فإن نجاحها في هذه المهمة الدبلوماسية سيبرهن على رغبتها في أن تكون شريكا إستراتيجيا حقيقيا للولايات المتحدة.
ويعد التوصل إلى اتفاق مع إيران يقضي بحصولها على المواد النووية التي تحتاجها لإنتاج الطاقة مع منعها من الوصول إليها مباشرة هو أنسب الحلول في الحالة الإيرانية، شرط أن يتحول هذا الأمر إلى سياسة عالمية تمنع أي كيان من الوصول إلى الوقود المخصب باستثناء الدول النووية الخمس والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأن يطعم هذا الاتفاق بتسهيلات اقتصادية تذيب بعض العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، مثل السماح لإيران بعضوية "منظمة التجارة العالمية" مقابل الالتزام بعدم تطوير قدراتها النووية.
وبالرغم من كل هذا فإن إمكانية فشل الحل الدبلوماسي مع إيران ليست مستبعدة، إما بسبب عدم كفاية التأييد الدولي لتلك الدبلوماسية، أو بسبب إصرار الكثير من الإيرانيين على المضي قدما في برامج تخصيب اليورانيوم، بغض النظر عن الخسائر.
العيش مع النووي
يصير التعايش مع الواقع النووي في كوريا الشمالية وإيران بديلا يلوح في الأفق إذا ما فشلت كل البدائل السابقة (الفشل الدبلوماسي، رفض البديل العسكري، عدم جدوى تغيير النظام)، ويحمل هذا البديل الباقي الكثير من التهديدات، منها: وقوع النووي الكوري والإيراني في أيدي الإرهابيين سواء عن قصد أو عن غير قصد، واستفزاز دول المنطقتين وحملها على امتلاك النووي هي الأخرى، وعدم جدوى "الردع" الأمريكي والدولي مع استفحال تلك الظاهرة النووية.
إن غض الطرف عن كوريا نوويا سيشجع اليابان وكوريا الجنوبية على اقتناء النووي؛ بالنظر إلى الحساسيات التاريخية في منطقة شمال شرق آسيا. وغض الطرف عن النووي الإيراني سيشجع كلا من مصر والسعودية وسوريا وحتى العراق على إعادة النظر في إمكانية تطوير قدرات نووية مماثلة رغم أنها جميعا لا تملك قاعدة صناعية متطورة مقارنة بإيران.
البدائل في بوتقة واحدة
يمكن النظر إلى بدائل (تغيير النظام، الهجوم العسكري، الدبلوماسية، الردع) باعتبارها سياسات بديلة، وعناصر مُشَكلة لرؤية شاملة واحدة تجاه الدولتين المعنيتين إذا ما تم النظر إلى كل بديل على حدة؛ فالردع هو الوسيلة المثلى لجلب أكبر قدر من المكاسب في وقت الأزمة، والهجوم العسكري أو التهديد به يمكن أن يكون وسيلة للنيل من الآفاق الدبلوماسية، أما الدبلوماسية، فهي تقع في قلب السياسة الأمريكية تجاه كلٍ من كوريا الشمالية وإيران، وهي بإمكانها النجاح أكثر من أي سياسة أخرى، وهي الأكثر جاذبية من كل البدائل الأخرى.
وأخيرا، فإن عزل الديكتاتوريين لا يزيدهم إلا ديكتاتورية، وإن السياسة الخارجية التي تختار التعامل والاندماج مع الأنظمة الاستبدادية -وليس عزلها- يمكنها أن تتحول إلى حصان طروادة الذي سيقوم بتليين سلوك تلك النظم على المدى القصير، وتهذيب طبيعتها على المدى البعيد.
لقد آن الأوان لكي تضع واشنطن هذا الفكر تحت الاختبار للتعامل مع محور الشر؛ فالتأخير لم يعد ممكنا، والتوجه السائد حاليا ليس بالإستراتيجية الصحيحة.
الإرهاب 2006.. تحديات أمريكية متزايدة
ما الذي ستئول إليه "حرب الإرهاب" في عام 2006؟ سؤال يتبادر إلى أذهان الكثيرين، سواء الخواص منهم أو العوام. تعتمد إجابة هذا السؤال على قراءة تقييمية لما أنجزته تلك الحرب في غضون الأعوام الأربعة الماضية. ونظرا لكون الولايات المتحدة هي المسئولة الأولى عن إعلان تلك الحرب في عام 2001، فإن الأدبيات الأمريكية تصير هنا محل اعتبار وتمحيص. وتصفحا في مختلف الدوريات الأمريكية الأخيرة التي صدرت في نهاية عام 2005، نجد أن هناك اقترابات جديدة اهتم بها الباحثون والكاتبون الأمريكيون في أثناء تناولهم لظاهرة الإرهاب.
"الإرهاب" يحشد المسلمين ضد الراديكالية
وكانت أولى تلك الاقترابات ما كتبه أحد المراسلين الأمريكيين لمجلة "فورين آفيرز" الأمريكية، في عددها الأخير (يناير/فبراير 2006)، تحت عنوان "تقييم الحرب على الإرهاب"؛ إذ أعلن المراسل وهو ريتشارد آي. فوكينراث بأن "حرب الإرهاب" ليست مظلمة إلى هذا الحد، كما يتصورها الكثير من الكُتاب الأمريكيين، بل إن الإرهاب قد قدم خدمة جليلة للإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي، وهو قيامه بحشد مسلمي العالم ضد المد الراديكالي الذي يمثل العدو الأول لواشنطن.
وقد صرح "فوكينراث" بذلك، في أثناء رده على ما كُتب مؤخرا في "الهجوم المقبل: الفشل في الحرب على الإرهاب وإستراتيجية للإصلاح"؛ وهو الكتاب الأمريكي الذي صدر في عام 2005، للمؤلفين "دانيال بنيامين" و"ستيفن سيمون"، والذي تلخصت أطروحته في الخسارة المؤكدة والأكيدة لإدارة "جورج دبليو. بوش" في حرب الإرهاب، بسب ما اتصفت به من جهل في المعلومات وأُحادية في الرأي.
وقد رفض "فوكينراث" تلك الأطروحة، مقدما ثلاث دلائل، موضحا فيها أن "حرب الإرهاب" (ذات الأعوام الأربعة والنصف تقريبا) قد صبت في مصلحة الولايات المتحدة؛ أول هذه الدلائل أن إنجازات "بوش" في حربه على الإرهاب تفوق إخفاقاته. فإذا كانت إخفاقاته تتمثل في نجاح "القاعدة" بتحولها من منظمة هرمية محصورة في مخبأ إلى منظمة منتشرة عالميا ذات جهاز "بروباجندي" ضخم، وفى ازدياد التسلح الراديكالي المضاد للأمركة، فإن إنجازاته تتمثل في عزل "طالبان" و"صدام"، وفي قتل الكثير من قيادات "القاعدة"، وفي اجتثاث شبكة خطيرة للـ"قاعدة" من السعودية في عام (2003)، وإقناع الخدمات الأمنية الباكستانية باجتثاث مواقع "القاعدة" من المدن الباكستانية، وتدشين عدة مؤسسات في الداخل الأمريكي للتصدي للإرهاب؛ مثل "المركز القومي لمناهضة الإرهاب" The National Counterterrorist Center؛ و"مركز الحماية من الإرهابيين" Terrorist Screening Center ؛ و"إدارة الأمن النقلي" Transport Security Administration.
وثاني هذه الدلائل أن ظاهرة الإرهاب -على حسب وجهة نظر "فوكينراث"- قللت تدريجيا من ثقة المسلمين في شخصية "بن لادن"؛ الأمر الذي جعل تبرير قتل المدنيين للدفاع عن الإسلام ناقصا وخاطئا في أذهان الكثير من المسلمين؛ بمعنى أن مثل هذا التبرير لم يعد مستساغا كما كان الأمر من قبل؛ وهو ما يصب مرة أخرى في مصلحة الولايات المتحدة.
وآخر هذه الدلائل -وهي النقطة الأساسية التي ارتكز عليها "فوكينراث"- تقول إن حرب العراق لم تغذ الإرهاب الراديكالي في بلدان المسلمين، بل إنها جعلت المسلمين العرب يجتمعون معا ضد التسلح الراديكالي؛ وهو الأمر الذي حدث في الأردن في نوفمبر 2005، في أعقاب هجمات عَمان التي نفذتها مجموعة من العراقيين التابعين لأبي مصعب الزرقاوي.
الإرهاب.. "بلا حدود"
استخدام الإرهابيين للأسلحة البيولوجية، ومن ثم تخطيهم لجميع الحدود، هو الاقتراب الثاني الذي تناوله "أنتوني إتش. كورديسمان" -رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية CSIS- في أثناء بحثه الأخير حول ظاهرة الإرهاب. فمن خلال كتابه "تحدي الإرهاب البيولوجي"، الصادر عن المركز في عام 2005، قدم أطروحته التي تقول: إن سياسة وأيديولوجية الإرهاب أزاحتا الحدود المتبقية، وصارت جميع مستويات العنف ممكنة ومقبولة، مما سيحفز الإرهابيين على استخدامها؛ خاصة أن "الإسلاميين الراديكاليين"، كما يقول، لديهم رغبة قوية في الحصول على الأسلحة البيولوجية، مثلها مثل الأسلحة النووية والكيماوية.
وعلى الرغم من التحديات التقنية الكثيرة التي تقف عقبة نحو تنفيذ الهجمات البيولوجية الإرهابية، فإن "كورديسمان" يشير، من الناحية الأخرى، إلى السهولة التي بات الإرهابيون البيولوجيون يتصرفون بها، حيال مشاريعهم التخريبية؛ بل وتصاعد تلك السهولة تدريجيا. هذا إضافة إلى الآثار المميتة التي يترتب عليها ذلك النوع من الإرهاب؛ فهي لا تنال البشر فحسب، بل تنال أيضا السياسية والاقتصاد والسيكولوجية.
ويأسف "كورديسمان" على عدم تلقي مثل هذه القضية الخطيرة الأولوية المطلوبة في التناول والتعامل، على الرغم مما تفرضه من تهديد للعالم بأسره. ومن ثم، يرى بأن المساومات، حيالها، باتت أمرًا مفروغا منه لا محالة. ولم يعد حل المشكلة بالمال أمرًا مستساغًا أو مقبولا، كما كان الوضع قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ فإلقاء المال في وجه أي مشكلة صار أسهل كثيرا من إيجاد تقييم واع وناضج لها.
الإرهاب والديمقراطية.. الثنائية الجدلية
هل تمثل الديمقراطية سبيلا من السبل لمكافحة الإرهاب أم أنها تمثل محورا مركزيا في الإستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب؟ وهل النظم الديمقراطية هي الوحيدة القادرة على قمع الإرهاب؟ حول هذين التساؤلين، قام سجال واسع بين ثلاثة كُتاب أمريكيين؛ تم نشره في صورة مقال بمجلة "فورين آفيرز" الأمريكية، في عددها الأخير، تحت عنوان "الاستبداد والإرهاب".
فمن ناحية، ذهب "بول دوبريانسكي" و"هينري كرومبتون" إلى كون الديمقراطية أحد سبل مناهضة الإرهاب؛ وأنه لا بد من إقران السياسات الدافعة للديمقراطية مع السياسيات المجهضة للإرهاب؛ إذ إنهما يمثلان "المجداف التوأم" لقيادة المركب الأمريكي إلى بر الأمان، كذلك يعزز الكاتبان من أهمية الديمقراطية في مناهضة الإرهاب، عبر عرض قناعتهما التي تفيد بأن الدول الديمقراطية ذات المؤسسات الليبرالية هي الأكثر تصديا للإرهاب، والأكثر قدرة على محاربته من الدول غير الديمقراطية؛ وهو ما يجعل الإرهابي يحارب تلك الديمقراطيات لعلمه -تمام العلم- بأنها ستُحبط من خططه ومشاريعه.
وعلى نقيض ذلك، يذهب "إف. جريجوري جاز" إلى قناعته بأن الديمقراطية هي الأساس لمناهضة الإرهاب، وبأن لها مركزية في إستراتيجية محاربة الإرهاب، وبأنها تمثل هدفا مهما في مثل أهمية مناهضة الإرهاب، ومن ثم فهي ليست جزءا من سياسة، أو سبيلا من السبل؛ إلا أنه يقر في الوقت نفسه بأن الديمقراطية لا تؤدي بالضرورة إلى دحض الإرهاب، بل إنها يمكن أن تؤدي إلى اندلاع العنف والحرب، وأيضا إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية. فأن يصل الإسلاميون مثلا إلى الحكم في سوريا -عبر الديمقراطية- فهو أمر لن يصب مطلقا في مصلحة الديمقراطية ولا في مصلحة البيت الأبيض، كما يفيد "جاز".
تحدي المقاومة عبر القومية
ومن زاوية رابعة، تناول "بول ستانيلاند" ظاهرة الإرهاب، من خلال تعرضه للطبيعة عبر القومية التي باتت تصاحب معظم الإرهابيين، إن لم يكن جميعهم. تلك الطبيعة التي وصفها "ستانيلاند" في مقاله "هزيمة المقاومة عبر القومية: الهجوم الأفضل يعني سورا قويا" -المنشور في مجلة "واشنطن كوارتيرلي" عدد يناير/فبراير 2006- على كونها أحد التحديات الجسيمة التي تفرضها المقاومة العراقية الحالية.
وقد عزز من موقف هؤلاء المقاومين عبر القوميين -كما يشير "ستانيلاند"- ثلاثة أمور:
أولا: إن هناك عجزا شديدا في الإمساك بهم.
ثانيا: إنه باستغلال الفرص عبر القومية تمكن المقاومون عبر القوميين من البقاء تحت أصعب الظروف التي يفرضها عليهم تنقلهم المستمر.
ثالثا: إنه لم ينفع مع هؤلاء المقاومين أي إستراتيجيات، سواء للقضاء عليهم أو لاحتوائهم؛ فلم تنفع معهم الإستراتيجيات التقليدية لمناهضة الإرهاب، ولم تنفع معهم إستراتيجيات كسب العقول والقلوب.
اجتثاث الإرهاب على غرار "مارشال"
يعتبر إحياء ذكرى "برنامج مارشال" اقترابا خامسا وأخيرا لتناول ظاهرة الإرهاب؛ وهو اقتراب يعتمد على نقل ذلك البرنامج من أوربا حيث دشن هناك بعيد الحرب العالمية الثانية بهدف تطعيم القارة ضد الاختراق الشيوعي إلى الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. وقد يُنظر إلى هذا البرنامج الآن -كما يقول "ديريك شوليت" في الـ"واشنطن كوارتيرلي" (عدد يناير/فبراير 2006)- باعتباره نموذجا لنجاح السياسة الخارجية الأمريكية في التبصر الإستراتيجي تجاه القارة الأوربية.
وليس من العجيب، أن يُنادى بهذا البرنامج في أنحاء الولايات المتحدة وفي أنحاء بريطانيا، كما يقول "شوليت" في مقاله "الافتراضات الخاطئة لبرنامج مارشال القادم"؛ إلا أنه يحذر -في الوقت ذاته- الإدارة الأمريكية من الإسراع في تطبيق "مارشال" دون إدراك عميق للأسباب الحقيقية وراء نجاح البرنامج. فالتفكر الإستراتيجي الأمريكي حيال اقتلاع الإرهاب من الشرق الأوسط على شاكلة "مارشال" ليس بهذه السهولة أو البساطة التي تفترضها الإدارتان الأمريكية والبريطانية.
الخلاصة
نستطيع القول إن جميع الرؤى الغربية، المعروضة أمامنا، تعكس قدرا واضحا من التهيب والتشاؤم تجاه مستقبل ظاهرة الإرهاب، اللهم إلا تلك الرؤية التي تقول بأن الإرهاب قد ساعد في حشد العرب المسلمين ضد المد الراديكالي؛ وهو الأمر الذي تسعى إليه الإدارة الأمريكية الحالية. إنها رؤى تحمل نوعا من الاعتراف (غير المباشر) بأن الإرهاب صار مخترقا لكل شيء: للحدود والتكنولوجيا والديمقراطية. ومن ثم، فلم يعد ينفع معه أي شيء. فإنفاق المال لم يعد مجديا؛ ومناهضته سواء بالأسلحة التقليدية أو بالأسلحة الرخوة لم يعد مثمرا أيضا.
_________________________________________