28 Sep
28Sep

انتخابات 2018 بين مصادرة إرادة الناخب وإملاءات الفواعل المحلية والأقليمية

م/ مقال

د. عبدالناصر المهداوي

المؤسسة الوطنية للدراسات والبحوث

      يتفق غالب العراقيين ومن مختلف مشاربهم وتوجهاتهم على أن الانتخابات زورت بشكل لا يمكن السكوت عنه، وهنا نحن حين نقول أن الأحزاب والكيانات والمرشحين ومن مختلف الأطياف والاتجاهات ترى أن الانتخابات شهدت تزويرا وتغييرا لارادة الناخب العراقي فنحن لا نجافي الحقيقة ولا نفتأت عليها، بل تأكد لدى الشارع العراقي هذا التزوير عبر اللجان التحقيقية التي شكلها البرلمان فيما سمي بلجنة تقصي الحقائق، وفي اللجان الرفيعة المستوى التي شكلتها الحكومة العراقية عبر مجلس الوزراء الذي أكد هذا التلاعب والتزوير وفساد مجلس المفوضين الجدد، وصولا لمراقبي الأحزاب والكيانات المشاركة في العملية الانتخابية وهدرت أصواتها كما تصرح.

وفي هذه العجالة لا نستطرد في عمليات التزوير والتلاعب التي أكدها جمع غير قليل من العراقيين ومن مختلف الخلفيات والمكونات، ولكننا اليوم وهنا سنتناول الأصوات الصحيحة من داخل الصناديق هل وصلت للصندوق بإرادة الناخب وحريته في المناطق التي شهدت من قبل أحداث أمنية وعمليات حربية بسبب "داعش" و "ماعش" أي بسبب سيطرة تنظيم الدولة الإرهابي على هذه المدن وحررت من قبل االمؤسسة العسكرية والأمنية وتم السيطرة عليها من قبل مليشيات وأحزاب وفصائل لها انتساب للقوات المسلحة من خلال الحشد الشعبي وغيره وولائها لأحزابها.

     في مشهد حقيقي شهدته إحدى قرى محافظة ديالى قبل الانتخابات بيوم واحد فقط، خرج عموم المصلون من المسجد الجامع بعد أدائهم لصلاة الجمعة فاعترضهم أحد المسؤولين وخاطب إمام المسجد وجموع المصلين قائلا لهم ؛ الحاج فلان يريد الكلام معاكم وخرج لهم الحاج فلان(مسؤول الميليشيات التي تتحمل مسؤولية أمنهم من أحد فصائل الحشد الشعبي) فقال لهم ؛ أنتم تعلمون أنكم اليوم تنعمون بالأمان بسبب حمايتنا، كما أنكم تعلمون أن هذه القرية سيطر عليها "داعش" مدة طويلة ونحن من أنقذناكم منهم، وأنتم اليوم تعملون  وتقيمون في بيوتكم بسبب الحماية التي وفرناها لكم، وغدا الانتخابات وفي القرية ما يقرب من ستة آلاف ناخب سيبرهنون غدا من صناديق الانتخابات أنكم معنا أو أنكم مع "داعش" وسمى لهم مرشح فصيله ومضى، والناس في حيرة من أمرهم فهم محكومون بسلاح هذا الفصيل.

     وفي يوم الانتخابات المسيطر عليها أمنيا من هذا الفصيل في هذه القرية لم يخرج للمشاركة للانتخاب منهم إلا ربع العدد فقط والمحطات على وشك إقفال أبوابها بعد ساعات قليلة، فما كان من هذا المسؤول الذي تكلم معهم بالأمس إلا أن يجهز عدد كبير من السيارات، وتقوم قواته بإخراج الناس للانتخابات عنوة، وتكون مسؤولية الناخب ادخال البيانات وسحب الأوراق الانتخابية وتقوم قوات هذا الفصيل بملئها وإيداعها الصندوق نهارا جهارا، وفعلا استطاع تحشيد الآلاف ومن هذه الصناديق لهذه القرية التي لا يوجد فيها بيت واحد من "الشيعة" يحصل مرشح هذا الفصيل الشيعي على أربعة آلاف صوت من أصل ستة آلاف لهم حق الانتخاب، بمعنى أن أربعة آلاف شخص من قرية كل أهلها من "السنة" صوتوا لمرشح الفصيل المسؤول عن الأمن في هذه القرية.

      في مناطق أخرى في المحافظة نفسها، وفي القرى التي سقطت بيد "داعش" وتحررت يقوم مسلحون من الفصيل المعني بحماية هذه القرى باصطحاب الناخب من استلامه الأوراق الانتخابية إلى املائها وصولا لوضعها في الصندوق، بمعنى أن الناخب كي يريح باله ويبتعد عن الاستهداف والمشاكل وأن ينفي تهمة الدعشنة عنه يجب أن ينتخب مرشح الفصيل الذي يعنى بحماية القرية التي تشهد الانتخابات، هذا الحال مكرر وعلى العلن من غير أي خوف أو وجل، صحيح في المدن الكبرى لم يتمكن أمثال هؤلاء من العمل على هذه الشاكلة لكنهم تمكنوا في قرى عديدة وبالعشرات ومناطق وأحياء عديدة.

    المؤلم المبكي المضحك هو أن تتكرر ذات المأساة مع كل انتخابات ، ففي الدورات السابقة التي حصد فيها المالكي ودولة القانون أصوات بالملايين تجد من المفارقات المضحكة المبكية أن نزلاء السجون والمعتقلات الذين جلهم من "العرب السنة" ومن التيار الصدري إن كان من "العرب الشيعة" ينتخبون دولة القانون والمالكي المتسبب باعتقالهم، متى رأيتم الضحية تنتخب جلادها؟ غير أنه العراق بلد العجائب.

     كنت ولا زلت من مؤيدي المشاركة في الانتخابات مع يقيني يوما بعد يوم أن الانتخابات في العراق مسرحية كبيرة لا وجود للكومبارس فيها، بل فقط الممثلون الكبار من يشارك فيها، وأن الانتخابات تفصل في عراق ما بعد الاحتلال حسب مقاييس أصحاب القرار خاصة بعد أن تمكن المشروع الطائفي من العراق بعد أن تماهى معه المشروع الأمريكي، ويؤكد لنا المشروع الطائفي تمدده يوما بعد يوم حتى استوعب ما يقرب من ثلثي مقاعد البرلمان في دورته الرابعة(في حدود 190نائب من أصل 329 نائب) بينما في الدورة الأولى لم يصل إلى النصف أي للأغلبية المطلقة (50+1) مع اعتبار جميع القوانيين والتخصيصات لأعداد منتخبي المحافظات كانت له وللأحزابه، والغريب العجيب في المعادلة السياسية العراقية أن هؤلاء الذين تولوا السلطة والقرار في العراق تسببوا في دمار البلد وضياعه بسبب السياسات الطائفية البغيضة، ومع ذلك لم يتخل عنهم جمهورهم بل تسبب في صعودهم مرة بعد مرة على الرغم من ضياع جهودهم على الفاسدين، وبذلك كرست وتجذرت قواهم ونفوذهم في الساحة السياسية العراقية.

     لا نعلم على وجه الحقيقة مالذي يجدي الفوز بالقرار والسلطة في بلد ضاعت فيه القيم والعادات والتقاليد والأعراف التي يعتز بها العراقيون كافة على مختلف مكوناتهم وأطيافهم،  الجميع يعي بحقيقة أن السلطة وجميع مفاصلها السياسية والإدارية والأمنية بيد مكون من مكونات الشعب العراقي، ومع ذلك لم يفلح هؤلاء في تقديم صورة تتناسب وحجم وقيمة مكون عريق من الشعب العراقي، بل لا توجد نقيصة ولا ظلم و لا طغيان إلا تحمل أوزارها هؤلاء وبالتالي يتحملها مكونهم العريق الذي لا يرضى على أفعالهم بالضرورة، ما فائدة أن تملك القوة والمال والسلطة وأنت متهم بضياع البلد وفساده على الأصعدة كافة. ما الذي تجنيه من تكريس الطائفية المقيتة في أفعالك على المستويات؟

     من يظن أن هؤلاء الساسة والقادة وكياناتهم تملك الإرادة الحرة في الخيار واهم، لكون المشهد السياسي العراقي رهين الإرادتين الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والإقليمية وعلى رأسها إيران، فما لم ترضى عنك الإرادتين فأنت خارج الملعب على وجه اليقين لا الظن، قديما وبعهد أوباما كانت الإرادة الأمريكية رهينة حسم ملف الاتفاق النووي مع إيران وكانت تلبي طلبات إيران كافة شريطة أن تبقى في المفاوضات على الملف النووي، أما اليوم فظاهر الأمر مختلف والأمريكان يشددون الخناق على إيران، ومن غير المنطق بمكان التسليم لخيارتها في العراق بل لا بد أن يكون الرئيس المستقبلي مواليا بالدرجة الأولى للأمركيان وتأتي إيران تبعا، وقد يفسر ذلك موقف السيد العبادي من العقوبات الأمريكية على إيران فهو ينتقدها ويشجبها غير أنه يلتزم بها في تناقض عجيب غريب.

   في موضوع آخر سيؤثر على المشهد السياسي كثيرا، وهو أن هذه الانتخابات لا تمثل الشارع العراقي بل الوقائع والحقائق تشير إلى نسبة المشاركة بها متدنية جدا، وهو ما اعترف به الساسة والقادة الفائزون في الانتخابات كالعامري وغيره، والبعض الآخر المعارض يشير إلى ما نسبته 4% من الشعب العراقي من شارك فقط، وبأفضل الاحتمالات تصل إلى 18% فقط لا غير أما غير ذلك فهو يجافي الحقيقة، أضف إلى ذلك أن دعاوى التزوير والاجبار وتأثير السلاح في تحديد وجهة النائب تناقل بها الركبان، ولضرب مثلا واحدا نقول؛ هل يعقل أن تنتخب مدينة محاصرة بسلاح الميليشيات أحد مرشحي الفصيل الذي يحكمهم وتُوصله للبرلمان ولا يوجد فيها مواطن واحد من مكون هذا المرشح فضلا عن حزبه وفصيله، أما تفاصيل الاجبار فقد شهد عليه جل سكان هذه المدينة، دع عنك هذا وانظر في المواقف الرسمية، فقد تم التصريح بإلغاء صناديق الاقتراع في بغداد الرصافة بعد الحريق المفتعل، وهي تشكل ما مقداره 10% من أصوات الناخبين على مستوى العراق، كيف سيتقبلها الخاسرون في هذه الانتخابات؟ بل كيف ستكتسب الانتخابات شرعيتها في ظل هدر 10% من أصوات الناخبين؟!

     كشف النائب عادل نوري رئيس اللجنة النيابية المكلفة في التحقيق بدعاوى تزوير الانتخابات، في مقال له يستجدي به عدل القضاة المنتدبون للوقوف موقفا يبطل هذه الانتخابات المزورة،وطلب النائب نوري من القضاة ابطال نتائجها بقوله " ننتظر ضربتكم القاضية" بعد أن سرد المئات من الشبهات، ودلل بالحجج العقلية والنقلية على حقيقة كبيرة مؤداها أن الانتخابات كانت مزورة و لاتعبر عن إرادة الناخب العراقي، بل كشف ناشطون سياسيون من خلال الفضائيات أن نسبة التزوير قد تصل إلى 70% على وجه الحقيقة، وإذا اعتبارنا نسبة المشاركة المتدنية، مع نسبة التزوير المتحققة، حتى لو كان الخلاف في نسبة محددة من التزوير وهو واقع حال يقره المطلعون، أضف إلى ذلك اخضاع  المناطق التي حررت من "داعش" إلى سلاح المليشيات وفصائل الحشد الشعبي، الأمر الذي جعل هذه المناطق تعطي أصواتها بقوة السلاح، وبتواتر النقل وصريح العقل فهذه المناطق جلها من "العرب السنة" وتسببت بصعود مرشحين فصائل "العرب الشيعة" فأي منطق ممكن أن يتقبل هذا الموضوع؟ لا يتقبله إلا منطق المالكي حين حصد أصوات السجناء في عهده.

     التأريخ يصنعه الأقوياء وليس الضعفاء، وفي العراق اليوم من يملك القوة والسلاح هو الذي يتصدر المشهد السياسي، ولا اعتبار لا لقضاء ولا لمفوضية مستقلة ولا لغيرها، الاعتبار الأول للقوة والسلطة والمال، وهذه يملكها جل الفائزون في الانتخابات الهزيلة التي جرت منتصف مايس 2018، ومع كل ما تقدم سَيُلَملَم الموضوع، وسيصار إلى كتلة كبيرة تشكل الحكومة المرتقبة، وستكون وفق المقاس الأمريكي بمباركة إيرانية، فالأخيرة تراعي مصالحها في المنطقة وتجيد اللعب على الحبال كافة، وقد تظهر مواقفا صلبة من العقوبات الأمريكية، إلا أنها من الذكاء والحنكة السياسية ما يجعلها تؤثر حتى على القرار الأمريكي من خلال لوبياتها داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال أحلافها وما تشكله من تهديد على المصالح الأمريكية.    

      ووفقًا للمدير العام لمركز دراسة إيران الحديثة رجب سافاروف، فإن 95٪ من العقوبات ضد طهران لم تكن قد رفعت، والغرب بقيادة الولايات المتحدة لم يف بالتزاماته بشأن الصفقة النووية، ويرى سافاروف أن التصريحات من نمط "العقوبات ستركّع إيران" مبالغ فيها. على الرغم من أنه لا يستبعد أن يكون لها بعض التأثير السلبي على الاقتصاد الإيراني، وقال: إيران مستعدة منذ مدة طويلة لنظام العقوبات. فعلى مدى أربعة عقود، نجحت في دراسة طبيعة السياسة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، وأعدت الخطة "ب" لكل الاحتمالات في حال تنصل الأمريكيون وحلفاؤهم من التزاماتهم، وأضاف أن إيران لديها أيضا "الخطة ج"، والتي سيتم تنفيذها إذا أصبح الوضع حرجًا وقريبًا من المواجهة العسكرية أو في حال الهجوم على إيران.

     لذا أن التأثير الإيراني سيطال تشكيل الكتلة الأكبر، وسيظل ماضيا عبر تشكيل منظومة الحكومة المرتقبة، وستستفيد كثيرا من خيرات العراق في ظل الاختناق الكبير عليها من جراء الحصار، ولا أدل على ذلك من إلغائها قرارات متعلقة بضبط مكاتب الصيرفة في بيع وشراء الدولار واتاحت شراء العملة الصعبة من خارج إيران وإدخالها في إيران، كما قامت بإلغاء قرار منع وشراء الذهب من الأسواق الخارجية وإدخاله إلى إيران في 6/8/2018 أي في اليوم الذي شهد سريان مفعول العقوبات الاقتصادية على إيران. إشغال إيران بنفسها عبر استهداف أذرعها في العراق والمنطقة قد يغير في المعادلة السياسية العراقية، مع اعتبار كون جل الأحزاب والمليشيات والكيانات التابعة لإيران في العراق ستقاتل دفاعا عن إيران إن تطلب الأمر ذلك. فهل ستتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تحجيم التأثير الإيراني في العراق في المنظور القريب والمتوسط؟ جواب هذا السؤال يبقى في ظهر الغيب، ووفق معطيات الصراع على الأرض، فلمن ستكون الغبلة؟ الأيام ستخبرنا بها في الغد القريب.

         

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.