الابحاث الآثارية الامريكية الشرقية
أنّ التأريخَ المبكّرُ لبلاد ما بين النهرين من بابل وإلامبراطورية آلاشورية والاكدية الزاخر بالمعارف والكنوز وموطن الاديان السماوية والارضية الاخرى والذي خلق لهذا التأريخُ إعلانِ العراق كبلد الانبياء واعطائه تلك المنزلة العالية بين الامم في الارض, جعلت المناسبة لمدراء المؤسسات الثقافة والمعلوماتية الامريكية للحُصُول على كُلّ المعلومات حول هذا التأريخِ المبكر من اعظم الاولويات التي حكمت العلاقة بين بلاد الخصيب الاسلامية وبين العالم النصراني الجديد[1].
لذلك ارتبطت مؤسسات الثقافة الامريكية منذ نشاتها في بلاد ما بين النهرين خاصة وفي بلاد الهلال الخصيب بشكل عام بمؤسسات السياسة الخارجية الامريكية كملحقيات اساسية لسفاراتها وقنصلياتها او بعثاتها المختلفة في المنطقة. ومن جانب اخر فقد ارتبطت تلك المؤسسات والتي كانت ذا كيانات مستقلة بمؤسسات الفكر والثقافة الامريكية كالجامعات ومراكز الدراسات والمتاحف والشركات العملاقة انذاك, والتي كانت تعنى بالشرق المسلم والتي ارتبطت مصالحها فيه بشكل مباشر. واما الملحقيات الثقافية الامريكية والبعثات العلمية والتبشيرية الاخرى فقد كانت بعثات لتلك المؤسسات وكانت عادة ذا مهمة محددة في المنطقة وكانت اساليبها في العمل مختلفة تماما عن الاساليب التي كانت تقوم بها المنظمات الاخرى. فقد سعت المؤسساتِ الأمريكيةِ كجامعة شيكاغو والمعهدِ الشرقيِ في شيكاغو، الى تَأسيس حضور طبيعي في البلادِ العراقية, رغم انها لم يكنَ لديها من الأموالُ الكافية لضمان بنايتِها الخاصةِ في بغداد ومصاريف أساتذتها السنويين وزملائها فكان لا بُدَّ أنْ يَعْملوا ضمن ترتيباتَهم الخاصةَ في المدينةِ، وان تَبْقى في أغلب الأحيان متشاركة مع المدرسةِ البريطانيةِ لعِلْمِ الآثار، والتي أَسّسَت في 1932[2] وهناك بدأ تأريخِ المدرسةِ الأمريكيةِ والتي واصلت التنقيب تحت رعاية الجامعات الامريكية ومنها جامعةِ هارفارد وجامعة بنسلفانيا وبنت اساس ذلك العمل على اسس دينية وفيما بعد على اسس تجارية بحتة.
وساهمت الحرب العالمية الثانيةُ الى توقّف اعمالَ المدرسةَ الامريكية في المنطقة والتي تمثلت انذاك بالمدارس الامريكية للابحاث الشرقية او الجامعات الامريكية في المنطقة, حيث اشار (سبايسر) Speiser، رئيس مدرسةِ بغداد، بشكل بارز في تقريرِه عام 1941, بانه "أثناء الفصل الماضي كَانَ العمل ميداني في بلاد ما بين النهرينِ تحت إشراف الجنرالات بدلاً مِنْ علماءِ آثار"[3].
في حين قام (كلوك) Glueck[4]، مدير المدرسة الامريكية للابحاث الشرقية في القدس، بالاستمرار بإستكشافاته عبر الأردن أثناء الحربِ، ومثّلَ المدرسةَ في الإتصالاتِ بقسمِ العصور القديمةِ في بغداد، حينما أوقفَ المنقّبون ألاجانب العملَ بشكل مؤقت في العراق بانتظار تغيير في القوانينِ الخاصة بالعصور القديمةِ لبلادَ ما بين النهرين.
وبعد ان إنتهتْ الحربِ بفترة قليلة, إستأنفتْ مدرسةَ بغداد نشاطاتها. وسُمّى (صموئيل نوح كرايمر) Kramer كأستاذَ سنويَ في 1946 وكَانَ متخصصا في المتاحفِ في إسطنبول وبغداد وقد اسس في تلك السنة مجلّةَ الدِراساتِ المسماريةِ[5].
لقد لَعبتْ مدرسة بغداد دورا بارزا في الإستطلاعاتِ السطحيّةِ الآثاريةِ الإبداعيةِ والتي أجريتْ مِن قِبل المدرسة لمسح منطقةِ الهلال الخصيب السطحية حيث اكدت تلك المسوح ودعمت وشاركَت في انجاح عمليات التنقيبَ والتي بفضلها اكتشفت المستويات السلاليةَ المبكرة والمتأخّرةِ للحضارات القديمة واكتشاف الهندسة المعماريةَ الفريدةَ وعثرت على الموجوداتَ الغنيةَ مِنْ اللقى والمنحوتاتِ الاثارية. وتَبنّتْ المدرسةُ المشروع الذي هدفَ الى حَلّ لغز الساسانيين وتأريخ الابداع لفن الخزف إلاسلامي المبكر[6].
ان التعبير عن المادّة آلاثارية أَو إلانثولوجية العراقية يَعْني الملكيةَ الثقافيةَ العراقية الى جانب انها مواد علميةِ وثقافيةِ وتأريخيةِ وآثاريةِ نادرةِ، كانت قد أزيلتْ بشكل غير قانوني مِنْ المواقع الاثارية بالرغم من وجود قانون الاثار والذي صدر عام 1924 والذي اباح للشركات المنقبة ان تستولي على نصف الاثار المستكشفة, وحتى هذا القانون لم يلتزم به الاثاريون الامريكان بالرغم من عدم انصافه كما ستعرضه الوثائق الامريكية بشكل واضح. حين بدات عمليات السرقة والتهريب ليس من المناطق الاثارية فحسب وانما من المتحفِ العراقي الوطني، او من المكتبة الوطنية للعراق، او من مواقع ثقافية أخرى في العراق[7].
إنّ نتائج تلك العمليات التي سببتها عمليات التنقيب والبحث الاثاري الامريكي في العراق كانت لَهُا نتائجُ ضارّةُ للاثار في هذه البلادِ، وعلى المتاحف، والمواقع آلاثارية والثقافة المادية بشكل عام, والتي كانت لَهاُ قيمةُ فريدةُ في تراثِنا الثقافيِ الشرقي الخاصِ بالمقارنة مع الثقافاتِ الأخرى، فبلاد ما بين النهرينِ كَانتْ مُنذُ فترة طويلة معروفة بمهدِ الحضارةِ الغربيةِ. الا ان المجالات الحديثة لعِلْمِ الآثار والثقافةِ التوراتيةِ والتي ظَهرتا أثناء القرن التاسع عشرِ، جعلت من الأرض المقدّسة مكان سريع التغيير بالنسبة للبحث الاثاري.
فمَع فلسطين وبلاد ما بين النهرين وسكانهما المُخْتَلِفون تحت السيطرةِ العُثمانيةِ وما بعده من الاستعمار الغربي المباشر وما نتج عنه من عقباتِ سياسيةِ حديثةِ، تمثلت في عجز الحكومات في المنطقة من السيطرة بشكل مباشر على ثروات بلادها المختلفة ساعد ذلك في جعل العلماء امام تَشْكِيلة واسعة من اللقى الاثارية الهائلة أعاقتْ نظرتَهم إلى ماضي الأرضَ التوراتيَ.
وانتهى بمعظم اللقى الاثارية والاثار العراقية في مجموعاتِ المتاحفِ الأمريكيةِ الشماليةِ ومعاهدِ البحوث مثل جامعة نيويورك والمتحف اليهودي في مدينة نيويورك، ومتحف ومعرض جامعةِ بوب جونز في جرينفيل، إس سي، ومدرسة عائلة بيركن لعِلْمِ اللآهوت في دالاس، تي إكس.ومتحف الفن في شيكاغو وبنسلفانيا مع التاكيد على التقييدات الواضحة (( لمنع نشر تلك الاثار الأصلية)) فنَتجتْ، بمرور الوقت، خسارة للمعلوماتِ العلمية الثمينةِ لماضي بلاد ما بين النهرين[8].
ان الاسلوب الذي اتبعته المؤسسات الامريكية الثقافية في عدم الاعلان او نشر مشاريع التنقيب في البلاد العراقية والتي اشتغلت به لعقود طويلة في القرن العشرين جاء نتيجة سياسة عامة استخدمت من قبل هذه المؤسسات وبخاصة مؤسسة المَدارِسَ الأمريكيةَ للابحاثِ الشرقيةِ، والتي أَسّسَت في عام 1900، وحدّدتْ كمنظمةُ خيرية في جامعةِ بوسطن. وتنص قوانين تاسيس المَدارِس الأمريكية للابحاث الشرقيِة على أَنْ تبْدأَ، وتشجّعُ وتدْعمُ البحوث حول ثقافاتِ الشرق الأدنى في التاريخ القديم، وتَتبنّى المَدارِسُ الأمريكيةُ للابحاثِ الشرقيِة مثل هذه الابحاثِ الأصيلةِ من تنقيب وإستكشافات آثارية، وتُشجّعُ على ثقافةً وتقاليد الشرق الأدنى القديمة. والمَدارِسُ الأمريكيةُ للابحاثِ الشرقيةِ غير ملزمة بَنْشرُ تلك الاعمال الا بصورة رمزية جدا في مجلّة الدِراساتِ المسماريةِ، والتي أَسّسَت قبل أكثر من خمسين سنة[9].
ان مهانة المصادرِ الآثاريةِ من خلال نهب المواقعِ، وسرقة اللقى الاثارية، والتشجيع على التجارة الدولية المحظورة للعصور القديمةِ كان نتيجة اتباع السياسةِ الآثاريةِ الامريكية المتعمّدِة في بلاد الهلال الخصيب خلال القرن العشرين وما بعده وهي ستكون أكثر شمولاً في مواقعِ سياستِها فيما يتعلق بهذه المسألةِ من حيث تَنفيذ الخططِ لإبْقاء دور القيادةِ في السجلِ الآثاريِ في الجُهودِ لحِماية تراثِ العالمَ الثقافيَ بيد المنظمات والهيئات الامريكية.
وقد بلغت المهانة بالتاريخ والاثار العراقية الى الحد الذي جعلت تلك المواقع الاثارية ملاذا ومعسكرات للاحتلال الامريكي وحلفائه, ويكشف تقرير صادر عن وزارة الدفاع الامريكية ذلك الوضع الذي وصلت اليه حالة التراث الثقافي العراقي بشكل خاص هذا اليوم[10].
[3] تقرير مدرسة بغداد في 19 ايلول 1941.
[4] كَانَ Glueck أستاذَ المدرسةِ الامريكية للابحاث الشرقية في بغداد السنوي في 1933-1934.
ونظراً للأهميةِ التأريخيةِ والآثاريةِ لبابل، ونتيجة لادعاءات أخيرة مِنْ الضررِ في الموقعِ أثناء إحتلالِها وجعلها معسكر عسكري للقوات البولندية تم ترتيب إجتماع في بابل في الفترةِ الحادي عشرِ - الثلاث عشْر كانون الأول 2004 . قبل تسليمِ الموقعِ الآثاريِ لبابل من قبل قوّاتِ التحالف إلى دائرة الاثار والتراثِ في وزارة الثقافةِ العراقيةِ والذي حدّدُ في الخامس عشرِ مِنْ كانون الثّاني 2005.
انظر تقارير حول إحتلالِ موقعِ بابل مِن قِبل القوات الأمريكية والقوَّاتِ البولندية ِ1/18/2005
تقرير حول الإجتماع في بابل من الحادي عشر - الثالث عشْر كانون الأولِ 2004 "مِن قِبل جون إي . كيرتيس، مراقب قسمِ الشرق الأدنى القديم في المتحفِ البريطانيِ.
الحماية الطارئة للعصور القديمةِ الثقافيةِ العراقيةِ 6/4/2004