د. محمد مصطفى
عادةً توجد لدى الكثير من الجماعات والشعوب محرمات في الفكر والاعتقاد والسلوك والثوابت وهذه المحرمات بعضها يؤصلها لنا الشرع الإسلامي وبعضها تترسخ لنا عبر الأعراف القديمة، وطالما أن الأخيرة لا تستند إلى أي أساس فان حجتها في البقاء أو الدفاع عنها تكون في كثير من الأحيان ضعيفة وسرعان ما تتحطم مثل هذه المحرمات على صخرة الواقع المتغير الدراماتيكي، أما في الشرع ووفق المنظار الواسع للتصور الذي يمتد إلى مجالات ومراحل عدة فانه من الصعب حصر الامر في خانة واحدة أو توجه واحد أو لنقل في معتقد واحد عدا ما يتعلق بالاعتقاد الإيماني الذي يمثل الثابت الاساس غير قابل للتغيير.
أما في السياسة فمن الصعب جداً أن تُحكمها إلى مربع واحد وتمنع عنها باقي المربعات بحجة وجود المحرمات في الفكر والتصور، فمن غير الممكن أن تبدءا برسم وتخطيط الرؤيا السياسية لديك وأنت موجه باتجاه واحد وباقي الأوجه تحاط بها المحرمات ولو قام الأمر على هذا الأمر فانه ليس له من أمر السياسة شيء، لان الأخيرة أنما تدور في أوجه عديدة وترصد جميع المتغيرات وتضع لها الاحتمالات الممكنة وغير المحتملة وترسم المشاهد لها كلٍ حسب متغيراتها الفاعلة في محيط المشهد السياسي وتوضح لكل مشهد المخارج أو لنقل البدائل، وبعد إكمال مثل هذا التوجه في التفكير والرؤيا توضع المشاهد وتحدد درجة احتمالية كل منها وحسب طبيعة البيئة المفترضة وتصعد أهمية كل مشهد على الأخر حسب طبيعة مجريات الأمور على الواقع الحالي ومدى تتطابق البيئة المفترضة للبيئة الواقعية ومدى تلاقي متغيرات تلك البيئة المفترضة مع متغيرات البيئة الواقعية، وطالما الأمر منصب على دراسة ومنهج علمي في التفكير فمن الخطاء تماماً أن تضع المحرمات أمام البعض من المشاهد أو حتى حرمت التفكير بها لان ذلك يتعارض مع مبدأ أو محرم من المحرمات.
والمتمعن في رؤيا المشهد السياسي العراقي يجد أن في إحدى زواياه رؤيا غائبة عن التكفير أو لنقل مُبعدة عن التصور ألا وهي احتمالات التقسيم للعراق أما لأنها تمثل رؤيا سوداوية مظلمة لا يمكن التنبؤ بتداعياتها على الواقع العراقي وما يخلفه من دمار محتمل وهذا خطاء استراتيجي كبير، أو لأنه يمثل مشهد خطير من غير الممكن أن نروج له لأنه يهدد ويدمر كل الثوابت وإذا ما عملت أطراف على هذا الأمر فليس بالإنصاف أو الحكمة أن نعمل بذات التوجه بل المفترض نضع المشهد تلو المشهد لغرض إعاقة ومحاربة فكرة التقسيم أو التأسيس لها، وهذا من وجهة نظري خطاء استراتيجي اكبر.
وحتى تتضح الصورة بشكل اكبر سوف نسعى الى تحديد زوايا هذا المشهد ونسكن زوايا الارتكاز للمشاهد الاخرى التي يمكن ان تدخل وتفتعل بالساحة العراقية، فمنذ السقوط والى الان سعت الاطراف الاخرى الكردية منها والشيعية الى التاسيس لمرحلة التقسيم وهذا يتمثل من خلال سعي هذه الاطراف الى استقطاب مرتكزات التقسيم عبر استراتيجية متكاملة تهدف الى مواجهة مثل هذه الحالة وبينما يسير المشروع الكردي بخطوات متقدمة فان المشورع الشيعي لم يزل يعمل لتحقيق ذلك والتوقع المحتمل ان المرحلة القادمة سوف تشهد اتخاذ خطوات متقدمة في هذا الخصوص وخاصة فيما يتعلق باقليم الجنوب ، و الحديث اليوم من قبل الطرف الشيعي عن اقليم بغداد انما يمثل تحول استراتيجي اساسي يهدف الى تأمين اقليم الجنوب انطلاقاً من رؤيا ان من يحكم بغداد ويسطر عليها يسطر على مقدرات الحكومة الاتحادية وتوظيفها لخدمة المشروع الفيدرالي ( التقسيم ) في الجنوب .
واساس التخوف لا يقف عند هذا الحد بل يمتد كون المشاريع الانقسامية في الاساس هي مشاريع توسعية لاتكتفي بالواقع الحالي وانما يمتد بامتداد الثروات والمياه لان اساس الحياة لهذه الاقاليم تتمثل في النفط والمياه ومعظم مناطق التوسع تدخل ضمن محيط المنطقة السنية اذا صحة التسمية وهذا يعنى وجود مصلحة كردية وشيعية مشتركة في تحقيق الاضعاف لهذا الاقليم بما يصب في مصلحة الاقليميين الشمالي والجنوبي وبينما تتوحد الدائرة الجغرافية لاقليم الشمال والجنوب من حيث ان المناطق متلاصقة ومتقاربة فيما بينها نجد ان اقليم الوسط السني يعاني من ضعف في التركيبة الجغرافية من حيث تناثر المناطق السنية مثل محافظة ديالى وصلاح الدين والموصل وهذه تمثل نقطة الضعف في مفصل الاقليم ، وتمتد نقطة الضعف الى فكرة استراتيجية اساسية مفادها ان في معظم التجارب الانفصال التاريخية تأخذ اقاليم الوسط دوماً القسط الاكبر من صراعات وحروب الانفصال كونها تحيط باقليميين على عكس الاقاليم الاخرى التي تكون فيها المحاذاة من جهة واحدة .
غير ان المشكلة لدينا لاتقف عند هذا الحد بل يمكن ان نقول ان الاساس في المشكلة ان الاطراف السياسية والقيادية في الساحة السنية تنظر لهذا الامر من زاوية المحرمات التي يصعب التعامل معها انطلاقاً من التمسك بالثوابت الاسلامية والوطنية وضرورة السعي الى تدعيم نقاط الوحدة اكثر من العمل على نقاط التفرقة غير ان هذا الامر سوف يجعل منا الخاسر الاكبر في هذه المعادلة السياسية لان معظم الاطراف قد تعاملت مع الامر ووظفت الامكانات والقدرات لتدعيم هذا المشروع ونسبة كبيرة من البناء في المشاريع تعتمد على قاعدة الوسط السني وهذا الامر لو استمر على هذا المنحى فان ركائز المشروع السني سوف تكون ضعيفة بشكل كبير.
عليه فان استراتيجية تشكيل القناعات لهذا التصور الاستراتيجي الخطير وغير المرغوب فيه يمكن ان تتوزع وفق الاتي :
القناعة الاولى ان هذا الامر يمثل لنا المشهد غير المرغوب ولكنه في ذات الوقت مشهد محتمل الوقوع وبالتالي لابد من تهيئ السبل والاليات والتصور للتعامل مع مفردات مثل هذا المشهد ، وان غياب التصور عن مثل هذا الامر هو قريب الشبه بشخص قابع في منزله الخشبي المترهل بينما وراء جدران ذلك البيت تدور عاصفة قوية في طريقها الى البيت ولو اقتربت فانها قادرة لا محالة على اقتلاع البيت من جذوره ، وبينما الامر على هذا المنحى يبقى ذلك الشخص متحصناً في منزله ظناً منه ان في مأمن .
القناعة الثانية ان استراتيجية الهجوم هي افضل وسيلة للدفاع وهذا الامر متفق عليه بين الجميع وبالتالي فان تبني استراتيجية الدفاع عن المشروع الوطني والوحدة الوطنية امام تحديات الانقسام الكبيرة غير قادرة على الصمود وبالتالي فان تأسيس القناعة على اساس ان الهجوم يمثل خير وسيلة للدفاع ويأتي ذلك عبر تبني مثل هذا التصور ليس رغبة به بقدر كونه يمثل امر واقع مفروض ، فلسنا نحن اصحاب المبادرة والسبق في هذا الامر وانما نحن الطرف الذي جرت فوقه مشاريع الانقسام.
القناعة الثالثة اهمية التهيئة لهذا الامر عبر استراتيجية متعددة المحاور تبداء من تشكيل القناعة بضرورة تقبل مثل هذا الامر قبل وقوعه والاستعداد له فكرياً واعلامياً وتنظيمياً ، عبر رسم المشاريع والسيناريوهات المحتملة وامكانية توظيف الحالة بصورة ايجابية .
القناعة الرابعة ان تدعيم مدخلات المشروع الوطني يتم عبر عدة روافد اساسية وواحدة منها المشروع الحالي بغية انقاذ ما يمكن انقاذه وبناء مرتكز اعادة بناء المشروع الوطني ولو لم يتحقق هذا الامر فان نقطة الانهيار لهذا المشروع الوطني ستكون من قلب ساحتنا السنية لانها تمثل للاخرين ساحة الصراع والتنازع الحقيقي.