بعد هذه السنوات الطويلة من التدخل والاحتلال لبلادنا يتولد قدرا كبيرا من التأمل في مسار العلاقة بين الشرق والغرب وتكرار لخططها بكيفية التعامل مع الحرب الدائرة والخطط الحالية والمستقبلية للمنطقة أكثر من التعرف إلى ألأسباب والدوافع لتبرير قرارات خاطئة. إن مواجهة الصراع العسكري من منظور السياسة الخارجية وإنهاء الاحتلال من شانه أن يسمح بمزيد من الفعالية في مواجهة التهديدات التي تعكس الواقع الجغرافي والسياسي والاستراتيجي للعراق .
قضت الحدود التاريخية والجغرافية بأعراف وممارسات موحدة وحددت مهام ومسؤوليات لشعب منطقة الهلال الخصيب لتطوير استراتيجيا خاصة تمكنهم من الاستمرار بشكل أوسع لمواجهة التغييرات في السياسة الدولية والقيام بما يلزم لإعادة تقييم المراحل السابقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا.
فالولايات المتحدة كانت على استعداد تام لكافة تلك المراحل التاريخية التي مرت على المنطقة وكانت تتمتع بالقدرة على القيام بعملية الانتقال في التعامل مع المتغيرات بشكل سريع وبما يلائم مصالحها واستمرار وديمومة مشاريعها ومصالحها في المنطقة وصلت في أحيان كثيرة إلى اتفاقات طويلة الأجل مع الحكومات المحلية تعتزم فيها تشكيل العلاقات القانونية والاقتصادية والثقافية والأمنية بينهما.
من الناحية التاريخية، فان الإطار الذي حدد كيفية مستقبل الدور الأمريكي في المنطقة وملخص السطحية أو الرؤية المرتجلة للأحداث في المنظور الأمريكي ضمن لمؤسسة السياسية العامة في الولايات المتحدة نجاح نظام المصالح الضيقة الخاصة بها في منطقة غير مستقرة من نواحي عدة وتواجه تحديات محلية وإقليمية وعالمية .
فالخلافات المحلية هي بالتأكيد مهمة جدا لكنها ليست أهم المشاكل السياسية، فمن نواح عديدة هناك المشكلة الأكبر وهي عدم النضج للنظام السياسي في المنطقة والصراع على السلطة الذي حدث طوال قرن من الزمن والأبعد من ذلك، كانت حدود السلطة الأمريكية والاتجاه الأمريكي السائد وبشكل متزايد نحو التركيز على الموارد والسيطرة واحتكارها إلى جانب تحديد السلطة هناك. وكما هو الحال في الشرق الأوسط دائما، فإن الوضع في غاية التعقيد فالتنافس على النفوذ وعدم السعي لمعرفة كيفية التعامل مع المتغيرات العالمية ومن جانب آخر ظهور عناصر عدم الاستقرار بسبب تغير التركيز على القضايا الأساسية للبناء الحضاري والتي ستكون في غاية الأهمية لتطوير السياسة العامة للمنطقة فالمسألة الأهم هي ما إذا كنا قادرين على معرفة حقيقة شعبنا والأبعاد التي يمكن أن تصلها الشعوب والمدى لكي يكون الظهور أهم عامل يبحث عن تعبير جديد لما هو في مصلحة الشعوب والاتجاه الوطني.
لقد بدا واضحا أن القرن العشرين كان متعدد الأقطاب. ولكن بعد 50 عاما تقريبا، وبعد حربين عالميتين، وكثير من الصراعات الصغيرة، برز نظام القطبية الثنائية. وبعد ذلك مع نهاية الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفيتي، ألقيت الثنائية القطبية وأضحت أحادية القطب وهو النظام الدولي المهيمن على العالم كقوة واحدة، وفي هذه الحالة كانت الولايات المتحدة. فالعالم اليوم يختلف اختلافا جذريا عن كلاسيكية تعدد الأقطاب: فهناك العديد من مراكز القوى وبالتأكيد لم تكن بلاد الهلال الخصيب واحدة منها، فعدد غير قليل من ألأقطاب هذه ليست من الدول القومية.
وفي الواقع فان واحدة من السمات الأساسية للنظام الدولي المعاصر هو أن الدول القومية فقدت واحتكرت السلطة في بعض المجالات كأولوية أيضا. ويجري تحدي ذلك من جانب المنظمات الإقليمية والعالمية؛ وكذلك من جانب الميليشيات ومن مجموعة متنوعة من المنظمات غير الحكومية والشركات. فهناك العدد الكبير من المنظمات ستكون على لائحة مراكز قوى، بما فيها تلك التي تعتبر على الصعيد العالمي (صندوق النقد الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة، والبنك الدولي)، والإقليمية (كالاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، ورابطة دول جنوب الأمم الآسيوية، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الدول الأمريكية، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي)، وتلك التي تؤدي وظيفتها (كوكالة الطاقة الدولية، منظمة البلدان المصدرة للنفط، منظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة الصحة العالمية). كذلك أيضا، الدول في إطار الدول القومية، مثل كاليفورنيا وولاية اوتار براديش في الهند، والمدن، مثل نيويورك، ساو باولو، وشنغهاي. ثم هناك شركات عالمية واسعة النطاق، بما فيها تلك التي تسيطر على العالم من الطاقة، والمالية، والصناعة التحويلية. كذلك يمكن إدراج الكيانات الأخرى التي تستحق إن تكون كمراكز للقوى كوسائل الإعلام العالمية (الجزيرة، بي بي سي، سي ان ان)، والميليشيات (حزب الله، جيش المهدي، وحركة طالبان، وهناك الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والحركات والمنظمات)، وكارتيلات المخدرات، والمنظمات غير الحكومية الأكثر اعتدالا كمؤسسة بيل وميليندا غيتس، أطباء بلا حدود، منظمة السلام الأخضر.
ومن الناحية التاريخية، كانت هناك لحظات في تاريخ الشعوب والنظرية الواقعية التقليدية من شأنها أن تتنبأ وتفجر عوالم متعددة الاتجاهات. ووفقا لهذا الخط من التفكير، فان الدول الكبرى، عندما تتصرف كما هي متعودة على القيام به، في تحفيز المنافسة مع الآخرين سيشوبه الخوف أو انه سيستاء منه، وحتى لمجرد الاشتراك في هذه النظرية، لكن مما لا شك فيه إن تعدد الأقطاب الذي سيأتي في الوقت المناسب.
لقد وضع مؤرخو السياسة العالمية ثلاثة شروط كمساعدة ناجحة لأي احتلال خارجي في أية منطقة من العالم وطبقته الولايات المتحدة في احتلالها العراق:
الأمر الأول: التوصل إلى فهم مشترك من قبل كل من الدولة المحتلة والشعب المحلي إلى أن الاحتلال هو أمر ضروري. ففي الحالات التاريخية التي تجمع بين ذلك نجد حالة اليابان وألمانيا حيث توصلت شعوبهما إلى الاستنتاج بأن الاحتلال الأجنبي ضروري لوضع حد للحرب والعنف.
أما الأمر الآخر فان البلد المسيطر عليه يجب أن يدرك أن الاحتلال الأجنبي الحاسم أمر ضروري أمام التهديد الخارجي أو الداخلي أو الإقليمي الوشيك. ففي حالتي ألمانيا واليابان كان ينظر إلى التهديد السوفيتي كحقيقية تهدد بعدم احترام سيادة البلدان لذلك سيكون عامل الاحتلال الغربي هو عامل الاستقرار الضروري لمنع ذلك.
أما الأمر الثالث فيجب أن تكون هنالك مصداقية لهذا الاحتلال سواء من حيث المبررات ومصداقية للتنمية في الوقت المناسب. وإذا استوفيت هذه الشروط الثلاثة ، فان هذا الاحتلال لا يمكن له إلا أن ينجح في إقناع السكان بعدم مقاومته وهذا ما كان طوال القرن الماضي من تدخلات غربية واحتلال لمنطقة الهلال الخصيب.
ولعل التحدي المتمثل في استراتيجيات التدخل الغربي في المنطقة تعد اليوم من أهم السياسات المتعلقة بشؤون الدفاع والسياسة الأمنية في الدراسات الإستراتيجية التي تنشر على كافة الصعد لمراكز الأبحاث والدراسات العالمية في هذا الوقت. وربما تكون تقارير فرق التخطيط الأمريكية وإيجاد الهدف من التحول في السياسة الأميركية هو أهم سبب علني موجه ضد الوهم الذاتي والضعف العسكري، والتهديد للسلام اليوم الذي تواجهه القوات والوجود الأمريكي في المنطقة.
اذا أردنا أن نبين الفوضى العقلية السائدة في مراكز البحث والدراسات الأمريكية حول مستقبل المنطقة بعد الفشل الاستراتيجي الذي تواجهه اليوم الإدارة الأمريكية والدول الإقليمية المجاورة والمشاركة بالغزو الأمريكي لبغداد وبعد أكثر من ستين عاما من زرع كيان مغتصب على ارض فلسطين... بعد هذا التاريخ الطويل والحافل بالكثير من المعرفة والمعلوماتية لجميع التفاصيل الحياة المختلفة في المنطقة. لقد تعددت أسباب وصور هذا الصراع والفشل الأمريكي في المنطقة وبعد أن فقدت أمريكا أيضا السلطة المعنوية وقواها الناعمة في المنطقة وبحلول الوقت الذي بدأت الحرب كانت مصداقية أميركا في الحضيض في الشرق الأوسط وفي العديد من البلدان في المنطقة بسبب عدم التوازن والإنصاف في سياستها الخارجية تجاه هذه المنطقة.
ولكن يحق لنا هنا التساؤل عن ماهية هذه المعركة التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية على الأرض العراقية. فالعراقيين يجدون وحتى هذا اليوم صعوبة الفهم في جوهر هذه المعركة وهل تستحق كل هذه التضحيات والخسائر وفي بعض المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة صعب عليها فهم الأساس المنطقي وراء تبرير الاحتلال واستمرار الحرب. فمنهم من وصفها بأنها "حرب من أجل النفط ،" البعض سماها "الحرب الاستعمارية" وآخرون أطلقوا عليها "الحرب بين الخير والشر" ولكن ما هو واضح هو أن المخططين للحرب قد تجاوزوا طموحات التخلص من حاكم بغداد. وكانت الإيديولوجية المتقنة والتي كانت معظم الإدارة الأمريكية تتطلع لإقامة نظام عالمي جديد وخريطة جديدة في الشرق الأوسط بعد كل هذا التاريخ الطويل والحافل في هذه البلاد.
فأمريكا لم تقف من اجل الديمقراطية في الشرق الأوسط في الماضي ولا في الوقت الراهن في ظل هذه الإدارة أو سواها، على الرغم من الخطب الرنانة لان العملية والنتائج والكلف لا يمكن التنبؤ بها لهذا البلد. والديمقراطيات في الشرق الأوسط تاريخيا ليست صديقة للولايات المتحدة على الأقل في البدايات وليس من الحكمة لواشنطن أن تدفع تكاليف هذا عاجلا وليس آجلا. فأمريكا هي أكثر اهتماما في التعامل مع النظام الاستبدادي في الكويت بدلا من الديمقراطية في تركيا أثناء هذا الصراع.
لقد جلبت الحرب والاحتلال للشعب العراقي وللشرق الأوسط الدمار وعدم الاستقرار والتدمير الواسع النطاق من الحرب المعلنة بدأ من نهب المتحف العراقي في الأيام الأولى للاحتلال إلى ما امتد إلى التدمير الكامل للمدن الكبرى في العراق لا سيما بغداد التي تم تطهيرها عرقيا تماما. هذه البلاد التي حرصت الوثائق التاريخية لدخول المصالح الأمريكية إليها من اجل التنمية.
فواشنطن قد تجاهلت كليا الرأي العام العراقي في هذا الصراع وهي مقصرة في هذا الأمر تجاه تجاهلهم المسؤولية الأخلاقية والمعنوية للعراقيين في هذا الصراع، واستمرار الأخطاء الأمريكية في العراق سيحددان بالتأكيد الخطوات المستقبلية التي ستقوم به الإدارة الأمريكية تجاه العراق.
وحيلة الولايات المتحدة في العراق لم تقف عند هذا الحد ولابد لنا من الاعتراف أن المخطط الاستراتيجي الأمريكي نجح في العراق وعلى الأقل في تعزيز مفاهيم جديدة أدت إلى تغير في قناعات الرأي العام العراقي بشكل كبير تجاه الوجود الأمريكي في بلاده, ومن ذلك برزت قناعات جديدة بان الاحتلال والتهديد الإيراني على العراق هو اشد ضررا وتدميرا في العراق من التهديد والوجود الأمريكي الغير دائم فيه وهذا ما أدى إلى تخلي البعض عن مقاومة المحتل الأمريكي والتوجه نحو الوقوف خلف الوجود الأمريكي العسكري لمواجهة التهديدات الإيرانية وهو ما شابه الحالة في ألمانيا بعد الحرب تجاه التهديد السوفيتي آنذاك.
والذي زاد من ذلك السياسة الباردة الأمريكية الجديدة تجاه إيران من التهويل الكبير للخطر الإيراني وتوسيع نفوذه وحالة الحرب واللاحرب مع إيران والتي ستعيدنا إلى أجواء الحرب الباردة التي استمرت أكثر من خمسين عاما, ولعل هذا السيناريو يتكرر في العراق بعدما فشلت سيناريوهات كثيرة رسمت في العراق خلال سنوات الاحتلال السابقة ولذلك ستكون سلطات الاحتلال هي عامل الاستقرار الضروري لمنع التوسع للنفوذ الإيراني في العراق والمنطقة. إن مصداقية الاحتلال اليوم قد تغيرت أو في طريقها إلى التغيير فبعد محاولات الاعتذار غير العلنية عن السياسات السابقة الفاشلة جرت محاولات لتغيير قناعات في مصداقية الاحتلال من خلال تغيير وجوه الإدارة الأمريكية كفرصة جيدة لمراجعة بعض القرارات المهمة كجدولة لانسحاب القوات وغيرها لتجعلها مناسبة لبقاء طويل للقوات الأمريكية المحتلة لسنين أخرى.
وبعد هذه السنوات الطويلة من التدخل والاحتلال الأمريكي في بلادنا يتولد قدرا كبيرا من التأمل في مسار العلاقة بين الشرق والغرب وتكرار لخططها بكيفية التعامل مع الحرب الدائرة والخطط الحالية والمستقبلية للمنطقة أكثر من التعرف إلى ألأسباب والدوافع لتبرير قرارات خاطئة. إن مواجهة الصراع العسكري من منظور السياسة الخارجية وإنهاء الاحتلال من شانه أن يسمح بمزيد من الفعالية في مواجهة التهديدات التي تعكس الواقع الجغرافي والسياسي والاستراتيجي للعراق .