14 Jul
14Jul

البعد التاريخي للعلاقة بين الهلال والصليب

عصور الايمان _ الحروب الصليبية

عرفت العصور الوسطى في اوربا الغربية بسيادة الكنيسة ورجالها على مقاليد الامور حتى سميت تلك العصور بعصور الايمان, اذ انتعشت النزعة الدينية بشكل واضح في تلك الفترة وتماشت مع طبيعة الظروف التي امتازت بها والتي كانت من مظاهرها انشاء الاديرة وتوسيع نشاطاتها والتي مكنت لها الكنيسة الكاثيولوكية ان تسهم بدور فعال بنهضة مسيحية جديدة لتحقيق السياسة البابوية في داخل اوربا وحيث كانت الكنيسة تملك الكثير من الاقطاعيات الزراعية وكانت لها قوات عسكرية لفرض سيطرتها او في خارج اوربا, حيث كانت الاديرة مكرسة لمواجهة التحديات المتمثلة بخطر الانقلاب المسيحي والمحاولة في اقامة الوحدة الكنسية من خلال سحق الاسلام بحربه.

ودفعت عوامل اخرى الى بروز الظاهرة الصليبية بشكلها السياسي والعسكري من خلال سعي الكنيسة في هذا الاتجاه الى احتواء الازمات التي كان يعاني منها الغرب من خلال احتواء القوى السياسية المتناحرة للسيطرة على ازماتها الداخلية والتي ادت الى تعزيز قدرة البابوية الى امتلاك القرار الاوربي. كذلك كان تقدم مواقع الكنيسة من خلال تقدم سعيها لتنامي شرعيتها كشرعية عالمية لسلطة الكنيسة وهي رغبة ازدادت وضوحا بشكل مطرد[1].

 

والى جانب تلك الاهداف والعوامل التي اعلنتها البابوية في حروبها الصليبية والتي كانت بمجملها اهدافا دينية في اطارها العام الا انها لم تخلو من دوافع اقتصادية , والتي لم تكن لتقلل من قيمة الدوافع الدينية والسياسية البابوية تجاه الشرق المسلم بقدر ما كانت عامل استثمار وتشجيع وتمويل لتلك السياسة الهادفة الى احتلال الشرق الاسلامي.

 

حيث ارتبطت تلك الدوافع الدينية والاقتصادية وامتزجت في ان واحد وفي تلك الفترة وما تلاها وحتى وقتنا الحاضر. غير انه في تلك الفترة وجدت من دولة لها في فرنسا كبلد يمكن الانطلاق منه وان تتبوأ فيها دورها الحاسم في تلك الحروب رغم كل الظروف التي كانت تلك البلاد تعاني منه انذاك.

 


       واندفعت اوربا في ذلك الاتجاه مستجيبة لنداء البابا والذي اعلن وجوب نجدة النصارى في الشرق المسلم وتخليص قبر المسيح ومهده من ايدي المسلمين ونشر روح المسيحية فيه وهذه الاهداف كانت جزأ من مهما من المشروع البابوي في اساسه وكانت من الاهداف المعلنة لتلك الحملات ومن مستلزمات العدوان على العالم الاسلامي[2].

 

ورغم ان نتائج الحملات الصليبية الاولى لم تكن مشجعة الا ان استمراريتها جعلتها تنجح في الاقامة في الشرق الاسلامي, اذ احتلت بيت المقدس والمدن الساحلية لبلاد الشام واقام الصليبيون مملكتهم اللاتينية في القدس وتمكنوا من الاقامة والاستيطان فيها. ومنذ ان توالت الحملات الصليبية الاخرى ونجحت في غزوها والاستيطان على الاراضي الاسلامية وضعت الكنيسة الخطوات العملية لتنفيذ سياستها في الشرق المسلم والتي تمثلت بانشاء الرهبانيات التبشيرية الجديدة التي تعمل على الاتصال بالكنائس الشرقية بهدف احتوائها والانضمام وانتماء لكنيسة بابا روما الكاثيوليكية, وكذلك انشاء رهبانيات بندكية ينحصر عملها في دراسة العالم الاسلامي ودراسة الاسلام وافكاره وعقائده للرد عليها ووقف تقدم الاسلام من الداخل اذا ما فشلت محاولات استخدام القوة العسكرية في ذلك, ثم في محاولة بث المسيحية الكاثيلوكية بين ابنائه بعذ معرفة طبائعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

 


 والهدف الاخر من انشاء تلك الرهبانيات هو ربط اواصر العلاقات بين الغرب المسيحي وبين امم وشعوب يمكن التحالف معهم لضرب مصالح العالم الاسلامي والعمل على محاصرته من الشرق والغرب والذي تمثل ذلك في العلاقات الكنسية الغربية- المغولية وقد قام بهذه المهمة الرهبان والمبشرين والذين كانوا يتوافدون على البلاط المغولي لهذا الغرض فكان استخدام السفراء المبشرين اساس ارساء العلاقات الصليبية مع الامم الاخرى[3].  

 

ولم يكن الدور الذي اسهم به المبشرون الفرنسيسكان منحصرا في تحريض المغول وللتحالف مع الصليبين لاحتلال الشرق المسلم من جهة الشرق والذي قد اسهم بشكل كبير في الوقوف الى جانبهم والاستعانة بهم ضد اعدائهم المسلمين فحسب وانما كانت محاولاتهم لاستمالة المغول للمسيحية الكاثيولوكية من جهة اخرى دور بارز في مهماتهم الخارجية.

 

وهنا لابد من الاشارة انه في تلك الفترة فان الحروب الصليبية تركت اثرا سلبيا وسيئا لدى اتباع الكنيسة الشرقية الارثذوكسية, حيث تعاملت تلك الحملات مع اتباع هذه الكنيسة على انهم هراقطة مثلهم مثل المسلمين وقاموا بابادة عدد منهم وقاموا بهدم العديد من الكنائس والاديرة التابعة لهم. ومن جهة اخرى قام المبشرون الفرنسيسكان بدعوى النصارى الشرقيين الى اعتناق العقيدة الكاثيوليكية وابداء الطاعة والولاء لبابا روما واستخدموا احداث الفتن والاختلافات بين الزعامات الروحية للنصارى الشرقيين بهدف استغلالها في هذا الاتجاه .

 


كذلك كان التركيز على الجانب العلمي قد انطلق انذاك عن اهداف تبشيرية باعتبار ان تكون العلوم الصرفة والعلوم التجريبية في خدمة الكنيسة وان يهئ لها اسباب النجاح في مهماتها, والتي كانت تلك المهمات تتلخص في دراسة الجانب العلمي والحضاري الذي انجزه الاسلام والتعرف على طبيعته ونقله الى اوربا المسيحية للاستفادة منه والتعرف عليه خاصة في مجال الدعائم الفكرية, وفي هذا الاطار نشطت الحركة العلمية والترجمة لنقل العلوم والاداب التي كانت في الشرق الاسلامي من خلال دراسة عدد كبير من المبشرين في علمي اللاهوت والفلسفة وبانشاء المعاهد والمدارس والجامعات لهذه الاغراض التبشيرية ولحربهم الصليبية بتسليم الكنيسة البابوية لزعامتها للعالم المسيحي في الشرق كما في الغرب[4].

 

وبعد ان فشل العمل العسكري كمشروع صليبي في الاحتفاظ بالاماكن المقدسة في بلاد الشام بسبب محاولات المسلمين المستمرة والمتكررة لاستعادة وتحرير مقدساتهم وبعد تنامي اهمية الجانب العلمي والفكري والعقلي في تكوين العمل التبشيري والتنصيري من خلال الاحتكاك الفكري بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي جاءت الحاجة الى تكوين وارساء وبناء الارساليات التبشيرية في عموم مناطق الشرق المسلم كمحاولة اخرى في سبيل انجاح المشروع الصليبي والذي لم يكن مستندا انذاك الى رؤية تاريخية سليمة في التعامل مع الاسلام ومنطلقاته الحضارية, ذلك لان اصحاب هذا المشروع قد تمسكوا برؤية وتصورات الكنيسة عن الاسلام كونه الكفر والمسلمين باعتبارهم الاعداء الحقيقيين للمسيحية الغربية وغلب تلك العلاقة محاولات اجتثاث الاسلام بالوسائل العسكرية واحتواء خصوصيات الكنائس الشرقية ومحوها وهو ما افرز مدى تناقض الواقع التاريخي والموضوعي بين تلك الاراء وواقع الاسلام والمسلمين في بلادهم[5].   

 

      لذلك منعت هذه التصورات اوربا المسيحية والكنيسة البابوية من قيام علاقات وحقيقية مع الشرق العربي الاسلامي واستثمارها في مجال التبشير والتنصير, الامر الذي ادى الى عدم حصول نتائج مثمرة للمشروع الصليبي في المنطقة.

 

كما ان هذه السياسة الصليبية والتي كانت تنتهجها الكنيسة كانت ذا طابع عدائي وذلك بتاثير الافكار التي كانت تتبناها الكنيسة, ورغم هذا فقد ادركت الكنيسة الكاثيولوكية ان الحملات الصليبية سوف لن تنجح وانه لابد من التفكير باتجاه جديد يختلف عن وظيفته واستراتيجيته عن الغزو العسكري وذلك باتباع ما عرف بالغزو الفكري اذا ما ارادوا التغلب على المسلمين, فاحتاج الغرب في هذه المرحلة الى معرفة الاسلام وحقيقة اهله ومعرفة مصادر قوته وتكوين رؤية واضحة وموضوعية عن الشرق العربي الاسلامي وكان للرهبان المبشرين السبق واول الدعاة الى قبول هذا النهج الجديد في هذا الصراع بين الهلال والصليب.

 


كانت في بداية القرن الرابع عشر ، قد بدات نهضة عملية، انبثقت من الكنيسة وركزت في مجالات الدراسات اللاهوتية والفلسفة وكان يقود هذه النهضة المؤسسات الدينية التابعة للكنيسة، وكان جل القائمين بها من المبشرين التابعين للإرساليات التبشيرية. فقد تبين للكنيسة الكاثوليكية مدى أهمية العلم والثقافة لهذه العلاقة، من حيث تكوين رؤية واضحة وموضوعية عن الشرق العربي الإسلامي ونبذ الأساليب الأنانية والانفعالية، لمعرفة الشرق على حقيقته، لا كما تصوره أساطير القرون الوسطى، وحكايات آباء الكنيسة في تلك العصور، التي لا تستند إلى أصل علمي[6]. 

 

واحتاج الغرب في هذه المرحلة إلى معرفة حقيقة الإسلام وأهله، ومعرفة مكامن الضعف، ومكامن القوة في هذا الدين لغرض التركيز عليها، وكانت هذه الحاجة للمعرفة لغرض لتحليل الإسلام، وتفكيكه، وسحقه فكرياً وعقائديا، وفي نفوس أبنائه وأدركوا أن هذا هو الطريق الوحيد للتغلب على المسلمين.

 


غير إن الأوربيين بدا وكأنهم منقسمين إلى معسكرين في هذه الحقبة، الأول يدعو إلى إنهاء الحملات الصليبية، إذ لا أمل في نجاحها، أما الثاني فكان يدعو إلى استمرارها ودعمها، أكثر مما كان قد تحقق. وكان كلا الطرفين يعرف أنه لم يعد ممكناً التصرف بتهور أو إتباع المخاطرات كما حدث في الماضي[7].

 

وكان إدراك هذه الحقيقة وحدها كفيل برجحان كفة التبشير الذي يستند إلى وسائل وأغطية سلمية، على مجرد إعلان الحرب المقدسة وتجيش الجيوش.

 

ولقد أدرك أعداء الإسلام بين الأوربيين و(الذين يمثلون البابوية ومبشريها) أن الصراع العسكري مع الاسلام لا يكفي لإسقاطه، إنه لابد من الانشغال أعمق بفهم مضامينه ومحاولة نقضها، وكانت حجتهم في إقبالهم على دراسة الإسلام هو تشكيكهم بصحة عقيدته، ودفع الجنود الأوربيين لمزيد من الضراوة والانتقام عن طريق التركيز على قوة الإسلام العسكرية .

 

لاشك أن هذا الفريق الذي كان يدفع إلى دراسة الإسلام بشكل معمق هم الرهبان المبشرون الذين كانوا قد خبروا الشرق الإسلامي وعرفوا عنه الكثير من خلال جولاتهم التبشيرية التي قاموا بها طيلة الحروب الصليبية .

 


وفي عام ( 1306 ) أطلق المبشر بيار دوبوا الفرنسي مشروعاً استعمارياً لاسترجاع الأراضي المقدسة ، واستعمار الشرق الإسلامي من قبل شعوب أوربا المسيحية بقيادة ملك فرنسا ، فنادى بإنشاء مدارس لغات يتم فيها تأهيل الموظفين والضباط والمفاوضين والأطباء والمرسلين، وكذلك الفتيات الأوربيات اللواتي يمكن تزويجهن لاحقاً من زعماء شرقيين، غير ان هذا البرنامج لم يتحقق بسبب   انعدام الأعداد والوسائل، لكن اهميته برزت على الأقل حينما اثيرت هكذا مسائل في ذلك الوقت[8].

 

والحقيقة أن السياسة البابوية ، التي كانت قد ركزت اهتمامها تجاه الإسلام الذي بأن العدو اللدود والخصم الأوحد الذي يقف في وجه مخططاتها ، ليس في المنطقة العربية فحسب ، بل أصبح تهديده لمخططاتها يشمل تلك الرقعة الفسيحة والكبيرة التي انتشرت حتى داخل حدود الصين ، ولم تكن الأديان والإيديولوجيات الأخرى ، التي كانت منتشرة هنا وهناك تشكل خطراً على المشروع المسيحي العالمي ، لذلك كانت منذ وقت مبكر من نهاية الحروب الصليبية ، قد اتخذت خطوات في غاية الأهمية شكلت اللبنات الأساسية لسياستها اتجاه الشرق المسلم ، والتي كانت مسئولة عن تطوير الخطوات الفكرية والعملية نحو ( الاختراق السلمي للإسلام ) وسحقه من الداخل .

 


وربما كان دير كلوني البندكتي ، يشكل معلماً بارزاً ، وبداية مبكرة للتفكير في هذا الاتجاه، للعمل الضخم الذي قدمه (بطرس المبجل) Petrus venerable الذي كان يترأسه، عندما رعى أول ترجمة للقرآن باللاتينية [9]، فهذه الترجمة التي قام بها (روبرت كتون) Robert Ketton ومولها بطرس المبجل 1134م ، شكلت المعلم البارز والأساسي للدراسات الإسلامية في أوربا الغربية . وقدمت الترجمة القرآنية للغرب الركيزة الأساسية والمأمونة للبدء بدراسات حقيقية حول الإسلام .

 

ولم يكن ذلك الذي طرحه بطرس المبجل، إلا عقب الحملة الصليبية الأولى التي حققت في سنواتها الأولى نجاحات كبرى، وعانت بعدها في حوالي منتصف القرن الثاني عشر خسائر ضخمة وهزائم ساحقة وفقدت بعض المواقع .

 

حيث أدرك بطرس المبجل أن الإسلام يشكل خطورة فكرية وعقيدية على الغرب المسيحي، الكاثوليكي، وقد أدرك هذا الخطر نتيجة لاعتناق بعض المسيحيين الأوربيين الإسلام، حتى دعا إلى ضرورة " إعادة " المسلمين إلى " المسيحية الصحيحة ".

 


كانت الظروف التي تمر بها أوربا في الداخل في بداية القرن الثالث عشر من تنامي الحركة العلمية، وفي الخارج من تراجع المشروع الصليبي، قد أكدت الاتجاه نحو ما يسمى بـ( التبشير السلمي ) أو التبشير بالكلمة. وأخذت الإرساليات التبشيرية على عاتقها تنفيذ ذلك المشروع . الذي تميز بمراحل متعددة دون أن يكون له ارتباط بسقف زمني محدد[10].

 

 حيث كانت تلك المراحل تؤكد على دراسة الشرق الإسلامي كتاريخ وأمة ودين ولغة، لكي تتمكن من معرفة الخصائص التي يمتاز بها المقومات التي تحدد طبيعة الحياة فيها. والتشكيك بتلك الخصائص والمقومات لهدمها في نفوس أبناء الشرق الإسلامي، ومن بعد ذلك الاستحواذ على الشرق العربي الإسلامي ، لكثلكة أبنائه المسيحيين، وتنصير أبنائه المسلمين .

 


لقد تطورت مفاهيم التبشير وأخذت تتطور تطوراً واسعاً وعميقاً ، وخاصة في مجال، موقف السياسة الكنسية من المسيحيين الشرقيين ، حيث أصبحوا مادة التبشير الأساسية التي اتخذتها تلك السياسة بعد أن كان التبشير في عصر الدولة الرومانية هو العمل على إخضاع الشعوب الوثنية لسيادتها عن طريق إرسال المبشرين إلى تلك الشعوب ودعم التبشير فيها[11] .

 

كذلك أخذ التبشير بعداً آخر بعد ظهور الإسلام وتكوين الدولة العربية الإسلامية أصبح التبشير العمل على تنصير القبائل العربية ، وجعلها تعمل في إطار السياسة الرومانية في المنطقة ، إلا أن فشل احتواء الإسلام منذ البداية ، جعل الكنيسة الكاثوليكية تتخذ طريقاً لسحق الإسلام بالقوة العسكرية، متجاوزة الكثير من الضرورات الأخلاقية التي أسست المسيحية عليها أساس العمل
التبشيري .

 


لقد اقتضت المراحل الاولية، أن يعرف المبشر لغة المرسل إليهم والوسائل التي تجذبهم ، وأن يعلم طرائق حياتهم ومعيشتهم ، بعد ذلك تقتضي المرحلة الثانية كيفية الهجوم على الديانة المتوطنة لديهم ، وكيفية التشكيك بقيمتها ، ثم كيفية الدعوة إلى المسيحية في المرحلتين الثانية والثالثة ، ودراسة أحدث الوسائل العقلية والعملية لتشويه الأديان الأخرى لدى المسيحيين أنفسهم. وقد اتخذت البابوية خطوات جادة وعملية لتنفيذ تلك السياسة التي استقرت عليها[12] .

 

كانت أولى تلك الخطوات العملية في هذا الاتجاه هو التطور العلمي الذي دفعت إليه الكنيسة الكاثوليكية والإرساليات التبشيرية في مؤسسات التعليم بمختلف مراحله ، والذي شهد تطوراً ملموساً في تلك الأثناء ، كما رسمت لها سياسة التعليم فيها ، فقد شهد القرن لثالث عشر إنشاء الكثير من المدارس الدينية داخل الكنائس والأديرة وكان التعليم فيها منصباً على تعليم اللاهوت والإنجيل ، وكان قد أخذ منحاً دينياً بحتاً ، كما كان هناك مدارس نشأة في الأسقفيات في مراكز المدن، وكانت هذه المدارس الأسقفية تعني كذلك بدراسة الإنجيل واللاهوت والموسيقى الدينية وسير القديسين المليئة بالخرافات والأساطير ، وكان هدف التعليم في هذه المدارس ، إعداد النشء ليصبحوا من جملة رجال الدين والرهبان لمبشرين.

 


كذلك قامت الإرساليات التبشيرية من الفرنسيسكان والدومنيكان والبندكتين بإنشاء المدارس الدينية والعلمية، والتي كانت تنهل معظم علومها في المجالات العلمية والفلسفة واللغوية، من المترجمات التي كان يقدمها الرهبان المبشرون من الشرق العربي الإسلامي من الأندلس وصقليا ومناطق بلاد الشام. وقد انتشرت هذه المدارس في معظم أنحاء أوربا، وقد كان المبشرون الدومنيكان على نحو خاص هم الذين يتولون عمليات التوجه والتدريس فيها ضمن إطار الخطة البابوية. لتعبئة الرأي العام الأوربي ، وخلق وعي مسيحي تبشيري في أوربا[13] .

 

كما أوعزت البابوية لرهبان الإرساليات التبشيرية بإقامة وإنشاء عدد من الجامعات في غرب أوربا في إطار نفس الأهداف ، فأقيمت جامعة باريس التي كانت مدرسة أسقفية وكان يطلق عليها ( مدرس باريس الأسقفية ) ثم تحولت إلى جامعة لدراسة اللاهوت والمنطق وكان مديرها رئيس أساقفة باريس ، وكانت البابوية هي التي أنشأتها في البداية ، وكانت مشبعة بالجو الديني الأسقفي ، وقد تخرج منها البابا أنوسنت الثالث ، كما قامت البابوية بإنشاء جامعة تولوز لتكون سنداً لها في مكافحة بعض حركات الهرطقة ، كما أنشأت جامعة (أكسفورد) oxford عام 1167م على غرار جامعة باريس ، وقد خصصت فيها كراسي لدراسة العبرية والعربية والكلدانية والسريانية وقدمت على غيرها من اللغات ، أما جامعة كمبردج التي أنشأت عام 1209 وعلمت فيها اللغات الشرقية وكان فيها ثلاثمائة طالب[14].

 

فقد كان لابد من إنشاء جامعات تعني بدراسة العلوم الزمنية ، والعلوم الأخرى التي لها علاقة بالتبشير بالشرق العربي الإسلامي ، إلا أن الباباوات في روما ، كانوا قد حرموا ولعدة مرات الكهنة والعلمانيين والرهبان من درس العلوم الزمنية ( غير اللاهوتية ) ومع ذلك ثمة مدارس رهبانية كانت تحافظ على تدريس تلك العلوم لكي لا تضمحل ، وعندما ظهر الفرنسيسكان والدومنيكان ، اتخذوا عام 1228م موقفاً فيه الكثير من الحزم الذي قضت به الأوامر البابوية ، وهي عدم تدريس تلك العلوم ، إلا أن يمنح أحياناً رؤساء الرهبانية أو الجمع العام بعض الإعفاءات الفردية ، ووجهوا رجال الدين الشباب للانقطاع لدراسات اللاهوت[15].

 

لقد جاء هذا التشديد والحزم ، إثر تطور العلاقات بين الشرق والغرب بسبب الحروب الصليبية ، والخوف المتزايد من تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية، التي أخذ بعض الرهبان البندكتين يدعون للبحث فيها ، والتي كانت تعتبرها البابوية هرطقة خطيرة تنبغي اجتنابها . إلا أن الغاية الأساسية للبابوية من إنشاء الرهبانيات التبشيرية كانت لبث لهم أنه لا سبيل إلى نجاح هذا المشروع إلا بتعليم لغات الشرقيين ولاسيما اللغة العربية.

 


كما أدرك المبشرون من الدومنيكان والفرنسيسكان والبندكتين، أنه من غير ثقافة، ومن غير لغات، لا تكون رسالة ولا يكون هناك تبشير، ولهذا سارعوا إلى تغيير موقفهم ، وجاهروا به ، خلال مدة وجيزة ، وقد تكاثفت الجهود على الاهتمام باللغات الشرقية وعلومها في الكنائس والأديار والجامعات ، وجدت تحولات سريعة بهذا الشأن[16].

 

فقد تعلم رهبان الإرساليات التبشيرية اللغات الشرقية وعلموها في أديارهم وكبرى الجامعات التي أقاموها لهذا الغرض ، حيث كان الفرنسيسكان مثلاً مسيطرين على جامعات إنكلترا وخاصة أكسفورد ، كما كان لهم حضوراً قوياً في الجامعات الفرنسية ، وقد كان هناك مدارس خاصة للفرنسيسكان داخل الجامعات البريطانية.

 

وفي هذا الإطار نفسه أنشأت جامعة السوربون في باريس ، التي أقامها الأب الراهب روبير دي سوربون ( 1201-1274 ) كاهن الملك لويس التاسع والتي أقيمت عام 1253م. كما قام مجمع ( طليطلة ) الكنسي 1250م الإنفاق على ثمانية من المبشرين الرهبان من الإرساليات الدومنيكانية وعلى رأسهم وايموند مارتيني ، كانوا قد انقطعوا لدراسة اللغة العربية ، وصنف أحدهم أول معجم عربي – أسباني ، وقد أرسل بعض زملائهم إلى باريس ، لتعلم اليونانية والعربية والعبرية في كتلونيا ، وفي سنة 1261م صنف أحد هؤلاء الرهبان كتاباً عن الإسلام أهداه إلى البابا غريغوريوس ( 1271-1276 ) .

 


وقد انتشرت مدراس الرهبان العربية في اشبيلية 1250م وميوركا 1255م وبرشلونة 1259م وبلنسية 1281 . وقد تطورت بعض مدارس الأسقفيات (الكاتدرائيات ) إلى جامعات نالت عناية فائقة من الباباوات والملوك ومن أشهرها جامعة بلنسيا 1208م ومعهد الدراسات الشرقية في طليطلة 1250 وجامعة بالما عام 1280 وجامعة لشبونة 1290م وجامعة لريدا 1300م وجامعة بلد الوليد 1304م[17].

 

لقد اشتملت جهود الكنيسة الكاثوليكية ومبشريها الرهبان على الاهتمام بدراسة اللغات الشرقية ذات الصلة بالجهد التبشيري ، وأماكن نشاطه وفاعليته . في الوسط العربي الإسلامي ، ومناطق نفوذ وانتشار الكنائس الشرقية الأرثوذكسية والنسطورية . وكان ذلك من الطبيعي ما أولاه المبشرين في القرن الثالث عشر من اهتمام بدارسة العربية وآدابها ، وكذلك الاهتمام بالقرآن الكريم وعلومه ، كما أقبلوا على دراسة اللغة اليونانية ، لأنها لغة العبادة والثقافة في الكنيسة الأرثوذكسية ، إلى جانب اللغة السريانية ، أو اللغة الكلدانية التي هي لغة الكنيسة النسطورية[18] .

 

وقد أولى هذا الاهتمام المبشرون الفرنسيسكان ( الفدير ) على نحو خاص ، فقد كان المبشر الفرنسيسكاني ( هايمون دو فافرشام) Hamon de Fivershum  يجيد اللغة اليونانية ، وكان أحد أعضاء المدرسة الفرنسيسكانية في جامعة أكسفورد، كما كان المبشر ( غليوم دو لاميف) Guillaume de lamave  1285 قد تخصص في الفقه اللغوي ، وكان محققاً للتوراة ، وامتاز بمعرفته الجيدة للغتين العبرية واليونانية. أما المبشر ( روجر باكون ) Roger Bacon  1292 والذي كان ينتمي إلى جامعة أكسفورد فقد اهتم باللغات الشرقية ، وكان يفتخر بقدرته على تعليم أي لغة شرقية بوقت قياسي من غير تحديد للأعمار بل حتى للأولاد الصغار ، ويؤكد باكون على أهمية تعلم اللغات الشرقية بقوله ( لن يكون اللاتين ليبلغوا الحكمة ، إلا أن يعرفوا اليونانية والعربية والكلدانية والعبرية ، لأنها لغة الوحي الأصيلة ) [19].

 

ولدعم السياسية البابوية في هذا الاتجاه ، قام الرهبان المبشرون بتدريس العلوم العملية التي ترتبط بالتبشير، إلى جانب تدريس اللغات الشرقية في الجامعات والمعاهد التي أقامتها في مختلف أنحاء أوربا، وقد ركزت على علوم الطب إلى جانب اللغات الشرقية، وهما الوسيلتان اللتان تتصلان بالتبشير اتصالاً مباشراً، فقد أقيمت جامعة بولونيا بإيطاليا والتي اشتهرت بالقانون وأخرى في سالرنو والتي اشتهرت كذلك بالقانون، وأخرى في جنوب إيطاليا كانت تشتهر بدراسة الطب، فيما كانت جامعة باريس تختص بدراسة اللاهوت، وقد كانت هذه الجامعات تدرس الدراسات العليا على أن تكون من بينها على الأقل مواد الاختصاص التالية اللاهوت أو الطب أو القانون . وقد كانت معظم الجامعات تعمل في إطار هذه السياسة[20].

 

كما قامت البابوية لأجل الحصول على معلومات موسعة عن الشرق العربي الإسلامي ولتسهيل عمل الإرساليات التبشيرية ومراكزها العلمية إيجاد مجموعة من مراكز الترجمة التي نشرتها في المراكز المهمة من أوربا الغربية، وقامت البابوية برعايتها وتمويلها . فقد كان هناك خمسة مراكز الأول في أسبانيا وبالأخص في طليطلة ، تنقل فيها الكتب العربية . والمركز الثاني في إنكلترا أي جامعة أكسفورد ، والمركز الثالث في ايطاليا في البلاط الملكي لكل من نابولي وصقلية ، والمركز الرابع البلاط البابوي. والمركز الخامس القسطنطينية. وكان الصليبيون قد احتلوها عام 1204م وأسسوا فيها الإمبراطورية اللاتينية حتى عام 1261م فقصد إليها المبشرون الفرنسيون وأساتذة من جامعة باريس حيث اشتغلوا بالنقل عن اليونانية[21].

 

استمرت السياسة البابوية في هذا الاتجاه ، وأثارت في المبشرين نشاطاً محموماً باتجاه الشرق العربي الإسلامي. فقد نشط في هذا الاتجاه ، أحد أكبر المبشرين الفرنسيسكان وأكثرهم جرأة وخطورة وهو المبشر رايموند لول R .laliou ( 1235-1314 ) الذي كان يتحمس للعلم التبشيري بين المسلمين بهدف( التنصير )، وكان يعيش في أسبانيا ملتقى الامتزاج بين الإسلام والمسيحية وكان يشهد في ذلك الوقت تقهقر القوة الإسلامية هناك وضعفها ، تعلم العربية وحفظ القرآن الكريم على يد عبد أسود لمدة تسع سنوات ثم قصد باريس ، وانضم إلى الرهبنة الفرنسيسكانية وبعد عودته إلى أسبانيا أقنع ملك ( البرتغال ) عام1276 بإنشاء مدرسة في ( ميرا مار ) لتدريس اللغة العربية لأغراض التبشير والتنصير، فأشرف عليها، فتخرج منها أكثر من ثلاثة عشر راهباً ومبشراً، وقد صنف كتباً كثيرة في الرد على المسلمين ، وبلغت به الحماسة ، أنه كان يثير المسلمين ويستفزهم بنقاشه إياهم حتى سجن في تونس ، ومرة أخرى في الجزائر ، وهناك تم رجمه بالحجارة من قبل الجمهور . وقد بذل قصارى جهده لإثارة اهتمام الكنيسة الكاثوليكية والملوك المسيحيين لتعليم اللغات الشرقية في جامعات أوربا[22].

 

بعد ذلك وضمن السياسة البابوية ، أمر البابا كليمنصمس الخامس في مجمع فينا الكاثوليكي 1113-1132بإنشاء ، كراسي للعبرانية والعربية والكلدانية في أربعة جامعات رئيسية في أوربا ، باريس وأكسفورد وبولونيا وسلمنكة ، والتي توزعت في الدول الكاثوليكية الأربعة التي تبنت السياسة الصليبية تجاه المشرق العربي الإسلامي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا [23].

 

ثم أمر بإنشاء جامعة خامسة في البلاط البابوي ، مع تنصيب أستاذين لكل منهما وتكليفهم بترجمة نصوص عبرية وعربية وكلدانية للرد على منتقدي الدين( المسيحية الكاثوليكية ) ، وقد مضى ريموند لول هذا المجمع حيث شاهد مساعيه تكلل بالنجاح، وقد ظل هذا القرار أصلاً من أصول القانون الكنسي أكثر من خمسمائة سنة ، وقد كانت الكراسي التي تدرس اللغات الشرقية في روما على نفقة الكنيسة البابوية ، أما جامعة باريس فكانت على نفقة ملك فرنسا المعروف بتعصبه لهذا المشروع الصليبي وقد كانت البابوية تنفق على عشرين طالباً أكليديكياً في شرق باريس بقرارات بابوية . أما الكراسي التي تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد فكانت على نفقة ملك إنكلترا وبولونيا وسلمنكة على نفقة رجال الكنيسة الكاثوليكية في كلا البلدين.

 

وقد تمخض عن هذه السياسة والنشاطات المنبثقة عنها التوصية بإنشاء مجمع عام وكبير يشرف على سياسة التبشير، ونشاطات الإرساليات التبشيرية في أرجاء الأرض وكان ذلك منذ بداية القرن الرابع عشر إلا أنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا بعد ثلاثة قرون .

 

كما زاد من اهتمام الغرب المسيحي بالشرق العربي الإسلامي ، زيادة المعلومات التي حصل عليها ( الصليبيون ) العائدون إلى أوربا ، إذ كانوا يحملون الكثير من الذكريات التي تدفع النفوس إلى التجوال في تلك الأمصار ، للذهاب لغرض هداية (الهراطقة الساكنين في بلاد المشرق).

 


وقد كان الشباب الفرنسيين اكثر شباب اوربا حماسة فيما يتعلق بالشرق, فقد كانوا يتلقون تعليماً أولياً في ( كلية لويس الكبير ) في باريس قبل الالتحاق بمدرسة ( جوفاني ) ، وكانت جميع المؤسسات التعليمية العالية في فرنسا تعود إدارتها ومنهاجها للإرساليات التبشيرية . التي كانت متخصصة بدراسة الشرق العربي الإسلامي وتاريخه ولغاته وأديانه .حيث كانت  الكلية الملكية قد عدت قمة التعليم الفرنسي العالي وكانت مهمة هذه الكلية ألاساسي المعرفة في مجال الشرق العربي الإسلامي. كذلك كانت المكتبة الملكية الوطنية في باريس في ذات الفترة والتي كان هدفها الحصول على المخطوطات الشرقية ودراستها والمحافظة عليها، وقد حاولت الحصول على كثير من المخطوطات التي تخص المنطقة بهدف تنمية المعرفة بالشرق الإسلامي وتوسيعها وتعميقها ، بما يخدم ، أهداف الإرساليات التبشيرية والمصالح الفرنسية [24].

 

      وقد أقيم في إطار ( السياسة المسيحية الفرنسية ) أول كرسي لدراسة اللغة العربية في (الكولج دي فرانس France de College) وقد اعتلى هذا الكرسي رجل دين ومبشر معروف هو ( غليوم بوستيل) G. Postel، وقد دفع حماس بوستيل الديني والتبشيري للاهتمام بالعربية. وقد أسهم رجل دين آخر ومبشر من الإرسالية الفرنسيسكانية في تأسيس مطبعة لطبع مجموعة من المخطوطات العربية وهو فرديناند دي ميدتشي.وكان الهدف من تأسيس تلك المطابع للأغراض التبشيرية وهو التعرف على العالم الإسلامي من خلال مخطوطاته وخدمة المبشرين الرهبان لتزويدهم بهذه المعلومات[25] .

 

      الا ان الكنيسة الغربية واجهت مجموعة من التحديات، فضلاً عن تصفية مشروعها الصليبي العسكري وفشله، وأسهمت في زيادة توتر البابوية ، وكنيستها تجاه المشرق العربي الإسلامي، وزادت من عزيمة الغرب والكنيسة لمواصلة مخططاتها، وبرامجها التي وضعتها لمواجهة الإسلام، كما انها زادت من فاعلية تلك المخططات والبرامج عبر مرحلة جديدة من مراحل التبشير تشكلت بدايتها في القرن السادس عشر الميلادي [26].  

 

فبعد أن حشدت الأمة الإسلامية قواها ووحدت صفها، للرد على حالة الضعف والانهزام التي أصابتها، في الفترة الصليبية، وقامت بطرد الصليبيين من أراضيها، وأنهت مرحلة الاستيطان الصليبي، في ظل قيادات إسلامية واعية، ومدركة لطبيعة المخاطر التي تواجهها الأمة المسلمة.

 


      كذلك كان من أهم تلك التحديات التي صعدت انذاك بروز القوة العثمانية، كقوة إسلامية جديدة على مسرح الأحداث في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وتناميها بشكل مطرد. فقد أسقطت هذه القوة الإسلامية في بواكير عملياتها العسكرية الكبيرة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية، وأزالت تلك الإمبراطورية من الوجود. وقد قدر لهذه القوة أن تنشأ إمبراطورية امتدت من بغداد إلى حدود المغرب، ومن الخليج العربي إلى شبه جزيرة القرم ونهر الدانوب، إذ مكنهم تفوقهم الحربي من هذا الملك العريض، ومكنتهم حكمتهم من أن يدركوا أنه لا بقاء لإمبراطوريتهم إلا بهذا التفوق العسكري، ومن ثمة كان الجيش أهم ما عنوا به[27] .

 

      وبفضل هذا الجيش استطاع الأتراك العثمانيون أن يكونوا قوة رهيبة في عيون رعاياهم ومن جيرانهم. وكانت منشآت السلاطين العسكرية من المدفعية والشؤون الهندسية والإيرادات والتموين عالية التقنية والحداثة، بحيث لم تكن في وسع أي دولة من الدول في غرب أوربا، أن تقاوم فرق الاسباهية والانكشارية ، وقد كان هذا يعطي للعثمانيين طاقة هائلة من الاندفاع نحو التوسع.

 


لقد أثار التقدم الإسلامي العثماني قلقاً واسعاً في عموم أوربا، وأثار البابوية والكنسية الكاثوليكية على نحو خاص، بعد أن أصبحت الجيوش العثمانية على مقربة منها، ولقد أكدت ظهور هذه القوة الجديدة والمندفعة، الصورة( الموحشة والمقيتة ) التي رسمتها الكنيسة من خلال معاهدها وجامعاتها ومؤسساتها الرهبانية، عن الشرق المسلم، وذكرت تحديات العثمانيين الكنيسة الغربية بمشروعاتها العسكرية وحروبها الصليبية، لأنها أعادت إلى الذاكرة خطورة الإسلام على الغرب المسيحي، إذ بزوال القسطنطينية، أصبح المجال مفتوحاً أمام المسلمين للتقدم في العمق الأوربي[28] .

 

 لذلك أعادت أوربا فكرة شن حرب صليبية جديدة للقضاء على خطر التقدم الإسلامي باتجاه الغرب، وفعلاً دعت الكنيسة القوى المسيحية الأوربية إلى التكتل تحت مظلتها وبزعامة وتحريض البابا ( بونيفاس التاسع  Boniface IX ) واستجابت هذه القوى فعلاً وكونت تحالفاً صليبياً ضد المسلمين، وقد دعى وظاهر هذا التحالف الصليبي( سيجسموند Sigismund ) ملك المجر، وقد تحمس للفكرة واشترك بقواتها وفرسانها كل من ألمانيا وإنكلترا واسكتلندا وسويسرا ولوكسمبورغ والأراضي المنخفضة وبعض الإمارات الإيطالية وقدمت البندقية الأموال والأسطول اللازمين لذلك، كما ضمت تلك الحملة قوات من بولندا وأقليم ولاشيا وترتسلفانيا، وبلغ عدد قوات تلك الحملة مائة وخمسون ألف مقاتل بقصد إيقاف التوسع العثماني داخل الدول المسيحية والقضاء عليها، إلا أن هذا التجمع مني بهزيمة ساحقة عند (نيوكوبليس) Nicoplis  على يد السلطان بايزيد الأول عام 1396م على نهر الدانوب[29].

 

وقد حمل هذا الفشل العسكري الغربيين على الشعور بتفوق العثمانيين وعدم إمكانية التغلب عليهم. في حين استمر النشاط العسكري العثماني بالاتجاه نحو الغرب الأوربي فقد هاجم العثمانيون السواحل الإيطالية الجنوبية لشبه جزيرة ايطاليا ونزلوا على مقربة من المدينة البحرية أوترانت ، وفي مطلع عام 1526 استفاقت الأنباء في الأستانة بأن الاستعدادات قائمة وبكل جهد ممكن لإعداد حملة كبيرة يقودها السلطان سليمان القانوني لاكتساح سهول المجر، وكان هذا الهجوم العثماني من أخطر الحملات التي تعرضت لها أوربا على يد قوات إسلامية، وقد كان الرأي العام في دول وسط وغرب أوربا تخشى أن يجرف هذا العملاق المسلم أمامه مقر البابوية ويدخل روما ويحول كنائسها الكبرى إلى مساجد [30].

 

وارتفعت الأصوات في أوربا تطالب بضم الصفوف لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي تتعرض له الكنيسة الكاثوليكية، فقد كانت الشائعات في أوربا قد انتشرت بأن السلطان سليمان ينوي تقويض دعائم الكنيسة الكاثوليكية ذاتها. وعقد عام 1538 حلف دولي أوربي كان قوامه الإمبراطورية الرومانية المقدسة وجمهورية البندقية والبابوية، وتلاقت أساطيل هذا الحلف تجاه ميناء (بريفيزا) Breveza جنوبي كروفر، وبينما كانت المفاوضات بين الفريقين مستمرة اشتبك معهم الأسطول العثماني في معركة وهزمهم خاسرين[31].

 

لقد كانت السياسة العسكرية التي انتهجها السلطان سليمان القانوني نحو الغرب قد ألقت الرعب والهلع في قلوب الأوربيين، وكان من نتائجها حتى ذلك الوقت استيلائه على بلغراد وانتزاعه جزيرة رودس من أيدي فرسان القديس يوحنا ثم التأهب للتوغل في العمق الأوربي، حيث استطاع ضم كافة أوربا الشرقية إلى إمبراطوريته حتى بحر الأدرياتيك .

 


لقد كان للنشاط العثماني الإسلامي العسكري دوره في تحفيز الأوربيين لإعادة مشروعاتهم الصليبية العسكرية، إلا أن التفوق العثماني العسكري، دفع لإعادة النظر في الأحكام السائدة لديهم بشأن المسلمين، والتي تحض إمكانية الغرب المسيحي للعمل على إخضاع الشرق الإسلامي بالطرق والوسائل غير العسكرية[32].

 

فقد تأصل لدى الغرب ، بأن الإسلام هو القوة الكامنة في هذا الشرق ، وهو السبب الذي دفع للتفوق العسكري باستمرار. لما يعطيه لمعتنقيه من قوة داخلية كامنة في عقيدته وفكرته الجهادية ، حتى كانت قوة الإسلام الإيديولوجية تنشأ ذلك الترابط الروحي والمادي الذي يمتاز به المسلمون، والذي كان يؤدي لتماسكهم لنصرة دينهم الذي يدفعهم للجهاد في سبيل الله ونشر كلمته في الارض ، وهذا ما كان يمنحه الإسلام لمعتنقيه .

 


لم تكن الدولة العثمانية في حقيقة اندفاعها باتجاه الغرب ، تمثل إلا هدفين أساسيين ، الأول هو توسيع رقع الإسلام، وإيصاله إلى الشعوب الأوربية وذلك ما يبدو واضحاً من الوثائق العثمانية، والمخاطبات التي كانوا يوجهونها إلى المسلمين بمناسبة فتحهم للقلاع والمدن الأوربية، والهدف الثاني ، فهو إبعاد خطر المؤامرات التي تخطط لها القوى المسيحية الغربية ضد العالم الإسلامي، والتي كان العثمانيون يستشعرونها في التحالفات الصليبية التي كانت مستمرة عند تنامي القوة العثمانية والتي كانت في منطقة الاحتكاك الساخن بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي الغربي في الأناضول انذاك[33] .



[1]   صالح العابد ,الحروب الصليبية دوافعها وبواعثها الممهدة , مجلة المورد ، العدد الرابع ، بغداد  1978 .

     

[2]   المصدر نفسه.

     

[3]  في عام 1245م ارسل البابا انوسنت الرابع المبشر الفرينسيسكاني ( يوحنا كاربيتي ) Johann v. Carpini بمهمة الى بلاد المغول وهي مهمة تبشيرية وسياسية للتحالف ضد العالم الاسلامي والوقوف على موقف المغول واعمالهم السياسية والعسكرية. كما ارسل البابا ولنفس الغرض المبشر وليم الفرنسيسكاني ولنفس الغرض كما ارسل (هايمون فافرشام) hamon de faversham  عام 1254م ولنفس الغرض ايضا. 

 

سعيد عبد الفتاح عاشور , تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى , دار النهضة العربية ، بيروت , 1972 , ص-176.

      


[4] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة , التبشير الصليبي والغزو الاستعماري, منشورات رسالة الجهاد ، مالطا ، 1988 ، ط1, ص 45.

     

[5]  عبد الفتاح احمد , مصدر سابق,ص48.

     

[6]   عبده قاسم عبده ,الخلفية الإيديولوجية للحروب الصليبية , ط/2 ذات السلاسل للطباعة والنشر ، 1988 ,ص62.

     

[7]  صالح العابد, مصدر سابق.

     

[8]  نذير حمدان , في الغزو الفكري ، المفهوم – الوسائل – المحاولات , ج/1 ، مكتبة الصديق ، الطائف ( د.ت ) , ص 18.

     

[9]  لقد كان بطرس المبجل رئيساً لدير (كلوني) Cluny سنة 1123م وجعل منه الرهبان الأسبان الذين لجئوا إليه في القرن الثاني عشر مركزاً ثقافياً خطيراً لغرض دراسة الحياة الإسلامية والاتصال بالمسلمين ومعرفة سر قوتهم. وقد كان لبطرس المبجل هذا دوراً خطيراً في تأليب مشاعر الحقد والكراهية ضد المسلمين وقد ساهم في إذكاء المشاعر الصليبية في الغرب ، وشارك في حملاتها ضد المسلمين. لكنه حينما اصطدم بفشل المشروع الصليبي الأول، تغير منحى تفكيره ، وانصرف عن تأكيد وتأييد الجهد العسكري إلى دراسة الإسلام وترجمة القرآن والسعي لمعرفة أوثق بالإسلام ، وقد سوغ عمله برؤية بعيدة المدى لمصالح المسيحية. رأى بطرس في الإسلام " هرطقة مسيحية " هي أخر الهرطقات وأشدها ضرراً ورأى من الضروري مواجهة هذه " الهرطقة " . وكان يعتقد أن مكمن خطورة الإسلام على الغرب لا تشكل خطراً عسكرياً ، إلا أنه شديد الخطورة فكرياً على الغرب الكاثوليكي . لذا كان لابد للتعرف عليه لمكافحته .

     

[10]   عمر فروخ . د. مصطفى الخالدي, التبشير والاستعمار في البلاد العربية , ط/5 ، بيروت, 1973,ص34  .

     

[11]   عمر فروخ , المصدر السابق  ,ص-36.

     

[12]   المصدر نفسه, ص-ص62-87.

     

[13] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة, مصدر سابق,ص-112

     

[14]  فيليب دي طرزي , السلاسل التاريخية لاساقفة الابريثيات السريانية الشرقية والغربية, المطبعة الأدبية ، بيروت1910,ص-28 .  

     

[15]  المصدر نفسه ,ص33.

     

[16] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة, مصدر سابق,ص87.

     

[17] هـ . أ . ل . فيشر ,تاريخ أوربا العصور الوسطى, ترجمة محمد مصطفى زيادة ، السيد الباز العريني دار المعارف ، القاهرة ( د . ت ) الجزء الاول,ط6,ص – ص 125-128.

     

[18]  المصدر نفسه ,ص132.

     

[19]   عمر فروخ . د. مصطفى الخالدي, مصدر سابق,ص44. 

     

[20]   نذير حمدان, مصدر سابق, ص-67.

     

[21]   فرنسي المخلصي ,مدينة الفاتيكان, ترجمة د. بطرس حداد ، مطبعة الأديب البغدادية ، بغداد  , 1974 ص34.

     

[22]   نجيب عقيقي , المستشرقون، دار المعارف – مصر, ج ,ص77.2

     

[23]   المصدر نفسه,ص-80.

     

[24]   نذير حمدان, مصدر سابق,ص51.

     

[25]  عمر فروخ . د. مصطفى الخالدي,مصدر سابق,ص162. 

     

[26]   عبده قاسم عبده , الخلفية الإيديولوجية للحروب الصليبية , ط/2 ذات السلاسل للطباعة والنشر ، 1988 ,ص-45.

     

[27] محمد كمال الديسوقي , الدولة العثمانية والمسألة الشرقية , دار الثقافة ، القاهرة 1967, ص 12 .

     

[28] علي محمد الصلابي, الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط , دار البيادق بيروت – 1999 ,ص-92.

     

[29]   محمد كمال الديسوقي, المصدر السابق, ص-16

     

[30]  المصدر نفسه ,ص-16.

     

[31]    محمد كمال الديسوقي, المصدر السابق, ص-17.

     

[32]  علي محمد الصلابي , مصدر سابق,  ص-132.

     

[33]  محمد كمال الديسوقي, المصدر السابق, ص-169.

     

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.