البعد التاريخي للعلاقة بين الهلال والصليب
عصور الايمان _ الحروب الصليبية
عرفت العصور الوسطى في اوربا الغربية بسيادة الكنيسة ورجالها على مقاليد الامور حتى سميت تلك العصور بعصور الايمان, اذ انتعشت النزعة الدينية بشكل واضح في تلك الفترة وتماشت مع طبيعة الظروف التي امتازت بها والتي كانت من مظاهرها انشاء الاديرة وتوسيع نشاطاتها والتي مكنت لها الكنيسة الكاثيولوكية ان تسهم بدور فعال بنهضة مسيحية جديدة لتحقيق السياسة البابوية في داخل اوربا وحيث كانت الكنيسة تملك الكثير من الاقطاعيات الزراعية وكانت لها قوات عسكرية لفرض سيطرتها او في خارج اوربا, حيث كانت الاديرة مكرسة لمواجهة التحديات المتمثلة بخطر الانقلاب المسيحي والمحاولة في اقامة الوحدة الكنسية من خلال سحق الاسلام بحربه.
ودفعت عوامل اخرى الى بروز الظاهرة الصليبية بشكلها السياسي والعسكري من خلال سعي الكنيسة في هذا الاتجاه الى احتواء الازمات التي كان يعاني منها الغرب من خلال احتواء القوى السياسية المتناحرة للسيطرة على ازماتها الداخلية والتي ادت الى تعزيز قدرة البابوية الى امتلاك القرار الاوربي. كذلك كان تقدم مواقع الكنيسة من خلال تقدم سعيها لتنامي شرعيتها كشرعية عالمية لسلطة الكنيسة وهي رغبة ازدادت وضوحا بشكل مطرد[1].
واندفعت اوربا في ذلك الاتجاه مستجيبة لنداء البابا والذي اعلن وجوب نجدة النصارى في الشرق المسلم وتخليص قبر المسيح ومهده من ايدي المسلمين ونشر روح المسيحية فيه وهذه الاهداف كانت جزأ من مهما من المشروع البابوي في اساسه وكانت من الاهداف المعلنة لتلك الحملات ومن مستلزمات العدوان على العالم الاسلامي[2].
والهدف الاخر من انشاء تلك الرهبانيات هو ربط اواصر العلاقات بين الغرب المسيحي وبين امم وشعوب يمكن التحالف معهم لضرب مصالح العالم الاسلامي والعمل على محاصرته من الشرق والغرب والذي تمثل ذلك في العلاقات الكنسية الغربية- المغولية وقد قام بهذه المهمة الرهبان والمبشرين والذين كانوا يتوافدون على البلاط المغولي لهذا الغرض فكان استخدام السفراء المبشرين اساس ارساء العلاقات الصليبية مع الامم الاخرى[3].
كذلك كان التركيز على الجانب العلمي قد انطلق انذاك عن اهداف تبشيرية باعتبار ان تكون العلوم الصرفة والعلوم التجريبية في خدمة الكنيسة وان يهئ لها اسباب النجاح في مهماتها, والتي كانت تلك المهمات تتلخص في دراسة الجانب العلمي والحضاري الذي انجزه الاسلام والتعرف على طبيعته ونقله الى اوربا المسيحية للاستفادة منه والتعرف عليه خاصة في مجال الدعائم الفكرية, وفي هذا الاطار نشطت الحركة العلمية والترجمة لنقل العلوم والاداب التي كانت في الشرق الاسلامي من خلال دراسة عدد كبير من المبشرين في علمي اللاهوت والفلسفة وبانشاء المعاهد والمدارس والجامعات لهذه الاغراض التبشيرية ولحربهم الصليبية بتسليم الكنيسة البابوية لزعامتها للعالم المسيحي في الشرق كما في الغرب[4].
وبعد ان فشل العمل العسكري كمشروع صليبي في الاحتفاظ بالاماكن المقدسة في بلاد الشام بسبب محاولات المسلمين المستمرة والمتكررة لاستعادة وتحرير مقدساتهم وبعد تنامي اهمية الجانب العلمي والفكري والعقلي في تكوين العمل التبشيري والتنصيري من خلال الاحتكاك الفكري بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي جاءت الحاجة الى تكوين وارساء وبناء الارساليات التبشيرية في عموم مناطق الشرق المسلم كمحاولة اخرى في سبيل انجاح المشروع الصليبي والذي لم يكن مستندا انذاك الى رؤية تاريخية سليمة في التعامل مع الاسلام ومنطلقاته الحضارية, ذلك لان اصحاب هذا المشروع قد تمسكوا برؤية وتصورات الكنيسة عن الاسلام كونه الكفر والمسلمين باعتبارهم الاعداء الحقيقيين للمسيحية الغربية وغلب تلك العلاقة محاولات اجتثاث الاسلام بالوسائل العسكرية واحتواء خصوصيات الكنائس الشرقية ومحوها وهو ما افرز مدى تناقض الواقع التاريخي والموضوعي بين تلك الاراء وواقع الاسلام والمسلمين في بلادهم[5].
كانت في بداية القرن الرابع عشر ، قد بدات نهضة عملية، انبثقت من الكنيسة وركزت في مجالات الدراسات اللاهوتية والفلسفة وكان يقود هذه النهضة المؤسسات الدينية التابعة للكنيسة، وكان جل القائمين بها من المبشرين التابعين للإرساليات التبشيرية. فقد تبين للكنيسة الكاثوليكية مدى أهمية العلم والثقافة لهذه العلاقة، من حيث تكوين رؤية واضحة وموضوعية عن الشرق العربي الإسلامي ونبذ الأساليب الأنانية والانفعالية، لمعرفة الشرق على حقيقته، لا كما تصوره أساطير القرون الوسطى، وحكايات آباء الكنيسة في تلك العصور، التي لا تستند إلى أصل علمي[6].
غير إن الأوربيين بدا وكأنهم منقسمين إلى معسكرين في هذه الحقبة، الأول يدعو إلى إنهاء الحملات الصليبية، إذ لا أمل في نجاحها، أما الثاني فكان يدعو إلى استمرارها ودعمها، أكثر مما كان قد تحقق. وكان كلا الطرفين يعرف أنه لم يعد ممكناً التصرف بتهور أو إتباع المخاطرات كما حدث في الماضي[7].
لاشك أن هذا الفريق الذي كان يدفع إلى دراسة الإسلام بشكل معمق هم الرهبان المبشرون الذين كانوا قد خبروا الشرق الإسلامي وعرفوا عنه الكثير من خلال جولاتهم التبشيرية التي قاموا بها طيلة الحروب الصليبية .
وفي عام ( 1306 ) أطلق المبشر بيار دوبوا الفرنسي مشروعاً استعمارياً لاسترجاع الأراضي المقدسة ، واستعمار الشرق الإسلامي من قبل شعوب أوربا المسيحية بقيادة ملك فرنسا ، فنادى بإنشاء مدارس لغات يتم فيها تأهيل الموظفين والضباط والمفاوضين والأطباء والمرسلين، وكذلك الفتيات الأوربيات اللواتي يمكن تزويجهن لاحقاً من زعماء شرقيين، غير ان هذا البرنامج لم يتحقق بسبب انعدام الأعداد والوسائل، لكن اهميته برزت على الأقل حينما اثيرت هكذا مسائل في ذلك الوقت[8].
وربما كان دير كلوني البندكتي ، يشكل معلماً بارزاً ، وبداية مبكرة للتفكير في هذا الاتجاه، للعمل الضخم الذي قدمه (بطرس المبجل) Petrus venerable الذي كان يترأسه، عندما رعى أول ترجمة للقرآن باللاتينية [9]، فهذه الترجمة التي قام بها (روبرت كتون) Robert Ketton ومولها بطرس المبجل 1134م ، شكلت المعلم البارز والأساسي للدراسات الإسلامية في أوربا الغربية . وقدمت الترجمة القرآنية للغرب الركيزة الأساسية والمأمونة للبدء بدراسات حقيقية حول الإسلام .
كانت الظروف التي تمر بها أوربا في الداخل في بداية القرن الثالث عشر من تنامي الحركة العلمية، وفي الخارج من تراجع المشروع الصليبي، قد أكدت الاتجاه نحو ما يسمى بـ( التبشير السلمي ) أو التبشير بالكلمة. وأخذت الإرساليات التبشيرية على عاتقها تنفيذ ذلك المشروع . الذي تميز بمراحل متعددة دون أن يكون له ارتباط بسقف زمني محدد[10].
لقد تطورت مفاهيم التبشير وأخذت تتطور تطوراً واسعاً وعميقاً ، وخاصة في مجال، موقف السياسة الكنسية من المسيحيين الشرقيين ، حيث أصبحوا مادة التبشير الأساسية التي اتخذتها تلك السياسة بعد أن كان التبشير في عصر الدولة الرومانية هو العمل على إخضاع الشعوب الوثنية لسيادتها عن طريق إرسال المبشرين إلى تلك الشعوب ودعم التبشير فيها[11] .
لقد اقتضت المراحل الاولية، أن يعرف المبشر لغة المرسل إليهم والوسائل التي تجذبهم ، وأن يعلم طرائق حياتهم ومعيشتهم ، بعد ذلك تقتضي المرحلة الثانية كيفية الهجوم على الديانة المتوطنة لديهم ، وكيفية التشكيك بقيمتها ، ثم كيفية الدعوة إلى المسيحية في المرحلتين الثانية والثالثة ، ودراسة أحدث الوسائل العقلية والعملية لتشويه الأديان الأخرى لدى المسيحيين أنفسهم. وقد اتخذت البابوية خطوات جادة وعملية لتنفيذ تلك السياسة التي استقرت عليها[12] .
كذلك قامت الإرساليات التبشيرية من الفرنسيسكان والدومنيكان والبندكتين بإنشاء المدارس الدينية والعلمية، والتي كانت تنهل معظم علومها في المجالات العلمية والفلسفة واللغوية، من المترجمات التي كان يقدمها الرهبان المبشرون من الشرق العربي الإسلامي من الأندلس وصقليا ومناطق بلاد الشام. وقد انتشرت هذه المدارس في معظم أنحاء أوربا، وقد كان المبشرون الدومنيكان على نحو خاص هم الذين يتولون عمليات التوجه والتدريس فيها ضمن إطار الخطة البابوية. لتعبئة الرأي العام الأوربي ، وخلق وعي مسيحي تبشيري في أوربا[13] .
كما أوعزت البابوية لرهبان الإرساليات التبشيرية بإقامة وإنشاء عدد من الجامعات في غرب أوربا في إطار نفس الأهداف ، فأقيمت جامعة باريس التي كانت مدرسة أسقفية وكان يطلق عليها ( مدرس باريس الأسقفية ) ثم تحولت إلى جامعة لدراسة اللاهوت والمنطق وكان مديرها رئيس أساقفة باريس ، وكانت البابوية هي التي أنشأتها في البداية ، وكانت مشبعة بالجو الديني الأسقفي ، وقد تخرج منها البابا أنوسنت الثالث ، كما قامت البابوية بإنشاء جامعة تولوز لتكون سنداً لها في مكافحة بعض حركات الهرطقة ، كما أنشأت جامعة (أكسفورد) oxford عام 1167م على غرار جامعة باريس ، وقد خصصت فيها كراسي لدراسة العبرية والعربية والكلدانية والسريانية وقدمت على غيرها من اللغات ، أما جامعة كمبردج التي أنشأت عام 1209 وعلمت فيها اللغات الشرقية وكان فيها ثلاثمائة طالب[14].
فقد كان لابد من إنشاء جامعات تعني بدراسة العلوم الزمنية ، والعلوم الأخرى التي لها علاقة بالتبشير بالشرق العربي الإسلامي ، إلا أن الباباوات في روما ، كانوا قد حرموا ولعدة مرات الكهنة والعلمانيين والرهبان من درس العلوم الزمنية ( غير اللاهوتية ) ومع ذلك ثمة مدارس رهبانية كانت تحافظ على تدريس تلك العلوم لكي لا تضمحل ، وعندما ظهر الفرنسيسكان والدومنيكان ، اتخذوا عام 1228م موقفاً فيه الكثير من الحزم الذي قضت به الأوامر البابوية ، وهي عدم تدريس تلك العلوم ، إلا أن يمنح أحياناً رؤساء الرهبانية أو الجمع العام بعض الإعفاءات الفردية ، ووجهوا رجال الدين الشباب للانقطاع لدراسات اللاهوت[15].
كما أدرك المبشرون من الدومنيكان والفرنسيسكان والبندكتين، أنه من غير ثقافة، ومن غير لغات، لا تكون رسالة ولا يكون هناك تبشير، ولهذا سارعوا إلى تغيير موقفهم ، وجاهروا به ، خلال مدة وجيزة ، وقد تكاثفت الجهود على الاهتمام باللغات الشرقية وعلومها في الكنائس والأديار والجامعات ، وجدت تحولات سريعة بهذا الشأن[16].
وقد انتشرت مدراس الرهبان العربية في اشبيلية 1250م وميوركا 1255م وبرشلونة 1259م وبلنسية 1281 . وقد تطورت بعض مدارس الأسقفيات (الكاتدرائيات ) إلى جامعات نالت عناية فائقة من الباباوات والملوك ومن أشهرها جامعة بلنسيا 1208م ومعهد الدراسات الشرقية في طليطلة 1250 وجامعة بالما عام 1280 وجامعة لشبونة 1290م وجامعة لريدا 1300م وجامعة بلد الوليد 1304م[17].
لقد اشتملت جهود الكنيسة الكاثوليكية ومبشريها الرهبان على الاهتمام بدراسة اللغات الشرقية ذات الصلة بالجهد التبشيري ، وأماكن نشاطه وفاعليته . في الوسط العربي الإسلامي ، ومناطق نفوذ وانتشار الكنائس الشرقية الأرثوذكسية والنسطورية . وكان ذلك من الطبيعي ما أولاه المبشرين في القرن الثالث عشر من اهتمام بدارسة العربية وآدابها ، وكذلك الاهتمام بالقرآن الكريم وعلومه ، كما أقبلوا على دراسة اللغة اليونانية ، لأنها لغة العبادة والثقافة في الكنيسة الأرثوذكسية ، إلى جانب اللغة السريانية ، أو اللغة الكلدانية التي هي لغة الكنيسة النسطورية[18] .
وقد أولى هذا الاهتمام المبشرون الفرنسيسكان ( الفدير ) على نحو خاص ، فقد كان المبشر الفرنسيسكاني ( هايمون دو فافرشام) Hamon de Fivershum يجيد اللغة اليونانية ، وكان أحد أعضاء المدرسة الفرنسيسكانية في جامعة أكسفورد، كما كان المبشر ( غليوم دو لاميف) Guillaume de lamave 1285 قد تخصص في الفقه اللغوي ، وكان محققاً للتوراة ، وامتاز بمعرفته الجيدة للغتين العبرية واليونانية. أما المبشر ( روجر باكون ) Roger Bacon 1292 والذي كان ينتمي إلى جامعة أكسفورد فقد اهتم باللغات الشرقية ، وكان يفتخر بقدرته على تعليم أي لغة شرقية بوقت قياسي من غير تحديد للأعمار بل حتى للأولاد الصغار ، ويؤكد باكون على أهمية تعلم اللغات الشرقية بقوله ( لن يكون اللاتين ليبلغوا الحكمة ، إلا أن يعرفوا اليونانية والعربية والكلدانية والعبرية ، لأنها لغة الوحي الأصيلة ) [19].
ولدعم السياسية البابوية في هذا الاتجاه ، قام الرهبان المبشرون بتدريس العلوم العملية التي ترتبط بالتبشير، إلى جانب تدريس اللغات الشرقية في الجامعات والمعاهد التي أقامتها في مختلف أنحاء أوربا، وقد ركزت على علوم الطب إلى جانب اللغات الشرقية، وهما الوسيلتان اللتان تتصلان بالتبشير اتصالاً مباشراً، فقد أقيمت جامعة بولونيا بإيطاليا والتي اشتهرت بالقانون وأخرى في سالرنو والتي اشتهرت كذلك بالقانون، وأخرى في جنوب إيطاليا كانت تشتهر بدراسة الطب، فيما كانت جامعة باريس تختص بدراسة اللاهوت، وقد كانت هذه الجامعات تدرس الدراسات العليا على أن تكون من بينها على الأقل مواد الاختصاص التالية اللاهوت أو الطب أو القانون . وقد كانت معظم الجامعات تعمل في إطار هذه السياسة[20].
كما قامت البابوية لأجل الحصول على معلومات موسعة عن الشرق العربي الإسلامي ولتسهيل عمل الإرساليات التبشيرية ومراكزها العلمية إيجاد مجموعة من مراكز الترجمة التي نشرتها في المراكز المهمة من أوربا الغربية، وقامت البابوية برعايتها وتمويلها . فقد كان هناك خمسة مراكز الأول في أسبانيا وبالأخص في طليطلة ، تنقل فيها الكتب العربية . والمركز الثاني في إنكلترا أي جامعة أكسفورد ، والمركز الثالث في ايطاليا في البلاط الملكي لكل من نابولي وصقلية ، والمركز الرابع البلاط البابوي. والمركز الخامس القسطنطينية. وكان الصليبيون قد احتلوها عام 1204م وأسسوا فيها الإمبراطورية اللاتينية حتى عام 1261م فقصد إليها المبشرون الفرنسيون وأساتذة من جامعة باريس حيث اشتغلوا بالنقل عن اليونانية[21].
استمرت السياسة البابوية في هذا الاتجاه ، وأثارت في المبشرين نشاطاً محموماً باتجاه الشرق العربي الإسلامي. فقد نشط في هذا الاتجاه ، أحد أكبر المبشرين الفرنسيسكان وأكثرهم جرأة وخطورة وهو المبشر رايموند لول R .laliou ( 1235-1314 ) الذي كان يتحمس للعلم التبشيري بين المسلمين بهدف( التنصير )، وكان يعيش في أسبانيا ملتقى الامتزاج بين الإسلام والمسيحية وكان يشهد في ذلك الوقت تقهقر القوة الإسلامية هناك وضعفها ، تعلم العربية وحفظ القرآن الكريم على يد عبد أسود لمدة تسع سنوات ثم قصد باريس ، وانضم إلى الرهبنة الفرنسيسكانية وبعد عودته إلى أسبانيا أقنع ملك ( البرتغال ) عام1276 بإنشاء مدرسة في ( ميرا مار ) لتدريس اللغة العربية لأغراض التبشير والتنصير، فأشرف عليها، فتخرج منها أكثر من ثلاثة عشر راهباً ومبشراً، وقد صنف كتباً كثيرة في الرد على المسلمين ، وبلغت به الحماسة ، أنه كان يثير المسلمين ويستفزهم بنقاشه إياهم حتى سجن في تونس ، ومرة أخرى في الجزائر ، وهناك تم رجمه بالحجارة من قبل الجمهور . وقد بذل قصارى جهده لإثارة اهتمام الكنيسة الكاثوليكية والملوك المسيحيين لتعليم اللغات الشرقية في جامعات أوربا[22].
بعد ذلك وضمن السياسة البابوية ، أمر البابا كليمنصمس الخامس في مجمع فينا الكاثوليكي 1113-1132بإنشاء ، كراسي للعبرانية والعربية والكلدانية في أربعة جامعات رئيسية في أوربا ، باريس وأكسفورد وبولونيا وسلمنكة ، والتي توزعت في الدول الكاثوليكية الأربعة التي تبنت السياسة الصليبية تجاه المشرق العربي الإسلامي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا [23].
كما زاد من اهتمام الغرب المسيحي بالشرق العربي الإسلامي ، زيادة المعلومات التي حصل عليها ( الصليبيون ) العائدون إلى أوربا ، إذ كانوا يحملون الكثير من الذكريات التي تدفع النفوس إلى التجوال في تلك الأمصار ، للذهاب لغرض هداية (الهراطقة الساكنين في بلاد المشرق).
وقد كان الشباب الفرنسيين اكثر شباب اوربا حماسة فيما يتعلق بالشرق, فقد كانوا يتلقون تعليماً أولياً في ( كلية لويس الكبير ) في باريس قبل الالتحاق بمدرسة ( جوفاني ) ، وكانت جميع المؤسسات التعليمية العالية في فرنسا تعود إدارتها ومنهاجها للإرساليات التبشيرية . التي كانت متخصصة بدراسة الشرق العربي الإسلامي وتاريخه ولغاته وأديانه .حيث كانت الكلية الملكية قد عدت قمة التعليم الفرنسي العالي وكانت مهمة هذه الكلية ألاساسي المعرفة في مجال الشرق العربي الإسلامي. كذلك كانت المكتبة الملكية الوطنية في باريس في ذات الفترة والتي كان هدفها الحصول على المخطوطات الشرقية ودراستها والمحافظة عليها، وقد حاولت الحصول على كثير من المخطوطات التي تخص المنطقة بهدف تنمية المعرفة بالشرق الإسلامي وتوسيعها وتعميقها ، بما يخدم ، أهداف الإرساليات التبشيرية والمصالح الفرنسية [24].
وقد أقيم في إطار ( السياسة المسيحية الفرنسية ) أول كرسي لدراسة اللغة العربية في (الكولج دي فرانس France de College) وقد اعتلى هذا الكرسي رجل دين ومبشر معروف هو ( غليوم بوستيل) G. Postel، وقد دفع حماس بوستيل الديني والتبشيري للاهتمام بالعربية. وقد أسهم رجل دين آخر ومبشر من الإرسالية الفرنسيسكانية في تأسيس مطبعة لطبع مجموعة من المخطوطات العربية وهو فرديناند دي ميدتشي.وكان الهدف من تأسيس تلك المطابع للأغراض التبشيرية وهو التعرف على العالم الإسلامي من خلال مخطوطاته وخدمة المبشرين الرهبان لتزويدهم بهذه المعلومات[25] .
الا ان الكنيسة الغربية واجهت مجموعة من التحديات، فضلاً عن تصفية مشروعها الصليبي العسكري وفشله، وأسهمت في زيادة توتر البابوية ، وكنيستها تجاه المشرق العربي الإسلامي، وزادت من عزيمة الغرب والكنيسة لمواصلة مخططاتها، وبرامجها التي وضعتها لمواجهة الإسلام، كما انها زادت من فاعلية تلك المخططات والبرامج عبر مرحلة جديدة من مراحل التبشير تشكلت بدايتها في القرن السادس عشر الميلادي [26].
كذلك كان من أهم تلك التحديات التي صعدت انذاك بروز القوة العثمانية، كقوة إسلامية جديدة على مسرح الأحداث في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وتناميها بشكل مطرد. فقد أسقطت هذه القوة الإسلامية في بواكير عملياتها العسكرية الكبيرة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية، وأزالت تلك الإمبراطورية من الوجود. وقد قدر لهذه القوة أن تنشأ إمبراطورية امتدت من بغداد إلى حدود المغرب، ومن الخليج العربي إلى شبه جزيرة القرم ونهر الدانوب، إذ مكنهم تفوقهم الحربي من هذا الملك العريض، ومكنتهم حكمتهم من أن يدركوا أنه لا بقاء لإمبراطوريتهم إلا بهذا التفوق العسكري، ومن ثمة كان الجيش أهم ما عنوا به[27] .
لقد أثار التقدم الإسلامي العثماني قلقاً واسعاً في عموم أوربا، وأثار البابوية والكنسية الكاثوليكية على نحو خاص، بعد أن أصبحت الجيوش العثمانية على مقربة منها، ولقد أكدت ظهور هذه القوة الجديدة والمندفعة، الصورة( الموحشة والمقيتة ) التي رسمتها الكنيسة من خلال معاهدها وجامعاتها ومؤسساتها الرهبانية، عن الشرق المسلم، وذكرت تحديات العثمانيين الكنيسة الغربية بمشروعاتها العسكرية وحروبها الصليبية، لأنها أعادت إلى الذاكرة خطورة الإسلام على الغرب المسيحي، إذ بزوال القسطنطينية، أصبح المجال مفتوحاً أمام المسلمين للتقدم في العمق الأوربي[28] .
لذلك أعادت أوربا فكرة شن حرب صليبية جديدة للقضاء على خطر التقدم الإسلامي باتجاه الغرب، وفعلاً دعت الكنيسة القوى المسيحية الأوربية إلى التكتل تحت مظلتها وبزعامة وتحريض البابا ( بونيفاس التاسع Boniface IX ) واستجابت هذه القوى فعلاً وكونت تحالفاً صليبياً ضد المسلمين، وقد دعى وظاهر هذا التحالف الصليبي( سيجسموند Sigismund ) ملك المجر، وقد تحمس للفكرة واشترك بقواتها وفرسانها كل من ألمانيا وإنكلترا واسكتلندا وسويسرا ولوكسمبورغ والأراضي المنخفضة وبعض الإمارات الإيطالية وقدمت البندقية الأموال والأسطول اللازمين لذلك، كما ضمت تلك الحملة قوات من بولندا وأقليم ولاشيا وترتسلفانيا، وبلغ عدد قوات تلك الحملة مائة وخمسون ألف مقاتل بقصد إيقاف التوسع العثماني داخل الدول المسيحية والقضاء عليها، إلا أن هذا التجمع مني بهزيمة ساحقة عند (نيوكوبليس) Nicoplis على يد السلطان بايزيد الأول عام 1396م على نهر الدانوب[29].
وقد حمل هذا الفشل العسكري الغربيين على الشعور بتفوق العثمانيين وعدم إمكانية التغلب عليهم. في حين استمر النشاط العسكري العثماني بالاتجاه نحو الغرب الأوربي فقد هاجم العثمانيون السواحل الإيطالية الجنوبية لشبه جزيرة ايطاليا ونزلوا على مقربة من المدينة البحرية أوترانت ، وفي مطلع عام 1526 استفاقت الأنباء في الأستانة بأن الاستعدادات قائمة وبكل جهد ممكن لإعداد حملة كبيرة يقودها السلطان سليمان القانوني لاكتساح سهول المجر، وكان هذا الهجوم العثماني من أخطر الحملات التي تعرضت لها أوربا على يد قوات إسلامية، وقد كان الرأي العام في دول وسط وغرب أوربا تخشى أن يجرف هذا العملاق المسلم أمامه مقر البابوية ويدخل روما ويحول كنائسها الكبرى إلى مساجد [30].
وارتفعت الأصوات في أوربا تطالب بضم الصفوف لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي تتعرض له الكنيسة الكاثوليكية، فقد كانت الشائعات في أوربا قد انتشرت بأن السلطان سليمان ينوي تقويض دعائم الكنيسة الكاثوليكية ذاتها. وعقد عام 1538 حلف دولي أوربي كان قوامه الإمبراطورية الرومانية المقدسة وجمهورية البندقية والبابوية، وتلاقت أساطيل هذا الحلف تجاه ميناء (بريفيزا) Breveza جنوبي كروفر، وبينما كانت المفاوضات بين الفريقين مستمرة اشتبك معهم الأسطول العثماني في معركة وهزمهم خاسرين[31].
لقد كان للنشاط العثماني الإسلامي العسكري دوره في تحفيز الأوربيين لإعادة مشروعاتهم الصليبية العسكرية، إلا أن التفوق العثماني العسكري، دفع لإعادة النظر في الأحكام السائدة لديهم بشأن المسلمين، والتي تحض إمكانية الغرب المسيحي للعمل على إخضاع الشرق الإسلامي بالطرق والوسائل غير العسكرية[32].
لم تكن الدولة العثمانية في حقيقة اندفاعها باتجاه الغرب ، تمثل إلا هدفين أساسيين ، الأول هو توسيع رقع الإسلام، وإيصاله إلى الشعوب الأوربية وذلك ما يبدو واضحاً من الوثائق العثمانية، والمخاطبات التي كانوا يوجهونها إلى المسلمين بمناسبة فتحهم للقلاع والمدن الأوربية، والهدف الثاني ، فهو إبعاد خطر المؤامرات التي تخطط لها القوى المسيحية الغربية ضد العالم الإسلامي، والتي كان العثمانيون يستشعرونها في التحالفات الصليبية التي كانت مستمرة عند تنامي القوة العثمانية والتي كانت في منطقة الاحتكاك الساخن بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي الغربي في الأناضول انذاك[33] .
[5] عبد الفتاح احمد , مصدر سابق,ص48.
[10] عمر فروخ . د. مصطفى الخالدي, التبشير والاستعمار في البلاد العربية , ط/5 ، بيروت, 1973,ص34 .
[11] عمر فروخ , المصدر السابق ,ص-36.
[13] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة, مصدر سابق,ص-112
[16] عبد الفتاح أحمد أبو زايدة, مصدر سابق,ص87.
[19] عمر فروخ . د. مصطفى الخالدي, مصدر سابق,ص44.
[20] نذير حمدان, مصدر سابق, ص-67.
[21] فرنسي المخلصي ,مدينة الفاتيكان, ترجمة د. بطرس حداد ، مطبعة الأديب البغدادية ، بغداد , 1974 ص34.
[22] نجيب عقيقي , المستشرقون، دار المعارف – مصر, ج ,ص77.2
[24] نذير حمدان, مصدر سابق,ص51.
[25] عمر فروخ . د. مصطفى الخالدي,مصدر سابق,ص162.
[27] محمد كمال الديسوقي , الدولة العثمانية والمسألة الشرقية , دار الثقافة ، القاهرة 1967, ص 12 .
[28] علي محمد الصلابي, الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط , دار البيادق بيروت – 1999 ,ص-92.
[29] محمد كمال الديسوقي, المصدر السابق, ص-16
[31] محمد كمال الديسوقي, المصدر السابق, ص-17.
[32] علي محمد الصلابي , مصدر سابق, ص-132.