كيف تعاملت طهران مع مقتل سليماني والمهندس على أرض العراق

كيف تعاملت طهران مع مقتل سليماني والمهندس على أرض العراق

م/مقال

د.عبدالناصر المهداوي

المؤسسة الوطنية للدراسات والبحوث NASR

       لا يختلف اثنان على كون الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الشخصية الأقوى بعد الولي الفقيه السيد علي خامنئي في عموم إيران، كما تؤكد الدراسات التخصصية بأن نظام ولاية الفقيه في إيران تعرض لهزات عنيفة داخليا وخارجيا على مدى العقود الأخيرة، بل يذهب البعض وكاتب هذه الكلمات منهم إلى كون الحرس الثوري الإيراني يعد الحصن الأخير لنظام ولاية الفقيه، وتشكل رمزية الجنرال سليماني الركن الأقوى في هذا الحصن، من هنا نستطيع أن نلمح حقيقة حجم هذا الحدث الجلل الذي أقام الدنيا ولم يقعدها بعد، فمقتل سليماني فتح الأبواب مشرعة في الشرق الأوسط على الاحتمالات كافة من الرد العنيف الذي قد يتسبب بمواجهة شاملة يتجنبها طرفا الصراع، إلى رد يرد الاعتبار ويبرأ الذمة للنظام في طهران على وجه الخصوص ومن بعده إلى أذرع إيران في المنطقة ككل، وممكن في هذه الحالة تجنب نظام طهران المواجهة الشاملة التي قد يتعذر عليها دفع فواتيرها بعد العقوبات الأمريكية التي أرهقت كاهل البلاد وحجمت من نمو الاقتصاد الإيراني الذي بات مهددا بالانهيار مع تقادم الزمن، مع اعتبار توظيف مخرجات هذا الحادث لمصالحها.

       إن نظام طهران بات خبيرا بالتعامل مع الأزمات، ويعد من الأنظمة الفاعلة التي لا تتعاطى مع أي حدث مهما علا شأنه بردود الفعل العاطفية وإن عزفت على لحنها بشكل كبير، بل المؤسسات المعقدة التي تحافظ على نظام طهران تتعامل مع الحدث وفق معطيات مصالح الأمن القومي الإيراني بشكل يمكنها من توظيف الحدث مهما كانت جسامته من أجل إعادة تأطيره ليخدم منظومة النظام، وهو ما فعلته مع مقتل الجنرال سليماني وأبي مهدي المهندس رجلها الأول في العراق والذي يمت بصلة لإيران حتى في نسبه. القول بكون إيران ضحت بقيادة كسليماني من أجل تحقيق مصالح من وجهة نظري تخرص في غير محله، أما كون إيران وظفت هذا الحدث لاحتواء مجموعة من التهديدات الحقيقية التي يواجهها النظام فهذا ما نقول به ونذهب إليه، وهو ما حدث فعلا بعد حادث الاغتيال بأيام.

   أقوى التحديات التي تواجه نظام طهران في الداخل الإيراني وفي خارجه يتشكل عبر الحراك الرافض لمنظومة ولاية الفقيه سواء كان في داخل المدن الإيرانية وخاصة الأحواز والمدن الشمالية وفي خارج طهران خاصة في العراق ولبنان، حتى الأعداء التقليديون لنظام ولاية الفقيه سواء كانوا في الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة الأمريكية فإن جل تعويلهم على تغيير منظومة الحكم في طهران واعادتها إلى دولة تتسم بمقومات الدولة الحديثة بعيدا عن حكمها الحالي الذي يشكل الثيوقراطية الحديثة الذي يعبر عنه نظام ولاية الفقيه فالولي الفقيه هنا نائب عن الإمام المعصوم الثاني عشر عند الشيعة الإمامية وبالتالي شكل هذا النظام قفزة نوعية في الفقه الديني الشيعي، لذا يعد حراك شعوب إيران ضد النظام الحاكم التحدي والتهديد الأول للنظام الإيراني، كما يعد حراك العراق ولبنان تهديدا نوعيا جديدا ضد هيمنة نظام طهران على الساحتين العراقية واللبنانية بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية كافة.

      مما تقدم نجد أن نظام طهران سعى بعد حادث الاغتيال إلى احتواء الحراك الداخلي والخارجي وقد نجح في الحراك الداخلي فبعد أن شيع وكلاء طهران الجثامين في بغداد وبعض المحافظات الجنوبية نقلت هذه إلى إيران وبدأ التشييع من إقليم الأحواز العربي المنتفض في غالبه على نظام ولاية الفقيه، وعج المشيعون بعشرات الآلاف ولا ريب أن غالبية المشيعين هم وقود وأداة الحراك السابق لكنهم حين يواجهون تحدي خارجي يتعاطف الجمهور مع ضحايا من قياداتهم مهما كانوا من قبل مع خلاف معهم. وطافت الجثامين مدن إيرانية عديدة كالأحواز ومشهد وطهران وغيرها كما طافت في العراق محافظة بغداد وكربلاء والنجف وعمد الحشد الشعبي في محافظات أخرى تشييعهم رمزيا كما حدث في الناصرية التي شهدت اصطدام بين الحشد الشعبي وبعض المنتفضين الرافضين وسقط قتلى وجرحى بسبب هذا الصدام.

     إن التفاف الجمهور الإيراني خلف تشييع الضحايا فوت على المتربصين بنظام طهران فرصة أن ينمو الحراك الداخلي الرافض لنظام ولاية الفقيه كما كان متوقع منه ليكون موجة تستطيع تغيير منظومة الحكم، كما أن الحادث أثر سلبا على حراك ساحة التحرير في بغداد وصنع شرخا كبيرا بين المنتفضين، فانشطر الحراك إلى شقين الأول الشق الذي يمثل ساحة تأثير التيار الصدري الذي عمل على حماية الحراك وإدامة زخمه طيلة الشهور الثلاثة الماضية وبين شق آخر مناهض للعملية السياسية برمتها ، وسعى التيار لتمرير مرشحين يدعمهم من ساحة التحرير لتولي منصب رئيس الوزراء وكان أفضل الخيارات لديه القاضي رحيم العكيلي مسؤول لجنة النزاهة في إحدى دورات البرلمان وعبد الغني الأسدي وهو أحد القيادات العسكرية المعروفة، وكان في ذات الوقت يعد مرشح تحالف البناء فقد نقلت بعض المواقع؛ بينما كانت الأوساط السياسية والصحافية والشعبية منشغلة بمتابعة تداعيات مقتل سليماني، ومساعده البارز أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، كان "تحالف البناء" يجري مشاورات مع جنرال متقاعد لتقديم اسمه إلى رئيس الجمهورية برهم صالح، كي يكلفه بتشكيل الحكومة الجديدة وفقاً للدستور. وبحسب مصادر مطلعة على مجريات التفاوض، فقد أنجز التحالف اتفاقاً تفصيلياً مع الجنرال عبد الغني الأسدي، القائد السابق في جهاز مكافحة الإرهاب، الذي يوصف بأنه نخبة النخبة في القوات المسلحة العراقية.

  وعلى الرغم من أن قادة هذا الجهاز متهمون بالتقرب من الولايات المتحدة، إلا أن المعلومات تشير إلى أن الأسدي أقر جميع الشروط التي وضعها حلفاء إيران عليه، لتكليفه بتشكيل الحكومة، ما يسلّط الضوء على جانب من المغريات التي يوفرها هذا المنصب، وحجم التنازلات الكبير الذي يقدمه المرشحون لنيله. ويعول "تحالف البناء" على الشعبية الجارفة التي اكتسبها قادة ومقاتلو جهاز مكافحة الإرهاب خلال حقبة الحرب على تنظيم "داعش" بين عامي 2014 و2017، ويعتقد أن رأي الشارع سيكون حاسماً في حصول مرشح ما على الدعم السياسي الكافي، إذ يجب أن يصوت البرلمان على الكابينة الحكومة بالرفض أو القبول.

     وبعد الانتهاء من ارتدادات الحادث في الأيام الثلاثة التي تلته فإن الكرة ستبقى في الملعب بين اللاعبين طهران وواشنطن الفواعل الحقيقية في الساحة العراقية التي تعني لنا كثيرا، فإرهاصات المواجهة تتمدد حينا وتتحجم حينا آخرا ولا يعنينا الرد من سيقوم به؟ ومتى يقوم به؟ وأين سيقام؟ بل الذي يعنينا في المقام الأول أن لا تكون المواجهة بين الطرفين في الساحة العراقية، وأن لا يكون الشعب العراقي وقودا لهذه المواجهة، كما يعنينا التعويل على عودة الحراك إلى وحدته ووحدة طرحه، وأن يسعى لتغيير المنظومة الفاسدة ورفع يد طهران وواشنطن على العراق، ولنعمل على أن يكون الصراع بينهما بعيدا عن أراضينا وأهلنا، فالذي حدث على أرض العراق حدث بينهما فالقاتل والمقتول الرئيس ليسوا عراقيين مع اعتبار ضحايانا في هذه الهجمة وما تلتها من هجمات، نراهن على الوعي العراقي العام بترك أن نكون طرفا في الصراع، وأن نعمل جاهدين كي نجنب العراق وأهلنا تبعات هذا الحادث الكبير.

     وبحسب تقرير لموقع ميدل ايست أونلاين؛ سيكون من الصعب ارجاع عقارب الساعة، فما حدث لا يمكن التراجع عنه بالنسبة للولايات المتحدة أما الخوف من الثأر الإيراني فهو لا معنى له، ذلك لأنها لا تملك حتى أن تحرك أتباعها بعد أن بات واضحا أن القوة العسكرية الأميركية قادرة على رصد كل حركة معادية على الأرض العراقية. من السذاجة اعتبار اغتيال سليماني والمهندس ردا مباشرا على الاعتداء على السفارة الأميركية ببغداد، كانت الرسالة الأميركية واضحة، لا مكان لكم في العراق الذي ينادي شبابه برحيلكم وانتهاء هيمنتكم أيها الإيرانيون. وكما يرى التقرير فإن الولايات المتحدة التي لم تعلن تأييدها المباشر للاحتجاجات في بغداد والمدن العراقية الأخرى قالت كلمتها أخيرا. ستراقب الإدارة الأميركية عن كثب ما يجري من تحولات على مستوى القيادة العراقية بعد الضربة الأخيرة، غير أنها لن تتراجع عن احتواء العراق في ظل تحولات المزاج الشعبي المعادي لإيران.