في حال عدم تحقيق حراك تشرين لأهدافه... إلى أين سيتجه العراقيون؟
م/ مقال
د. عبدالناصر المهداوي
المؤسسة الوطنية للدراسات والبحوث
بعد تصاعد حراك تشرين وتجاوزه لعقبات كبيرة ولعمليات احتواء أكبر خاصة بعد مقتل سليماني والمهندس يظل أمل العراقيين المنشود للتغيير، ويبقى معقد رجاء الشعب العراقي بأطيافه ومكوناته كافة بعد أن نخر الفساد ومنظومته التي رانت على صدر العراقيين بما يزيد عن عقد ونصف من الزمن، لذا يعد حراك تشرين اليوم طوق النجاة للعراقيين كافة، وعليه التعويل إن حقق أهدافه في صناعة غد أفضل لعراق واحد موحد بحكم رشيد ينفي عنه خبثه. لكن إن تم انهاك هذا الحراك أو تم احتوائه دون تحقيق أهدافه المرسومة فإن المستقبل سيكون غامضا ومظلما بشكل كبير، فإن المنظومة الفاسدة التي حكمت العراق ستنشب مخالبها في الجسد العراقي لتنهكه أكثر فلا يستطيع بعدها أن يفكر في مواجهة هذه المنظومة وأسياد حكامها خارج البلاد من الأطراف كافة، لا يقتصر الدور على إيران فحسب وإن كان لها حصة الأسد بل يتعداها لكل الأنظمة التي تعيق تقدم الأمة ونهضتها لتبقى تدور في أفلاك الدكتاتوريات والأنظمة المستبدة التي ترى في نور الحرية والديمقراطية تهديدا لوجودها وديمومتها.
واحدة من أهم المفاصل التي شهدتها الساحة السياسية في العراق بعد مقتل سليماني والمهندس تشكل عبر تصويت البرلمان بنواب مكون واحد من مكوناته على قرار إخراج القوات الأجنبية التي دخلت العراق بدعوة من الحكومة العراقية لمساعدتها في محاربة الإرهاب، الأمر الذي يعد رسالة واضحة على هيمنة هذا المكون على المشهد الأمني والسياسي والاقتصادي العراقي دون إشراك بقية المكونات الأخرى على وجه الحقيقة، لا بل دون الالتفات كثيرا لما يريده هؤلاء، وحتى دون إرادة عدد كبير من هذا المكون دون أن ينبس ببنت شفة وما ذاك إلا لهيمنة السلاح على رقاب الجميع، في العراق اليوم الكل مرتهن لصوت الرصاص، والانعتاق الوحيد تمثل بالحراك الجماهيري الصاعد الرافض للخنوع ولا استثناء بعده للعراقيين كافة دون مواطني الإقليم في شمال العراق الذين نأو بمحافظاتهم عن التخلف والدمار الذي لحق بمحافظات العراق الأخرى، ولن يشكل العرب السنة في مجلس النواب ظاهرة أخرى بل جلهم غارق في أوحال الفساد وبيع المناصب وعقد الصفقات ودونهم عدد لا يتجاوز أصابع اليدين بنواب مخلصين أياديهم نظيفة من السحت والمال الحرام لكنهم لا يشكلون ظاهرة تقوى على الصمود بله التغيير المنشود.
بعد هذا الحدث طفت إلى السطح مجموعة تصريحات وأخبار وتغريدات لمختصين ومحللين سياسيين تصب في مجموعها إلى عودة المطالبة بتشكيل الأقاليم في الوسط والغرب والجنوب على غرار إقليم كوردستان في شمال العراق، استهل هذه التصريحات النائب عن محافظة الأنبار فيصل العيساوي الذي صرح في تغريدة له بهذا الشأن، كما أصدر الأمين العام لتجمع أحرار الفرات الشيخ عبد الله الجغيفي وهو من الحشد العشائري التابع للحشد الشعبي بيانا رسميا بهذا الشأن نجمل منه الآتي؛ نظرا للوضع الراهن والاحداث الدموية التي سبقتها والتي يتليها من تداعيات ولما آلت اليه الامور وضبابية المشهد والنوايا وفي خصم هذا التوتر والقلق وتهديد مصير شعبنا وامنه وامانه ومقدراته واستباحة أراضيه من كل من هب ودب ومن منطلق حرصنا وعملنا الجاد حيث المجازر والخطف والقتل والاستهانه بكل مقدراتنا واخرها القصف الايراني للأراضي العراقية وخرق اتفاق وقف اطلاق النار بين العراق وايران المبرم عام 1988 ولغياب القرار العراقي وصمت الحكومة والرئاسات الثلاث على مدار 16 ستة عشر عاما... بأربع دورات متعاقبة دون استقرار واضح او ملموس ولا املاً يلوح في الأفق لذا ومن باب الحرص والعمل الحقيقي قررنا معلنين باننا سنعمل باتجاه الأقلمة وضمن السياقات الدستورية والقانونية مناشدين ابناء المكون السني التكاتف معنا للعمل على اقليم السنة والذي يُعتبر الحل الامثل والمشروع الوحيد الذي يعيد لحمة ابناء السنة للخلاص من الميليشيات المنفلتة والتي لا تلتزم بالقانون وهي اكبر خطر يهدد المكون السني المنضبط والمملتزم والباحث عن القانون والحرية والعدالة والمساواة . كما ونعلن براءتنا من جميع المجاميع التابعة والموالية لإيران . . هذا واجبنا وهذه امانة في رقابنا أتجاه شعبنا وجمهورنا والله ولي المتقين.
بعد هذا البيان والتصريحات تناقل ناشطون عن وجود شخصيات عربية سنية وخاصة من البرلمان العراقي متواجدون في الإمارات للتشاور حول تشكيل إقليم عربي سني، فقد ذكرت أخبار عن وجود اجتماع لنواب وشخصيات عربية سنية في دبي والاجتماع استمر ليومين ومنهم الحلبوسي و تم على اساسه الاتفاق على تشكيل اقليم سني يضم المناطق السنية بعيداً عن مغامرة الشركاء الشيعة في مواجهة اميركا. وتزامنت هذه الأخبار مع انتشار تغريدات للباحث الأمني هشام الهاشمي حول وجود توافقات محلية وإقليمية ودولية على تحويل العراق إلى نظام فدرالي بعد انشاء وتكوين محافظات وذكر الباحث مجموعة من خمسة إلى ست أقاليم مقترحة على أساس جغرافي وفي تقسيمات غربية عجيبة لم تذكر من قبل كتكوين أقليم كركوك مع استحداث محافظة وضم محافظة ديالى له وبإدارة كوردية تركمانية عربية مسيحية... قيمة تغريدات الباحث هشام الهاشمي تكمن في كون هذا الحوار عليه توافق نسبي ويحتاج إلى حوار هادف من خلال الإعلام مع اعتبار كون التقسيم دستوري لم ينحصر بوجود طائفي مذهبي أو عرقي قومي بل هو جغرافي إداري، ويعطي هذه التغريدات لون من الأهمية كونها صدرت عن شخصية لها علاقات طيبة محلية ودولية، والذي يعنينا في هذا المقال هو التساؤل الذي يقول؛ هل يشكل النظام الفدرالي حلا للقضية العراقية؟
في البداية يتعين أن نذكر أن التعويل اليوم على التغيير الذي يستهدفه حراك تشرين و الحراك الذي قدمت فيه المحافظات العربية السنية تضحيات جسام من قبل دون تحقيقه، لذا يتوجب على العراقيين كافة الالتفاف حول مطلب وطن وهو هدف مشروع للجميع دون وصاية طرفي النزاع إيران وأمريكا عليه، لكن إن لم يحقق الحراك أهدافه فلا بد من تغيير في البنية الإدارية والسياسية للعراق، وواحدة من الحلول التي نعد أنها ممكن أن تسهم في حل القضية العراقية الداخلية تكمن في توزيع الثروة بالعدل كما تعول على إدارة العراق بنظام واحد أما أقاليم أو محافظات بصلاحيات كبيرة وللجميع، ونرجح فكرة تكوين الأقاليم لجملة اعتبارات أولا لكونها قضية دستورية يمكن أن تسهم بتغيير مخرجات العملية السياسية عبر تغيير مدخلاتها، وأن لا نبقى ندور في حلقة مفرغة نجتر بها تجاربنا ونلعق من خلالها آلامنا، وما يرجح إمكانية الحل عن طريق تكون الأقاليم وتكريس النظام الفدرالي هي ميزات هذا النظام الذي أثبتت تجربة إقليم كوردستان في شمال العراق نجاحه ولما يتميز به هذا النظام من سمات تؤهله لذلك، وهناك العديد من المزايا والمحطات التي يتسم بها النظام الفدرالي وهو ما حفت به الكتابات والتحليلات العالمية وسننتقي بعضها في الآتي:
1- أن النظام الفدرالي كفكرة يمكن عده من أعظم عمليات الهندسة السياسية؛ وذلك لأنه حاول أن يوفق بين هدفين سياسيين، يبدو متناقضين: الهدف الأول هو تكوين حكومة مركزية قويه وفاعلة، والهدف الثاني هو المحافظة على استقلالية (أو شبه استقلالية) حكومة الولايات. بمعنى آخر يمكن القول بأن النظام الفدرالي يقوم على أساس فكرة توزيع السلطات بين الحكومة المركزية، والحكومات الأخرى في الدولة.
2- يتميز هذا النظام بإعطاء الحق لكل إقليم (أو ولاية)، بأن تكون لها سياساتها الخاصة بها، بما لا يتعارض مع الدستور الفدرالي، ولا يتعارض مع سياسات أو اتفاقيات الدولة الاتحادية. بمعنى أنه يمكن أن يكون للولايات سياسات تعليمة، أو إسكانية، أو صحية، أو ثقافية مختلفة عن بعضها البعض، بما لا يتعارض مع الدستور الفدرالي، وسياسات الحكومة الفدرالية.
3- هذا النظام يمكن عده من أحسن الإجابات لحل مشكلة الحكم في الدول كبيرة الحجم جغرافياً. والحقيقة أن كل الدول كبيرة الحجم جغرافياً، والناجحة سياسياً، قد تبنت هذا النظام، مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، وروسيا، و كندا، والبرازيل، ونيجيريا، وجنوب أفريقيا، وكندا.
4- هذا النظام هو الأنسب للدول صغيرة الحجم جغرافياً، وبها العديد من الاختلافات العرقية، أو اللغوية، أو الدينية، أو الجهوية .. إلخ. ولعل أحسن مثال على هذا، هو دولة سويسرا، التي يقطنها حوالي 7،523،934 مواطن، حسب إحصائيات 2006، والتي لا تزيد مساحتها عن 41،290 كيلومتر مربع. وفي هذه المساحة الصغيرة يسكن ثلاث شعوب: إيطاليون، وألمان، وفرنسيون. وببساطة، فإن سر نجاحهم، وتعايشهم مع بعضهم البعض، هو نظامهم السياسي الفدرالي.
5- النظام الفدرالي يسمح لكل النشطاء السياسيين على المستوى المحلي والإقليمي، من تحقيق مصالح محافظاتهم ومكوناتهم وحاجاتهم المختلفة، من خلال الدستور والقانون ودون صدام أو تنازع.
6- هذا النظام يحقق المبدأ السياسي القائل: “التنوع من خلال الوحدة”. بمعنى السعي من أجل إيجاد حكومة مركزية، قوية، ومتماسكة، مع السماح بالتنوع، وشيء من اللامركزية في الدولة. وبمعنى آخر هذا النظام يساعد على تحقيق الوحدة بين أبناء الدولة، دون التشاكل (أو التماثل).
7- هذا النظام يشجع على تجريب المشاريع على مستويات صغيرة، قبل تبنيها كسياسات شاملة ومكلفة، أي أن يكون تجريبها محليا من خلال بعض الأقاليم قبل اعتمادها على مستوى الدولة ككل.
8- هذا النظام يجعل السلطات قريبة من المواطنين. ويعيد اللحمة ما بين المواطن وإدارته على المستويات كافة، باعتبار أن الإدارات ستكون من قبل مواطني هذه المحافظات حصرا دون اللجوء إلى خيارات أخرى ممكن أن تعرقل مخرجات ناجحة فأهل مكة كما يقول المثل أدرى بشعابها.
9- هذا النظام سيحد من إمكانية انتشار الاستبداد والطغيان، ومنع إمكانية سيطرة مجموعة صغيرة على شؤون الحكم ببساطة، لكون الديمقراطية في غالب أحوالها متلازمة مع النظام الفدرالي، كما أشرنا في نجاحها في البلدان الكبيرة التي سنفصل بها لاحقا.
10- الحكم الفدرالي واسع الانتشار عالميا, وثمانية من بين أكبر دول العالم مساحة تحكم بشكل فدرالي. وأقرب الدول لتطبيق هذا النظام الفدرالي على المستوى العربي هي دولة الإمارات العربية المتحدة أما على المستوى العالمي فهي دولة الولايات المتحدة الأمريكية.
11- لقد سلكت شعوب بلدان عديدة، وقبل عقود وعقود، سبل إقامة الانظمة الفدرالية لحل مشاكل واجهتها في مسيرتها، منها قومية وأخرى اجتماعية وغيرها اقتصادية.. الخ ( سويسرا، الاتحاد السوفياتي سابقا، الولايات المتحدة، المانيا، الهند، السويد، البرازيل، دولة الامارات العربية المتحدة.. وغيرها). واحرزت غالبيتها الساحقة نجاحات باهرة في مسيرتها.
12- في ما يتعلق بالمسألة القومية، هناك انظمة احرزت نجاحات ملموسة واتسم مسارها بالديمومة والتقدم في حل المسألة القومية لحد اليوم (سويسرا انموذجا) بسبب حرصها على مستلزمات إقامة وديمومة النظام الفدرالي.
13- النّظام الدستوري في أنظمة الحكم الفيدراليّة يرتكز على مبدأ الديمقراطيّة، ومن هنا فالنّظام الفيدرالي قد يكون نظاماً مناسباً؛ بحيث يوفر المناخ الجيّد لتوفير حقوق الإنسان جميعها وكفالة حريّة التعبير للمواطنين وصونها من أيّ عبث وبأيّ اسم كان.
14- القياس على فدراليات العالم المتحضر ضروري مع اعتبار انه لا يمكن قياس جميع القواعد الحاكمة للنظام الفدرالي من نموذج واحد بل ليس هناك نموذجين فدراليين متطابقين تماماً لان الفدرالية ليست نظاماً قانونياً صرفاً بل هي فلسفة ونظام واقعي املته الظروف المادية والواقعية في سبيل احتواء نزعة الانفصال للوحدات المكونة على خلفية تغايرها الديني والعرقي.
15- النموذج الفدرالي وان شكل تطوراً في المفهوم التقليدي للدولة على اساس توزيع اركانها الرئيسية على وحدات صغيرة حاكمة فهو ايضاً يؤدي الى تطور المفهوم التقليدي للديمقراطية والسيادة، وهو اكثر انتاجاً للنظم السياسية من النموذج البسيط، ويبدو ان النظام الفدرالي لم يبلغ شكله النهائي بعد بل ممكن القول انه ليس هنالك شكلاً نهائياً للنظام الفدرالي ولكن السؤال الذي يدور في الفكر التقليدي الدستوري هو هل أن النظام الفدرالي نظام استقرار ام تحول، أي أن النموذج الفدرالي وجد ليبقى بتعقيداته ام هو مرحلة في طريق العودة الى شكل الدولة البسيط؟ ويجيب الفقه الدستوري العربي على انه وجد ليبقى مستدلاً ببعض النماذج الفدرالية التي تشهد مزيد من الاتساع في الوحدات المكونة والمزيد من تقاسم السلطة والسيادة.
16- سيبقى النموذج الفدرالي قابل للتطور واعادة التشكل لان عملية البناء الفدرالي عملية ديناميكية متحركة بصورة متواصلة وتلقائية وبإمكاننا ان نفهم ذلك بصورة جيدة عندما نقرأ ما كتبه بودن هايمر عن التجربة الامريكية.
17- ان التوازن الصحيح بين السلطات الحكومية القومية وحكومات الولايات هو على الدوام موضع نقاش في الحياة السياسية الامريكية وهذه قضية لا يمكن ان يحلها رأي او جيل اوحد وان التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتحولات في القيم السياسية والتفسيرات المختلفة للمحاكم ودور الدولة الامريكية في العالم امور تطلبت جميعها من كل جيل جديد ان يعامل الفدرالية وكأنها مسألة جديدة .
18- بالنسبة للقضية العراقية فالعملية السياسية ثبت فشلها، وما لم يتغير النظام الإداري بما يكفل توزيع عادل للثرة وتمكين مواطني المحافظات من إدارة أنفسهم بأنفسهم لن نتجاوز الفشل الكبير الذي لحق بالعملية السياسية خاصة بعد زوال الثقة بين مكونات الشعب العراقي كافة.
19- تجربة إقليم كوردستان رائدة في مجالها ولولا التداعيات التي صاحبت عملية الاستفتاء ومساعي الانفصال وبعض الأخبار التي لحقت بالواقع الاقتصادي نتيجة سياسات الحكومات المركزية لكانت التجربة الأنجع في الواقع العراقي، وقد تكون لا تزال الأنموذج الأمثل من بين المحافظات العراقية الأخرى.
20- العرب السنة في العراق ولستة عشر سنة مهمشون ومستهدفون ولا يمكن بحال من الأحوال إعادة الثقة لديهم بشركائهم ما لم يستطيعوا إدارة أنفسهم بأنفسهم.
21- أهل مكة أدرى بشعابها...مثل يتجسد به معرفة كل مكون من مكونات الشعب العراقي بحاجاتهم الأساسية فضلا عن الضروريات فلا يمكن بحال من الأحوال تلبيتها بدون تمكنهم من إدارة محافظاتهم أسوة بمحافظات الإقليم.
22- الحفاظ على الاستقرار والحفاظ على المكتسبات الأمنية بعد طرد "داعش" لا يكون فعالا دون إدارة المحافظات التي خضعت لسيطرة التنظيم الإرهابي من قبل أبناء هذه المحافظات.
23- تمكين الميليشيات والفصائل المسلحة سواء كانت منضوية في الحشد الشعبي أو خارجه كالفصائل الولائية التي توالي نظام ولاية الفقيه مباشرة على حساب أبناء محافظات العرب السنة في البعد الأمني سيعيد تفريخ "داعش" جديدة لكون تجربة العراقيين مع الميليشيات مأساوية فالميليشيات الإجرامية أشد قساوة على المجتمع العربي السني من "داعش" وأخواتها.