عزوف العراقيين عن المشاركة في انتخابات جمهورية رجال الدين ...

  عزوف العراقيين عن المشاركة في انتخابات جمهورية رجال الدين ... 

د. مهند العلام 

19/12/2023 

أعلنت المفوضية المستقلة للانتخابات في العراق اليوم ان نسبة المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات بلغت 41 ٪، اذ بلغ عدد المصوتين 6 ملايين و599 ألفاً و668 مواطناً. في حين ان عدد الناخبين المؤهلين للانتخاب في عموم العراق هو 23 مليون، وان العدد الحقيقي للعراقيين المقاطعين لعملية الانتخابات هو 16,400,332 . واذا بحثنا في الخارطة الاجتماعية لمناطق العراق الانتخابية نجد ان نسبة التصويت عند اهل الحواضر من البغادة والمواصلة والبصاروة والنجفية والسوامرة اقل من ذلك بكثير، وتقل أيضا عند الفئات المتعلمة تعليما عاليا، بينما تزداد نسبة التصويت في المناطق التي تحكمها العشائر والقرى والمناطق المختلطة وبين الفئات المتوسطة من أصحاب الوظائف الحكومية. إن تفكيك محتوى الواقع الاجتماعي الراهن للمجتمعات في العراق، لفهم العلاقات المركبة والدقيقة لتكويناته وجماعاته، سوف يساعد على صياغة اساليب ناجحة في التعامل معه، وبالنسبة للباحثين في علم الاجتماع، فإنه ليس هناك ما هو أكثر أهميةً من فهم بنية المجتمع، ذلك أن جميع التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية إنما تحدث داخل هذه البنية. فحين نبحث عن اسباب وعزوف الناس في المشاركة في احد اهم الظواهر الديمقراطية السياسية، فسنجد ان هناك علاقات معقدة وتشابكات اجتماعية قديمة وموروثة وتأثيرات حديثة وتبدلات ما بعد الحرب وصدمات اجتماعية متعددة جعلت الناس يفكرون بطرق غير مألوفة ومختلفة عن بقية الأنماط الاجتماعية العالمية.  فاذا عدنا قليلا الى التاريخ وقرأنا قول ابن جبير الاندلسي في وصف بغداد وأهلها التي وصـلها عـام 1184، في خـلافـة الـنّـاصـر لـدّيـن الله أحـمـد بـن الـحـسـن الـمـسـتـضئ بـأمـر الله، قادما مـن الـمـديـنـة: "وكـنّـا سـمـعـنـا أنّ هـواء بـغـداد يـنـبـت الـسّـرور في الـقـلـب، ويـبـعـث الـنّـفـس دائـمـاً عـلى الانـبـسـاط والأنـس، فـلا تـكـاد تـجـد فـيـهـا إلّا جـذلان طـربـاً وإن كـان نـازح الـدّار مـغـتـربـاً. وكـتـب: نـفـحـتـنـا نـوافـح هـوائـهـا، ونـقـعـنـا الـغـلّـة بـبـرد مـائـهـا، وأحـسـسـنـا مـن نـفـوسـنـا، عـلى حـال وحـشـة الاغتراب دواعي مـن الإطـراب. وأمّـا أهـل بـغـداد فـلا تـكـاد تـلـقى مـنـهـم إلّا مـن يـتـصـنّـع بـالـتّـواضـع ريـاء، ويـذهـب بـنـفـسـه عـجـبـاً وكـبـريـاء...يـزدرون الـغـربـاء، ويـظـهـرون لـمـن دونـهـم الأنـفـة والإبـاء، ويـسـتـصـغـرون عـمّـن سـواهـم الأحـاديـث والأنـبـاء... قـد تـصـوّر كـلّ مـنـهـم في مـعـتـقَـده وخـلـده أنّ الـوجـود كـلّـه يـصـغـر بـالإضـافـة إلى بـلـده، فـهـم لا يـسـتـكـرمـون في مـعـمـور الـبـسـيـطـة مـثـوى غـيـر مـثـواهـم، كـأنّـهـم لا يـعـتـقـدون أنّ لله بـلاداً أو عـبـاداً سـواهـم... يـسـحـبـون أذيـالـهـم أشـراً وبـطـراً، ولا يـغـيّـرون في ذات الله مـنـكـراً...يـظـنـون أنّ أسـنى الـفـخـار في سـحـب الإزار، ولا يـعـلـمـون أنّ فـضـلـه بـمـقـتـضى الـحـديـث الـمـأثـور في الـنّـار... يـتـبـايـعـون بـيـنـهـم بـالـذّهـب قـرضـاً، ومـا مـنـهـم مـن يـحـسـن لله فـرضـاً، فـلا نـفـقـة فـيـهـا إلّا مـن ديـنـار تـقـرضـه وعـلى يـدي مُـخـسِـر لـلـمـيـزان تـعـرضـه... لا تـكـاد تـظـفـر مـن خـواصّ أهـلـهـا بـالـورع الـعـفـيـف، ولا تـقـع مـن أهـل مـوازيـنـهـا ومـكـايـيـلـهـا إلّا عـلى مـن ثـبـت لـه الـويـل في سـورة الـتّـطـفـيـف. لا يـبـالـون في ذلـك بـعـيـب، كـأنّـهـم مـن بـقـايـا مـديـن قـوم الـنّـبي شُـعـيـب... الـغـريـب فـيـهـم مـعـدوم الإرفـاق، مـتـضـاعـف الإنـفـاق، لا يـجـد مـن أهـلـهـا إلّا مـن يـعـامـلـه بـنـفـاق، أو يـهـشّ إلـيـه هـشـاشـة انـتـفـاع واسـتـرزاق... كـأنّـهـم مـن الـتـزام هـذه الـخـلّـة الـقـبـيـحـة عـلى شـرط اصـطـلاح بـيـنـهـم واتّـفـاق. فـسـوء مـعـاشـرة أبـنـائـهـا يـغـلـب عـلى طـبـع هـوائـهـا ومـائـهـا، ويـعـلـل حـسـن الـمـسـمـوع مـن أحـاديـثـهـا وأنـبـائـهـا، أسـتـغـفـر الله إلّا فـقـهـائهـم الـمُـحـدّثـيـن ووعـاظـهـم الـمـذكّـريـن…" ولعل من الخطأ الاعتقاد ان اهل بغداد اليوم هم احفاد أولئكم، لكن هواء وماء دجلة قد يصنع أناس مثلهم، واعني في طريقة تفكير اغلبية المجتمع التي تؤمن ان الدولة والقانون والحكومة هي الحامية والمدافعة والمانعة والمعطية والضامنة لحقوق السكان، ومن ثم ستنحاز الاغلبية فيه الى المرجعية الدستورية بكافة اشكالهم الدينية والعلمانية إذا أحسنوا الاعلان عن أنفسهم بشكل جيد. بينما الاقليات وان كانت حاكمة اليوم الا انها تبقى تبحث عن الحماية عند مرجعياتها الدينية كما كانت طيلة قرون طويلة خلت. اذ ان الاقليات وان كانت عديدة السكان فان نمط التفكير يكون واحدا، ولذلك نرى ان الاقليات اينما يكونوا وفي اي زمان يبقون مرتبطين بوحدة المرجعية لأنها الضامنة لاستمراريتهم ولبقائهم على قيد الحياة ... نرى ذلك عند اليهود ومسيحيي الشرق والدروز والبهائية والشيعة والعلوية والنصيرية والصابئة والاقباط وغيرهم، اذ ينحازون الى مراجعهم التي هي اعلى من الدستور عندهم. وعليه فان النجاح العام في الحكم غير مرتبط بمرجعية دينية او اجتماعية او ثقافية او دستورية او انتخابات ديمقراطية ما، بقدر ارتباطهم بإيجاد نظام يستطيعون فيه ان يعيشوا بسلام، ويتسمون باسمه في ظل الدستور والدولة أيا كان شكلها. وما نراه في مجتمعات الحواضر الكبرى في العراق اليوم من صفات اجتماعية محددة، تبين عزوف الناس بالمشاركة بالانتخابات، كمثل انهم يرون انفسهم دائما انه على حق، وانه دائما هناك خطا الاخرين وليس لهم ذنب فيما وقع عليهم، وان عدم المشاركة في الانتخابات الاخيرة انما هو بسبب الاتهام العام للمرشحين بالفساد والتزوير. وهناك علامة فارقة جديدة ظهرت في المجتمع المدني اليوم وهي ان عموم هؤلاء أصبحوا يعتقدون انهم يفهمون كل شيء، وأصبحوا متشبثين بآرائهم الى حد الفشل والخسارة، وحتى الشخصيات العامة ليس لهم عمل وهمٌ سوى انهم يريدون ان يخبروا العالم عن آرائهم في السياسة والدين والاقتصاد والثقافة والمجتمع وكل شيء من حولهم، مع انهم كذلك متحيزين تجاه آرائهم وليس لهم من غاية سوى جلب الانتباه، بينما تركوا التواضع والرغبة بالتعلم المستمر من الاخر وطرح الاسئلة والاصغاء وقراءة الكتب. ونتيجة لذلك فهمت النخبة الحاكمة ان الفقر هو أصل الشر، بينما فهم عامة الناس ان المال هو أصل الشر، وبالتالي انتشرت في احيائهم الرذيلة والجرائم والمخدرات والفساد والمشاكل المرتبطة بقلة المال، وبقيت البنية التحية للمدن فقيرة والخدمات منعدمة ولا يريدون او يستطيعون القول بالتغيير خشية اتهامهم بالإرهاب، ثم أصبحنا نرى ان المتهمين بقضايا الفساد اغلب ابطالها من المساكين من صغار الموظفين لأنهم كسالى في عقولهم، وبقي هؤلاء يعتقدون بالحظ والنصيب والغيب ليشتروا اوهام التغيير لأنهم فقراء. بينما أصبحت النخبة الحاكمة تفهم ان دخلهم مرتبط بالجهد الذي يبذلونه وبالتالي أصبحوا بارعين في كل مهنة يتولونها سواء في الفساد والسرقات في الاقتصاد او السياسة او حتى في القتال. وأصبحت لديهم القناعة بسبب غناهم ان العمل واتخاذ القرارات والتغيير لا يحتاج الى طرف ثالث. والمفارقة أنّ هذه النخبة غير مطمئنة كفاية لهذا الواقع الحاكم في العراق فهم امام مستقبل غامض، في ظل التغييرات السياسية الحالية، خاصة بعد ان بلغت نسبة المقاطعة للانتخابات العراقية الاخيرة أكثر من 80% بحسب التقديرات المستقلة. فقدوم الطائرة العسكرية الامريكية المحملة بالدولارات شهريا لأجل دفع رواتب موظفي الدولة، لان العراق لايزال حتى هذا اليوم تحت البند السابع عمليا، ولازال أكبر مصرفين رسميين في العراق وهما مصرف الرافدين ومصرف الرشيد على القائمة السوداء "black list" التابعة للأمم المتحدة، ولذلك فالنظام الاقتصادي والنظام السياسي المتعلق به لازالا خارج السيادة الوطنية. ولأجل ذلك يحاول السياسيون في العراق ايجاد وسيلة لأثبات سلطتهم من خلال الانتخابات ويحاول الاقتصاديون ايجاد نظام اقتصادي معين موازي لنظام العقوبات من خلال خلق اقتصاد متكامل مرتبط بإيران وميلشياتها والتي هي القوة المدافعة والمحافظة على كيانهم السياسي والاقتصادي. فالذي يقلق الاحزاب الحاكمة جديّاً كي يكون أداؤها بهذا المستوى من التخبط الانتخابي ان هنالك فرضية تتحدث عن مزيج من ذهنية نظرية المؤامرة كما درجت العادة من ناحية، ومن التوقّعات المرتبطة بالسياق الراهن في حرب غزة، فأميركا ماضية قدماً في سياسة تعقّب الارهاب، وأن العقوبات المالية على الفصائل الشيعية ستكون عملية تراكمية، وهذا سيجعل أي خرق ولو كلامي ـأن يفقد السيطرة الحكومية على الشارع العراقي. ومنذ ان ظهرت نتائج الانتخابات العراقية العامة في 2022، والتحالفات التي ظهرت بعدها في تشكيل الحكومة الحالية تعطي انطباعا بالحرب المفتوحة، بل الحرب الشاملة مع كل من يقف ضد إيران. ولقد أدَّت المرجعية الدينية دوراً أساسياً في عراق ما بعد 2003 وبالذات شخصية المرجع السيستاني، على صعيد بلورة موقف الطائفة الشيعية من الدولة والتنافس السياسي ومسارات الانتخابات وتشكيل الحكومات. وهذا الدور السياسي للمؤسسة الدينية جاءت على خلفيات أن الأحزاب السياسية الدينية الشيعية كانت ولا تزال بحاجة إلى الشرعية السياسية لممارسة أدوارها في المجتمع العراقي، اذ أن الانبعاث الشيعي في العراق وظهوره في بنية مؤسسات الدولة أدى إلى تغير في توازن القوى الطائفية في العراق وسوف يؤدي إلى تغير طبيعية الصراعات السياسية. ومن الممكن أن تؤدي هذه التغييرات في المستقبل إلى انفجار قادر على تحطيم سيطرتهم وإطاحة بالحكومة الدينية الشيعية التي يقودونها في العراق. وهذا ما حذر منه المرجع الاعلى السيد السيستاني في اشاراته عند تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الاخيرة، اذ انه من المعلوم ان الحكومة التي ولدت نتيجة الانتخابات انما تشكلت هذه الحكومة بتوجيهات من المرجعية بصورة مباشرة. وبصراحة أكبر، ان هزيمة هذه الحكومة اليوم في بغداد معناه هزيمة رجال الدين الشيعة اذ ان الجمهورية العراقية اليوم هي جمهورية رجال الدين في النجف، فلا يمكن لغيرهم أن يكون ضامنا للقوانين الإلهية، وأن يكون دليلا وموجها للشعب، ويحافظ على الطائفية سوى هم. وان أدنى تصدع في معسكرهم سيؤدي إلى سقوط هذه الجمهورية الجديدة. ان رجال الدين في العراق اليوم لا يشكلون طبقة واحدة ولا جماعة اجتماعية منسجمة ولا يتشاركون دائما بالمصالح ذاتها. وحتى وإن كانوا يحاولون حاليا الحفاظ على تماسكهم، على الأقل ظاهريا، بهدف توطيد مكتسباتهم، إلا أنه توجد داخلهم مصادر عديدة للنزاعات والانقسامات الداخلية التي تُبقي على حالات التوتر بينهم ثابتة. وستؤدي الانقسامات بين رجال الدين الشيعة في العراق وإيران إلى انفجار قادر على تحطيم سيطرتهم وإطاحة بالحكومة الدينية التي يقودونها في العراق. وفي النهاية يدرك العراقيون الاصلاء من اهل الحواضر الرئيسية فيه ان ما تسير عليه العملية السياسية في العراق ليس نتيجة تخبط او جهل او فساد فحسب، بقدر ما هي تطبيق لاستراتيجية توقد للفوضى وتسعرها وتسيطر عليها في حدود مصالح امراء هذه العملية السياسية الذين يغيرون اسمائهم واشكالهم مع كل انتخابات تمر على العراق، ومادام هنالك مصانع واعادة انتاج لهؤلاء في البلاد كالجامعة الامريكية في السليمانية وما يشابهها من المراكز المحلية والدولية والتي وظيفتها الاساسية اعادة انتاج واستنساخ اجيال من امراء الحرب. وبالتالي أصبحت القاعدة الشعبية المرتبطة بموظفي الحكومة وهي اداة من الأدوات الأساسية لاي نظام هيكلي سياسي يظهر بشكل قوي، ويعتمد عليه النظام في بناء البلد وفي الأزمات، وهو اضح وقوي لدى السلطة الحاكمة، وهذا ما رأيناه في مشاركتهم في الانتخابات الاخيرة، اذ كان في اغلبها الأكثر تنظيما وصعودا وفوزا من ارتبط بهذه المنظومة العميقة الحاكمة.