حراك تشرين  في العراق... الدوافع والخصائص

حراك تشرين  في العراق... الدوافع والخصائص 

بحث مقدم الى منتدى الفكرالحضاري في اسطنبول 

                                                                    د. عبدالناصر المهداوي

                                                           المؤسسة الوطنية للدراسات والبحوث NASR

المقدمة

أهمية البحث وسبب اختياره

    تكمن أهمية البحث في أسباب وخصائص ومخرجات حراك تشرين في كونه ظاهرة مجتمعية جديدة وفريدة لم يشهدها الشارع العراقي بهذه الكيفية والكمية والنوعية من قبل، ففي مستهل شهر تشرين أول 2019 انطلقت حركة شبابية كبيرة رافضة للمنظومة السياسية والأمنية الموالية لإيران التي جثمت على صدور العراقيين ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن فأوردت العراق المهالك عبر استشراء أمراض عضال كالفساد والطائفية والإرهاب التي شلت الواقع العراقي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأفضت إلى غياب الخدمات الأساسية ولو بحدودها الدنيا، وللمرة الأولى من بعد الاحتلال ترنو في الأفق آمال تغيير المنظومة الفاسدة التي حكمت العراق من 2003 ولساعة كتابة هذه الكلمات. عمت هذه الانتفاضة العديد من محافظات الجنوب وقلب العاصمة العراقية في ساحة التحرير التي عدت القلب النابض لهذا الحراك، ومن ساحة التحرير ومقترباتها ينعقد الرجاء ويتجدد الأمل في التغيير المنشود بعد أن تحرك جم غفير من الشباب المقهور على ضياع هذا البلد المثخن بالجراح، فصدحت أصواتهم ضد رجال العملية السياسية الفاشلة الذين أورثوا العراق الثالوث المدنس المتشكل في الفساد، الطائفية، الإرهاب الوجوه الثلاثة لنظام المنطقة الخضراء، لذا سنركز في بحثنا هذا على حراك ساحة التحرير لكونه الانموذج ورأس الحربة والحجابات المتقدمة اللصيقة بالمنطقة الخضراء.

إشكالية البحث

تكمن إشكالية البحث في مجموعة التساؤلات الآتية

  • مع أن العراق شهد موجات عديدة من التظاهرات والاحتجاج ما الذي يميز حراك تشرين عنها؟
  • ما الدوافع والأسباب الحقيقية التي حدت بالشباب العراقي الممثل للحاضنة المجتمعية للأحزاب الحاكمة في الخروج عليها والمطالبة بتغييرها؟
  • هل يعد الثالوث المدنس الطائفية، الفساد، والإرهاب صناعة محلية لأحزاب المنطقة الخضراء؟ أم أنها موروث عراقي من قبل الاحتلال؟
  • هل غياب الحد الأدنى من الخدمات وانتشار الفقر المدقع بين الشباب العراقي بشكل عام خلافا لأفراد الأحزاب والمسؤولين منهم والميليشيات وحملة السلاح وتجار الحروب ومافيات المخدرات والفساد هو المتسبب الرئيس بهذا الحراك؟
  • ماهي أهم ميزات هذا الحراك وما هي مواطن القوة والضعف فيه؟ ماهي الفرص والتحديات الناتجة عنه؟
  • من هم العمود الفقري لهذا الحراك من أي طائفة وقومية ومن أي فئة عمرية؟ وماهي خصائصهم وميزاتهم الفكرية والسياسية والاقتصادية؟ وماهي هويتهم المجتمعية؟ وهل للحراك قيادة وتنظيم أم أن العفوية سيدة الموقف؟ وما هي علاقته مع الأطراف السياسية الأخرى خاصة التيار الصدري وسائرون؟
  • ماهي موارد المنتفضين البشرية والمادية والمعنوية؟ وما هي أهم أدواتهم؟ وهل ستستمر سلميتهم مع هذا القتل الممنهج التي تعمله الميليشيات الموالية لإيران؟
  • هل الزمن وتقادمه في صالح الحراك أم يصب في صالح المنظومة الحاكمة؟ وهل من سبيل لإدامة زخم الحراك مع تقادم الزمن وفشل تحقيق الأهداف المرجوة منه؟
  • هل يعد الحراك اليوم جسم متكامل الأعضاء ورأسه في ميدان التحرير وجسمه وأطرافه في محافظات الجنوب؟ إن كان الأمر كذلك أين يكمن موقف المحافظات والمكونات الأخرى خاصة العرب السنة والكورد؟
  • ماهي أهم مطالب الحراك؟ وهل هنالك سقف أعلى وسقف أدنى لها؟ وهل من الممكن المناورة بها؟
  • إن لم يكن للحراك قيادة ولا تنظيم فكيف ستفاوض المنظومة؟ ومن يمثل الحراك؟ وما مدى معقولية ومنطقية تحقيق مطالبهم في ظل هيمنة المال والسلطة والسلاح والقوة عند الطرف الآخر؟ وهل ستصمت إيران في ظل غياب التأثيرات الإقليمية والدولية الأخرى؟
  • كيف ستكون مخرجات الحراك في ظل تعنت النظام ومحاولاته على الاستعصاء أمام أي تغيير حقيقي وجوهري؟
  • ماهي أهم السيناريوهات المتوقعة؟ وكيف سيتعامل الحراك معها؟ وماهي تداعيات كل سيناريو على الواقع العراقي في أبعاده السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية؟


أهداف الدراسة

يسعى هذا البحث إلى تحقيق جملة أهداف تتشكل بالآتي؛-

  • وضع اليد على أهم الأسباب الموجبة للحراك، ومعرفتها وكشف كنهها وماهيتها كي نجنب العراق والعراقيين ولو على مستوى النظرية المطبات التي تسببت بالفشل الذريع في الأبعاد السياسية والأمنية والمجتمعية والاقتصادية كافة ، والعمل على مشروع جديد واعد للحراك إن نجح يتجنب عمليات الاجترار والتكرار لما سبق من حكومات فاشلة تسببت دمار وتخلف العراق.
  • معرفة الحراك وطبيعته وسبر غوره والوقوف على أهم نقاط القوة فيها وتدعيمها، ومعرفة نقاط الضعف والاخفاق والسعي لتجاوزها واكتشاف طرق وأساليب ردمها، والوقوف عل أهم الفرص والعمل على اقتناصها واستثمارها، ومعرفة أهم التحديات التي تواجها والبحث عن سبل تذليلها وتجاوزها واحتوائها.
  • رصد مخرجات الحراك والكشف عن أرجح الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة وحساب الموقف من كل احتمال وطرق التعامل وفقه بما يحقق مصلحة العراق والعراقيين، والسعي لإيجاد خطط مكافئة تواجه كل احتمال من الاحتمالات كي لا نؤخذ على حين غره.


فرضيات البحث

سنتناول لهذا البحث ثلاث فرضيات تشكل المخرجات المتوقعة نتيجة تدافع الحراك مع المنظومة الحاكمة تشكل الأولى الحسم للحراك على حساب المنظومة، وتمثل الثانية حالة من الالتقاء بين الحراك والمنظومة بعد حدوث تغيير جوهري لكنه جزئي، والفرضية الثالثة تشكل حسم المعركة لصالح المنظومة مع اعتبار أنها ستعمد على إجراء إصلاحات حقيقية وجوهرية لكنها ستستمر في قيادها للسلطة والقرار.


 

الفرضية الأولى؛

     في حال إدامة زخم الانتفاضة ومحافظتها على إطارها السلمي والتحاق بقية المحافظات والمكونات بها فإنها بالضرورة ستصنع تغيير جوهري في المشهد السياسي والأمني والمجتمعي العراقي شريطة أن تكسب الفواعل المحلية والإقليمية والدولية إلى جانبها ولو على سبيل الاطلاع والمراقبة إن تعذر الدعم المادي والمعنوي.




الفرضية الثانية؛

في حال انحسار الحراك لصالح المنظومة مع ديمومة الحراك وبقاء فاعليته وتأثيره ففي الإمكان اللقاء في منطقة وسط، يتحقق من خلالها التغيير في الوجوه والأدوات، مع بقاء نفوذ وسلطة كبيرة للمنظومة أي أن يتحقق تغيير جوهري جزئي، مع احتواء خطر الصدام العنيف بينهما.


الفرضية الثالثة

أن تتمكن المنظومة الحاكمة من احتواء الحراك وتفريغه من محتواه وإنهائه بـأي شكل من الأشكل، وحتى في هذه الحالة فإن المنظومة ستعمد إلى إجراء إصلاحات حقيقية وستحجم ثالوث الفساد والطائفية والإرهاب، وستقدم على مذبح دوامها وديمومتها بعض الأفراد من الذين احترقت أوراقهم من قبل وتضحي بهم، وستلبس ثوب جديد من غير تغيير في جوهر وجودها وتبعيتها لنظام ولاية الفقيه في إيران.


خطة البحث

   يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث رئيسة ويندرج تحت كل مبحث مجموعة مطالب ومن خاتمة وقائمة باسم المصادر وفهارس، في المبحث الأول تطرقنا لتاريخ العملية السياسية بعد الاحتلال الأمريكي وكيف تكرس واقع جديد بعد أن تم حل المؤسسات السابقة كافة، وتدرجنا مع تطور العملية السياسية وكيف تمكنت إيران من الهيمنة على الساحة العراقية بأبعادها السياسية والأمنية والمجتمعية والاقتصادية، وبالتالي عملت هذه الهيمنة على افشال العملية السياسية، في المبحث الثاني تكلمنا عن دوافع الحراك وتناولنا أهم هذه الدوافع التي تجتمع في ثالوث الطائفية والإرهاب والفساد، وفي المبحث الثالث تناولنا أهم الخصائص والسمات التي يمتاز بها الحراك، وفي المبحث الرابع تناولنا مخرجات الدراسة وتكلمنا عن مطالب المتظاهرين، ومن ثمة تناولنا السيناريوهات المحتملة لمخرجات الحراك وقمنا بالترجيح فيما بينها، وفي الخاتمة تضمنت أهم النتائج والتوصيات.




منهجية البحث

سيعتمد البحث على مجموعة متداخلة من ثلاثة إلى أربعة مناهج وهي على التوالي، المنهج الوصفي التحليلي، المنهج الاستقرائي، المنهج النفسي، المنهج الاستنباطي في الدرجة الأساس مع اعتبار أننا سنستفيد من المنهج التاريخي في سردية تجذر الثالوث المدنس المتمثل بالطائفية والفساد والإرهاب مع تعاقب الحكومات التي حكمت العراق من الاحتلال وليومنا هذا.



أهم مصادر البحث

     يعد الإعلام والشبكة العنكبوتية والعالم الافتراضي أهم وسيلة للوصول على المصادر المعتمدة  التي توكأ عليها البحث مع اعتبار اختيار مواقع النشر الرصينة في غالب الأحيان.  وكذلك لتوصيف الحراك ومتابعته ميدانيا تابعنا العديد من الناشطين الذين شاركوا في الحراك في ساحة التحرير واعتمدنا على الرصد الميداني لهم، كما تابعنا نشاطات حسابات التواصل الاجتماعي المهتمة بالحراك وتابعنا بعض المنصات والمواقع الفاعلة.

أهم المعوقات

تكمن مجمل المعوقات في إيراد الأخبار الدقيقة التي في الامكان بناء عليها تحليل واقعي، لكون مجمل وغالب المواقع غير حيادية، كما أن النقل الميداني يخالطه رؤية الناقل وتقديره وقناعاته مع اعتبار منظومته القيمية وبالتالي سينقل ما يناسبه، وهذه آفة لا نستطيع التحرر منها فحتى كاتب هذه الكلمات لو أراد التحدث عن شخص مؤثر في الحراك قد تمنع ذلك بعض مواقفه وسلوكه الذي يراه الكاتب غير مناسب ولا يليق. التجرد والموضوعية والحياد مفاصل مهمة لكي يكون مخرج البحث الوصول للحقائق الموضوعية.






تمهيد

شهد العراق من بعد الاحتلال الأمريكي في 2003 تحولات كبيرة على المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية كافة، فبعد أن خضع العراق لعهود من الحكم الشمولي وسياسة الحزب الواحد التي حافظت على الدولة العراقية ومؤسساتها وهيبتها على الرغم مما يعتري هذا الون من الحكم من استبداد وقسوة ومصادرة للحريات والحقوق، لكنه في مجمله كان يحقق الأمن والاستقرار والسيادة لعموم العراقيين. وبعد أن  تعرض للاحتلال الأمريكي في 2003 بدعوة كاذبة تكلمت عن كونه تهديدا للسلم الدولي باعتبار حيازته لأسلحة الدمار الشامل، الكذبة التي انطلت على المجتمع الدولي، كما سوق لكذبة أكبر تمثلت في دعوة تحقيق نظام ديمقراطي في ظل حكم رشيد، أغرق المحتل الأمريكي العراقيين في أوهام الحرية والديمقراطية المزعومة، اكتشف العراقيون بعد حين أن المحتل أغرقهم في فوضى عارمة وورثهم أمراض وعلل لا قبل لهم بها ولم يعهدوها من قبل، فأوجد المحاصصة وكرس الطائفية واستبدل بالمواطنة المكونات وتسلل في أن يخضع العراق لهيمنة الأحزاب الموالية له ولنظام طهران، وبعد الانسحاب قدم العراق على طبق من ذهب لإيران، ومع أن إيران المستفيد الأكبر من الاحتلال إلا أن علاقتها مع العراق لم تكن علاقة بلدين شقيقين بل تعاملت مع العراق والعراقيين على أنهم تبعا لها وبالتالي على السياسيين أن يعتبروا مصالح إيران على تعاقب الحكومات التي حكمت من بعد الاحتلال حتى لو كانت على حساب الصالح العراقي العام، لذا لم نلمس أي تشريع للحكومات المتعاقبة يناقض مصالح إيران، كما أن الحكومات المتعاقبة فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الحد الأدنى من مقومات العيش الإنساني، فأهدرت ثروات العراق بما لا طائل من تحته لا للعراق كوطن ولا للعراقيين كمواطنين.



 

المبحث الأول

الفواعل الإقليمية والدولية في العراق...الولايات المتحدة الأمريكية وإيران... 2003- 2018

التخادم الأمريكي الإيراني

     يعد احتلال العراق في 2003 فرصة تاريخية لنظام ولاية الفقيه في إيران في ترسيخ نفوذه في العراق عبر السيطرة على الحكومات وجعلها موالية له، فسارعت بالاعتراف بالعملية السياسية ودعمها ورفدها بالخبرات المطلوبة وتوطيد العلاقات مع الأحزاب والشخصيات المتنفذة فيها (مع اعتبار جل هذه الأحزاب والشخصيات موالية لنظام طهران وربيت على عين إيران)، وهو ما أعطى لطهران موطئ قدم في العراق. إذ عملت على ترسيخ القاعدة التي بدأتها الولايات المتحدة بتعزيز النهج الطائفي في اقتسام السلطة خاصة بعد تكريس المحاصصة الطائفية في عهد الحاكم المدني بول بريمر. وذلك من خلال قيامها بجهود واسعة في إزالة الخلافات العالقة بين التيارات الشيعية من أجل ضرب عصفورين بحجر واحد(1)، الأول يتمثل في الحفاظ على أغلبية شيعية تأتي بحكومات حليفة لإيران، والثاني في كسب ولاء مختلف التيارات الشيعية على اعتبار أن إيران هي الوسيط المتوقع في أي خلاف شيعي-شيعي قادم. وتلك هي المهمة التي خوّلت إيران لعب دور في إعادة تأهيل الجيش العراقي والتنسيق معه وتوقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية بشأنه. كرس الحاكم المدني بريمر الطائفية عبر تحويل العراق من دولة مواطنة إلى دولة مكونات عرب سنة، عرب شيعة ، كورد في سابقة خطيرة لم يشهدها الشارع العراقي السياسي من قبل وكرس المحاصصة الطائفية وأنشأ مجلس الحكم الانتقالي وفقا لهذه الرؤية بأغلبية شيعية وقارب في مفارقة بين العرب السنة والكورد مع أن تعداد العرب السنة ضعف عدد الكورد، فكرس حكم الشيعة الذي اعترف له في مواطن أخرى كثيرة وبات معلوما عنه، لم تنتهِ آثار مجلس الحكم الانتقالي بانتهاء تشكيله في عام 2004، وتعيين حكومة مؤقتة يتزعمها “إياد علاوي”، إذ أن كل ما أُقِرَّ في العراق بعد ذلك كان مبنيا على أساس ما اتُّخِذَ من قرارات في مجلس الحكم الانتقالي. شهدت ولاية علاوي رغم قصرها أحداثا كثيرة حيث تفاقم الوضع الأمني، وثار جدل حاد حول الانتخابات العامة بين رافض لها في ظل الاحتلال ومطالب بإجرائها في موعدها وطرف ثالث سعى إلى تأجيلها، لكن حكومة علاوي حققت تقدما في مجال العلاقات الإقليمية والدولية، وانسحب ذلك على الجانب الاقتصادي الذي شهد بداية شطب وتخفيض الديون العراقية الضخمة، وشهدت الفترة ذاتها تسابق الأحزاب والقوى السياسية في البلاد استعدادا للانتخابات التي جرت بالفعل في الثلاثين من يناير/كانون الثاني 2005 وعدت نجاحا للحكومة المؤقتة، لتفرز واقعا سياسيا جديدا في ظل تمركز الهيمنة على الجمعية الوطنية في عدد محدود من القوى مقابل تلاشي قوى أخرى ومقاطعة قوى ثالثة تمتلك تأثيرا شعبيا مهما وإن ظلت خارج البرلمان.

 واستكملت إيران تنفيذ استراتيجيتها في العراق من خلال محاولة التحكم في العملية الانتخابية العراقية عن طريق حلفائها العراقيين أنفسهم. وأول الانتقادات جاءت على خلفية استبعاد عدد كبير من المرشحين السُنة البارزين قبيل انتخابات 2010 بموجب قرارات هيئة المساءلة والعدالة، التي تهتم بتطبيق العزل السياسي الذي أُقرّ بحق أعضاء البعث السابقين، بعد ما قيل أنه جهود قيادات شيعية بارزة مرتبطة بطهران. وتواصل الدور الإيراني بعد انتهاء الانتخابات لتتدخل في مرحلة تشكيل الحكومة، واتضح ذلك بعد توافد قادة سياسيين عراقيين إلى طهران في احتفالات عيد النيروز في السنة ذاتها، وهي الزيارات التي تزامن معها إعراب نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي يومذاك، عن قلقه بشأن المحادثات التي تجريها قيادات سياسية عراقية بطهران من أجل تشكيل الحكومة. وما أثار الانتباه إلى جدية ما صرّح به نائب الرئيس هو حضور الرئيس نفسه إلى طهران بعد أيام قلائل على إيفاده وزير خارجيته للقمة العربية في سرت الليبية (2010). وهذا الموقف يدلل كثيراً على مدى النفوذ الذي تمكنت إيران من الحصول عليه في العراق حتى تسبب في خروج تصريحات قوية من وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك حول محاولة إيران للتأثير على الانتخابات العراقية. ولم تسلم الشؤون الخارجية للعراق من التدخلات الإيرانية شأنها في ذلك شأن التدخلات في الشؤون الداخلية، فقد اعترضت على الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة المتعلقة بتحديد وضع القوات الأمريكية وانسحابها من العراق، ولهذا اضطر رئيس الوزراء يومها المالكي للذهاب إلى طهران، في محاولة لطمأنة نظام طهران، والتعهد بأن ينص الاتفاق النهائي على منع الولايات المتحدة من مهاجمة إيران انطلاقاً من الأراضي العراقية.

 

1-2 هيمنة المشروع الإيراني على مفاصل الدولة العراقية

        لم يقتصر الدور الإيراني على التغلغل في الحكومات الطائفية التي قادت العراق بعد الاحتلال بل تعدتها بالتدخل في مفاصل الدولة كافة، عبر منظومة مؤسساتها المختلفة في وسائلها والمتحدة في أهدافها فالمخابرات الإيرانية ومنظومة وزارة الخارجية تختلف جذريا في سياستها عن الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس بقيادة الجنرال سليماني، مع اعتبار أن الطرفيين يسعيان لتحقيق مصالح النظام الإيراني وإن كانت وسائلها متباينة، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على قدرة النظام الإيراني باللعب على كافة الأصعدة وبنظام معقد يصعب فهمه في أحيان كثيرة، فقد رصد بالدليل القطعي مسؤولية جهات موالية لإيران عن تفجيرات شهدها الشارع العراقي الشيعي الذي يفترض حرص إيران على الحفاظ عليه ودعمه الأمر الذي يقف إزائه المراقب بحيرة وتردد… ويروي أحد المسؤولين أنه واجه سليماني في هذا الفعل فرد عليه أن مصلحة الأمن القومي تستوجب ذلك ...إن صحت هذه الرواية مع اعتبار كونها وغيرها من الأمثلة كثير، هذا فضلا عن أن الاهتمام الخارجي يفترض أن يكون من نصيب الخارجية الإيرانية وجهاز المخابرات على اعتبار التخصص الموضوعي، بينما في إيران نجد أن الحرس الثوري الإيراني منشغلا في التدخلات الخارجية للدول الأخرى، كشفت دراسة أجرتها منظمتان أوروبيتان مقرهما بروكسيل، عن الدور التخريبي للحرس الثوري الإيراني في 14 دولة بالشرق الأوسط في السنوات الـ30 الماضية، وقالت الدراسة التي جاءت في 56 صفحة، إن كبار الضباط بالحرس الثوري، بدأوا التدخل في شؤون الدول الإقليمية بشكل ممنهج، وزاد هذا التدخل في العام 2013 عقب التوقيع على الاتفاق النووي مع الغرب. وأوضحت الدراسة الصادرة عن الرابطة الأوربية لحرية العراق التي يرأسها ستروان ستيفنسون، أن هناك أكثر من 70 ألف جندي في سوريا يعملون نيابة عن الحرس الثوري (2). وليس أدل على سير الأحداث في العراق على خطى سياسية إيران من تشريع قانون الحشد الشعبي في البرلمان العراقي خلافا للدستور العراقي الذي يمنع تشكيل قوى مسلحة خارج القوات العراقية المسلحة النظامية (3) ويعد الحشد الشعبي تشكيل طائفي يسير على خطى الحرس الثوري الإيراني وملهمه قائد قوات القدس الجنرال قاسم سليماني، ويدل على ذلك ما كشفته مصادر سياسية(4) ان هناك خطة “إيرانية” لتحويل الحشد الشعبي الى حرس ثوري عراقي. واضافت ان اوساطا عراقية تداولت سيناريو خطة إيرانية لتحويل الحشد الشعبي إلى حرس ثوري عراقي على شاكلة الحرس الثوري الإيراني ورفع أعداد منتسبيه وتحسين تسليحه والارتقاء بهيكلته. وتابعت إن رئيس هيئة الحشد فالح الفياض ونائبه أبو مهدي المهندس شرعا بالفعل في العمل على تلك الخطّة ومناقشتها مع خبراء إيرانيين. وسبق للفياض أن طالب البرلمان ورئيس الوزراء حيدر العبادي بتغطية مالية لقرابة مئة وخمسين ألف منتسب للحشد الشعبي، بينما المعروف أنّ التعداد الرسمي لعناصر الحشد عند إقرار قانونه في نوفمبر من العام 2016 لم يتجاوز الثمانين ألف عنصر ”على حد قول المصادر”. وبتجاوز عدد الحشد عتبة المائة ألف عنصر يقترب من نصف عدد قوات الجيش العراقي، وهو أمر يرى فيه ساسة وعسكريون عراقيون أمرا خطرا يمهد لتحجيم دور القوات التابعة لوزارة الدفاع ولجعل الحشد بديلا عن المؤسسة العسكرية، وهو ما حصل على وجه الحقيقة بين سنتي 2014 و2018 .وأشارت المصادر إن قادة الحشد يخططون لجعله قوّة عسكرية أساسية ونوعية لا سيما وأن لديه (دوائر تخصصية متقدمة على مستوى الاستخبارات والهندسة العسكرية والطبابة والاتصالات وحتى على مستوى العمليات النوعية والعمليات الخاصة، وهو في ذلك يناظر جهاز مكافحة الإرهاب من ناحية القدرات)، وفق ما جاء في بيان سابق أصدره فالح الفياض. ولم يستبعد مسؤول أمني عراقي سابق تحدث طالبا عدم التصريح بهويته أن تنفذ إيران مخططها بتوأمة الحشد مع الحرس الثوري، واصفا الحشد بأنه الابن الأصغر للحرس الثوري كون الابن الأكبر هو حزب الله اللبناني. وقال إن هناك خطة إيرانية ينفذها سياسيون شيعة وقادة فصائل قريبون من إيران وقاسم سليماني قائد فيلق القدس لتوأمة الحشد مع الحرس الثوري، وقد بدأت ملامحها الأولية بالترويج لفكرة تماثل الأدوار التي ينفذها الحشد والحرس الثوري الإيراني. كل هذا السباق الحثيث للِّحاق بركب القيادة الإيرانية يجري على مرأى ومسمع القيادة الأمريكية التي تعيد الكرة مرة أخرى في تقوية نفوذها في العراق من غير أن تعارض التوجه الطائفي الذي يسير على خطى إيران، بل بعد أن عاثت المليشيات الطائفية ربيبة إيران والتنظيمات الإرهابية صنيعة لإيران في العراق فسادا(5) من غير أن تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية بها بل تركتها ليتعرف عليها الشعب العراقي وشعوب المنطقة، وبعد ذاك تجعل أمريكيا من نفسها المنقذ والمخلص للعراقيين …


1-3 تضارب المصالح في العراق بين واشنطن وطهران


      من بغداد أراد الجنرال ماتيس التأكيد للعراقيين أن قفزة نوعية في مستوى التعاطي ستتخذها الإدارة الأميركية الجديدة ستعجل في التأسيس لشراكة طويلة الأمد مع العراق تأخذ طابع التحالف الاستراتيجي بين البلدين، الذي سيحول العراق إلى إحدى أهم الركائز التي ستعتمد عليها حركة التغيرات المقبلة على المنطقة والتي ستحدد دور بعض الدول وطبيعة نظامها، ولذلك تعمد ماتيس الإشادة بالانتصارات التي يحققها الجيش العراقي ضد الإرهاب، ونوه بالتقدم الكبير الذي حققته القوات المسلحة العراقية في السنتين 2015 و2016 وبتضحياتها وتمتعها بسمعة جيدة.(6) وعليه، من الطبيعي أن يربك هذا التوجه الأميركي الجديد طهران ويزيد من نسبة توترها، فالسمعة السيئة تلاحق ميليشياتها الطائفية المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي، وقرار واشنطن دعم الجيش العراقي في المرحلة التي بدأت تفقد السيطرة على قراره يشكل انتكاسة فعلية لنفوذها في العراق، فلم تنجح طهران منذ كارثة الموصل وقرار المالكي المشبوه بانسحاب وحدات الجيش أمام هجوم «داعش»، في تأسيس قوة عسكرية موازية تتحول مع الوقت إلى بديل عن الجيش الوطني، الذي بات الآن يتمتع بشرعية شعبية ورسمية من كل المكونات العراقية، حيث يرتفع احتمال تصادمه مع الميليشيات الطائفية، خصوصًا بعد انتهائه من حرب الموصل وما بعد «داعش»، وهي ميليشيات باتت تمثل المصالح الإيرانية في العراق، وتشكل ذراع طهران السياسية التي تتسلط من خلاله على القرار السيادي العراقي. لن يكون الساكن الجديد في البيت الأبيض مترددًا كأوباما، كما يعرف الجنرال ماتيس أنه أقل حذرًا في ردات فعله من زميله بترايوس، لذلك سيصعب على الجنرال قاسم سليماني التعامل معهما بالطريقة نفسها التي تعامل فيها مع أسلافهما، فماتيس لن تدفعه التحرشات الإيرانية إلى التراجع عن قراراته، ومن المرجح أن يرد على رسائل سليماني بالمثل وأكثر. فيما خسرت طهران كثيرًا من مصداقيتها ويشار إليها كأحد أهم عوامل عدم الاستقرار في العراق، لا بل تتحمل طهران ونظام ولاية الفقيه الويلات التي تعرض لها العراق والعراقيون عبر ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن بسبب تكريس قادة العملية السياسية العمل على تحقيق مصالح إيران على حساب الصالح الوطني العراقي، الأمر الذي شكل تحديات خطيرة واجهت الشعب العراقي بمكوناته كافة، فالطائفية، والإرهاب بشقيه داعش(الإرهاب المتطرف السني، تنظيم الدولة بمرحلتيه) وماعش(الإرهاب المتطرف الشيعي، الميليشيات والمؤسسات الأمنية والعسكرية التي تهيمن عليها)، وكرس الفساد على مر الحكومات المتعاقبة الاتحادية والمحلية حتى بات الفساد المالي والإداري سمة غالبة على هذه الحكومات وتعداها إلى المؤسسات التشريعية البرلمان والمجالس المحلية للمحافظات كافة الأمر الذي انعكس على تردي الواقع الخدمي بشكل غير مسبوق، فكما انتفض المكون العربي السني في سنة 2011-2012 بما سمي وقتذاك بالحراك العربي السني والجمع الموحدة وفضت هذه الاعتصامات في المحافظات العربية السنية الستة بالحديد والنار وتشريع قانون 4 إرهاب وسمي يومذاك (4 سنة)، انتفضت المحافظات العربية ذات الغالبية الشيعية بسبب الفساد وتردي الخدمات عدة مرات خاصة في محافظة البصرة والناصرية والنجف وكربلاء وتوجت الانتفاضة العربية الشيعية بحراك وانتفاضة تشري أول 2019 وكان ثقلها ورأس حربتها في قلب العاصمة العراقية بغداد في ساحة التحرير، وعمت المحافظات الجنوبية كافة وبلا استثناء إلا من حيث القوة والتأثير وخلاصة مطالب الحراك العربي الشيعي ينادي برفع يد إيران وأذنابها عن العراق واسقاط النظام الطائفي الفاسد بنظام عراقي وطني واعد.




المبحث الثاني...الدوافع والأسباب

  • الحكومات المتعاقبة من بعد الاحتلال والطائفية.
  •      بعد سقوط نظام صدام والبعث في عام 2003 واحتلال العراق عمد المحتل الأمريكي على اسقاط الدولة السابقة بمؤسساتها كافة وترك فراغ كبير ومن ثمة ملئ هذا الفراغ من خلال الوافدين مع المحتل وجلهم كان من أحزاب وشخصيات إيران وبعض الموالين للولايات المتحدة الأمريكية. كان تعيين الجنرال السابق جي غارنر حاكما إداريا للعراق أول خطوة اتخذتها واشنطن للبدء في عملية إعادة تشكيل البلاد بعد دخول بغداد، لكن غارنر استبدل بعد نحو شهر واحد بدبلوماسي سابق هو بول بريمر(7) الذي استند في سلطاته إلى القرار 1483 وما منحه من صلاحيات واسعة لسلطة الاحتلال أو ما بات يعرف بسلطة الائتلاف المؤقتة. وفي خريف عام 2003 صدر قرار مجلس الأمن 1511 الذي أكد سيادة العراق ووحدة أراضيه وأقر بأن مجلس الحكم يجسد سيادة العراق لكنه لم يذهب إلى حد الاعتراف به كسلطة شرعية عليا للبلاد، وكان مما تضمنه القرار الشروع في نقل السلطة من سلطة الائتلاف التي تمثل قوات الاحتلال إلى سلطة عراقية مؤلفة من مجلس وطني وحكومة مؤقتين في موعد أقصاه الثلاثين من يونيو/حزيران 2004.
  •     اتسمت هذه المرحلة في تأسيس وبلورة النظام السياسي العراقي في ظل وجود الاحتلال الأمريكي، وتكرست دولة المكونات بعد أن قسم الحاكم المدني للمحتل الشعب العراقي إلى ثلاثة مكونات رئيسة في سابقة خطيرة لم يعهدها الشهب العرقي من قبل، وتقسم الشعب العراقي بحسب الحاكم بريمر إلى مكون العرب السنة والعرب الشيعة والكورد، ولم يلتفت إلى الأقليات الصغيرة غير أنها كرس لها مكان في البرلمان سمي بكوتة الأقليات وهي حسب الدين كما هو الحال مع الأيزيدين والشبك والمسحيين، ولم يلتفت للتركمان ضمن تقسيمه هذا، في حين عمد إلى دمج الميليشيات في القوات المسلحة الناشئة بذريعة مشاركتها لإسقاط نظام صدام، بعد هذا التقسيم انشغلت أحزاب المكون الشيعي في ملء الفراغ بأفرادها والموالين لها ولإيران، الكورد وظفوا النظام الجديد في كسب مزيد من المكتسبات لتعزيز مكانة وعمران الإقليم الخاص بهم، في حين انقسم العرب السنة إلى مشاركين بخجل في العملية السياسية ومخالفين لهم بل انصب جل اهتمام المعارضين في العملية السياسية في محاربة المحتل الأمريكي وعدم الاعتراف بالعملية السياسية باعتبارها منتجا للمحتل، وشملت فصائل المقاومة المسلحة جل خلفيات العرب السنة من إسلاميين على مختلف مشاربهم ومن قوميين وأصحاب اتجاهات أخرى كالعشائر وضباط وأفراد القوات العسكرية المنحلة وغيرهم، لذا مع تعاقب الحكومات من حكومة الجعفري والمالكي في دورتيه مرورا بحكومة العبادي انتهاء بحكومة عبد المهدي هيمن العرب الشيعة وأحزابهم على المشهد السياسي والأمني والاقتصادي، مع اقصاء وتهميش واستهداف للعرب السنة بمختلف خلفياتهم المشاركة في العملية السياسية والمعارضة لها وجل فصائل المقاومة تكرس حكم وهيمنة العرب الشيعة على الساحتين السياسية والأمنية، وعلى الرغم من كون العملية السياسية بنيت على المحاصصة إلا أن الواقع يشي بتقاسم السلطة والمناصب والمال بين أحزاب الشيعة والكورد مع تمثيل خجل وديكور للعرب السنة بعد استهدفوا أصحاب التأثير والوطنيين منهم في العملية السياسية وخارجها من المعارضين للعملية السياسية، بدأ الاستهداف في حكومة الجعفري،  أول بوادر الاستهداف الجسدي للعرب السنة من قبل المشروع الطائفي بانت في حكومة الجعفري 2005، وحين تولى السلطة بانت توجهاته بشكل سافر، فقد ذكر د. قيس العزاوي خبرا خاص بأخبار الخليج مفاده الآتي؛ في اول احتكاك سلبي ينشب بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء في العراق، حول سياسة التقارب مع إيران والابتعاد عن سوريا، وجهت رئاسة الجمهورية رسالة استفسار إلى مجلس الوزراء حول أسباب صدور الأمر رقم “1” عدد (ق/6 أمر 4214) الذي وقعه الدكتور إبراهيم الجعفري والذي ينص على “وقف الإجراءات القانونية وقفا نهائيا بحق جميع الإيرانيين الموقوفين عن مختلف الجرائم واخلاء سبيلهم فورا”. وهذا يعني إصدار عفو عام بحق الموقوفين الإيرانيين مهما تكن جرائمهم. من هذا القرار المبكر تبين جليا للمتابع اتجاه بوصلة الحكومة العراقية الحديثة التي يقودها حزب الدعوة (8). مع وجود المحتل الأمريكي وبمباركته تكرس النفوذ الفعلي على الساحة العراقية لإيران، وكرس المالكي ما بدأه سلفه في تكريس حكم طائفي إقصائي فاشل لا هم له سوى استبعاد منافسيه وتكريس سيطرة حزب الدعوة على مؤسسات الدولة العراقية دون الالتفات إلى كفاءة هؤلاء أو خبراتهم أو تخصصهم، كان المعيار هو الولاء لحزب الدعوة فحسب، بعد خروج الأمريكان من العراق مع نهايات عام 2011. وتعد أهم ميزة لهذه المرحلة هو تفرد المؤسسات الأمنية في الساحة العراقية، وبما أن هذه المؤسسات كما أسلفنا مخترقة من قبل جهات سياسية وأحيانا مليشيات إجرامية تتبع في ولائها إلى مرجعياتها السياسية أو الميليشياوية على حساب النظام العسكري المهني، وهو ما أكده الجنرال «روبن بلاك» في حوار (9) خص به الصحيفة (10)عندما سئل عن رأيه الصريح في المنظومة الامنية في العراق التي بات دورها واضحا بعد انسحاب الجيش الاميركي من العراق، فأجاب بأن المؤشرات المهمة في ضعف المنظومة الأمنية في العراق والاختراق المتكرر لصفوفها هو تسييس بعض القيادات العسكرية التي تستجيب الى رغبات وأجندات مرجعياتهم السياسية بدلاً عن مرجعياتها العسكرية، وتسريب معلومات أمنية خارج المنظومة الامنية ربما تتجاوز حدود الوطن، وهذا التداخل خلق حالة من التعاطي السلبي مع القيادة الأمنية العليا وأضعف الانصهار والانتماء الوطني في المنظومة الأمنية، كما سبب تحجيم الدستور وتفريغ القوانين من محتواها مما أفرزت تلك المعادلة خراباً أخلاقياً ونفسياً وفوضى أمنية ومدنية وانهيارا لمنظومة القيم في المجتمع». وسمة الحكومات المتعاقبة في العراق الكبيرة تكمن في كونها تسببت في دمار العراق، فبعد أن تكرس المشروع الطائفي في مفاصل الدولة والأجهزة الأمنية والمؤسسات الفاعلة كافة، عمد إلى اضعاف المجتمع العراقي عبر تسببه بنشوب حرب طائفية عاتية، في عام 2006 وبعد تفجير المرقدين في سامراء(11) اشتعلت نيران الفتنة الطائفية وانتشر القتل على الهوية، ومد الإرهاب عنقه من خلال تنظيم القاعدة والميليشيات المسلحة الخارجة على القانون، لم يحسم المحتل المسألة الأمنية بل وجد فيها فرصة للعب على أوتار الطائفية وإشغال الفصائل المسلحة بقتال بعضها البعض، بل ودعم فصائل كانت تقاتله في الأمس القريب. لم يكتف المشروع الطائفي بالاستهداف الطائفي بل أهمل تقديم الخدمات للمحافظات كافة، وانشغل في تكريس نفوذ الأحزاب والميليشيات التابعة له حتى في محافظات العرب السنة بعد أن مكن للتنظيمات الإرهابية منها، وهذا في زمن المالكي بعد مكن للإرهاب منها كما سيأتي في المباحث القادمة.
    تعد الحكومات المتعاقبة كما أسلفنا من قبل حكومات طائفية بامتياز تسببت باستبعاد وتهميش وإقصاء العرب السنة بثالوث الدمار الذي صرح به أحد قادة التحالف الوطني في مجالس عدة نقلت عنه (12) بأن مصير العرب السنة إن لم يخضعوا للمشروع الطائفي أحد ثلاث  المقابر، المحاجر، المهاجر، ولم يكتوي بنيران الحكومات الطائفية العرب السنة فحسب بل (13) تنوع البلاء الذي تسبب به المتمكنون من رقاب الشعب العراقي بحسب ما هو مخطط لكل مكون من المكونات، ف”العرب السنة” مصيرهم يتعين أن يكون بين المقابر والمحاجر والمهاجر ثلاثية التيه الجديد بعد أن تفرق من بقي منهم حيا وله موقف ومبدأ في أرجاء الأرض، و”العرب الشيعة” جعلوهم يدورون في فلك الوهم والخرافة و التهديد وانعدام الخدمات وتردي الواقع المعيشي مع وجود الأمان النسبي في محافظاتهم، ومن هنا تسببت الطائفية في وصول شخصيات من غير أي كفاءة ولا تملك أي مؤهلات للقيادة ولا العلم الدافع للإنجاز ولا قيمة لهم موضوعية ومهنية سوى أنهم موالين لأحزابهم وبالتالي ولائهم منقطع النظير لنظام الولي الفقيه في إيران الأمر الذي انعكس سلبا على الأداء الوظيفي بشكل عام فكان المخرج هذا الدمار، كما كرست الطائفية عسكرة المجتمع وزجت بالآلاف من الشباب في فصائل ومليشيات قننت وجود البعض منها والبعض لآخر بقي حرا طليقا ولائه التام لطهران، وارتبط مصيرهم بموارد الدولة التي لا تعطي حتى تأخذ، قد تجد الشاب منهم يتقاضى عدة رواتب وبطرق قانونية وشرعية لكنه يجب أن يكون أداتهم كما هو في الحروب، يجعلونه في قتال من ليس بحاجة إلى قتاله، فما جدوى ومصلحة شباب يقاتلون في خدمة نظام طاغي كالنظام السوري، وما مصلحتهم في التصدي للإرهاب الذي ساهمت حكوماتهم بصناعته وتقويته، ومن أجل من؟! آلاف الشباب من أبناء الجنوب يموتون في سوريا واليمن… وحتى في الموصل بعد أن حرموا ابناءها الأغيار من التصدي لإرهاب “داعش” وغيرها.

     ومحاولة رسم صورة نفسية للوجود المتخلف من خلال وضع وصف يحدد نمط للإنسان المتخلف وبعده الذاتي، فجانب من وجوده ينعكس في الخصائص النفسية للإنسان المتخلف والتي تمر بثلاث مراحل وهي؛ مرحلة الرضوخ للقهر، ينتج عن القهر وعلاقته بالعجز الذى تسببه مجموعة من العقد والاضطرابات، ومرحلة الاضطهاد التي تتسبب في سيطرة حالة من التوتر والانفعال على الانسان المضطهد، وينتج عنه شعور شديد بالذنب لا يستطيع ان يتحمله وحده فيبدأ في إلقاء اللوم على الاخرين، وممكن أن يكون بسبب ذعر لا يمكن احتماله، وصولا إلى مرحلة التمرد والثورة، وفيها يتطور الشعب الى العنف في مواجهة المتسلط، أو في مواجهة بعضه لبعض ومن هنا يتسبب بالفوضى، يلعب السلاح دورا مهما في هذه المرحلة، فالسلاح يحول الضعف الى قوة ويساعد على الخلاص السريع من المتسلط من خلال القتل، وهنا لا يتعين أن يكون القتل للمتسبب الحقيقي بكل هذه الدوامة بل القتل سيكون أداة في تعامله مع الآخر أيا كان توصيفه ما لم يسلم له بما يرى، ومكمن الخطورة أن يكون جزءا من الفوضى التي يريدها الآخر للعراق والعراقيين(14).

 

2-2 الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال والإرهاب.

      ولتتمكن الطائفية والطائفيون من الهيمنة على مقدرات العراق بمحافظاته الوسطى والغربية والشمالية عملوا على نشر الإرهاب ودعمه وتكريسه في الواقع العراقي بشقيه العربي السني والعربي الشيعي، فالعرب السنة تكرس إرهابهم عبر تنظيمي القاعدة(تنظيم الدولة) وتطور إلى تنظيم داعش (تنظيم الدولة في العراق والشام)، والعرب الشيعة ماعش من خلال الميليشيات المنفصلة والمنخرطة بالقوات المسلحة العراقية وقوى الأمن. ومع اعتبار كون العراق لم يشهد من قبل الاحتلال هذه التوجهات العنفية إلا في حدود ضيقة جدا، إلا أن الاحتلال وعوامل أخرى مهدت لهذا الإرهاب، فبالإضافة إلى الممارسة الطائفية للنظام المحكوم بالمشروع الطائفي الإقصائي ساعدت عوامل أخرى على ظهور الإرهاب في المجتمع العراقي بعد الاحتلال، يقول د. عمار علي حسين(15) متكلما عن الإرهاب ؛ هذا المصطلح صار الأكثر تداولاً واستعمالاً في أيامنا ، بعد أن بلغ الإرهاب مداه، وانتقل من “الكر والفر” تحت جناح من السرية والكتمان إلى الإعلان الظاهر عن نفسه، والمباهاة الصاخبة بما يفعل من قتل وتدمير، وتطور وتحور من جماعات وتنظيمات موزعة على أرض دولة واحدة أو داخل إقليم واحد منها إلى أخرى عابرة للحدود ومتواجدة في بلدان عدة. وبوسعنا أن نتحدث عن بيئة اجتماعية، أو سياق اجتماعي، يساهم أو يسهل تفاعل وانتشار أفكار وتصرفات معينة. فإن كان الأمر يتعلق بالإرهاب، نجد أن وسطاً اجتماعياً يكون أكثر تقبلا واحتضاناً له، كفكر منحرف وممارسات مدمرة، من وسط اجتماعي آخر، يستهجنه ويلفظه. لكن علينا أن نفرق في هذا المضمار بين ثلاثة مستويات لهذه البيئة، على النحو الآتي:

أ ـ البيئة المنتجة للإرهاب: حيث يتفشى الجهل والفقر ويضعف تواجد الدولة بمختلف مؤسساتها وخدماتها، ويندر أو ينعدم وجود تنظيمات أو أحزاب تعتنق أفكاراً مدنية، يسارية أو يمينية، بينما يشتد تواجد أنصار الجماعات الدينية المتطرفة، التي تنفرد بالناس، وتكون هي وسيلتهم الوحيدة لتلبية الطلب على المعلومات والمعرفة الدينية.

وهنا يسهل على هذه الجماعات القيام بعملية “غسيل مخ” لكثير من الأفراد، يتم تجميعهم أو تكتيلهم حول الأهداف التي حددها قادة الجماعات المتطرفة، الذين يتخذون من أعمال العنف، وعلى رأسها الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافهم.

ب ـ البيئة المنسجمة مع الإرهاب: وهي بيئة لا تنتج الإرهاب، لكن إن جاء إليها إرهابيون يجدونها مهيأة للتعاطف معهم أو مساعدتهم في مواجهة الدولة دون التزام بتبني أفكارهم أو حتى الانضمام إلى صفوفهم. ويحدث هذا في المناطق الطرفية المهمشة التي أهملتها الدولة، خاصة أن التنظيمات الإرهابية يروق لها أن تنشط في المناطق أو الأطراف البعيدة عن قبضة الدولة، والتي هي في الغالب الأعم بعيدة عن المركز. والشواهد على هذه البيئة في العراق كثيرة فأغلب محافظات العرب السنة تندرج في تفاصيلها تحت هذا العنوان الكبير “التهميش والإقصاء”.

ج ـ البيئة الموظفة للإرهاب: وهي بيئة لا تنتج الإرهاب ولا تنسجم معه بالضرورة، إنما توظفه لخدمة سياسات معينة. ومن هنا يمكن لأصحاب المصلحة أن يصنعوا إرهابيين أو حالة إرهابية يستعملونها كفزاعة للداخل، بغية تأجيل المطالبة بالإصلاح، أو للخارج الذي يعلن حرباً لا هوادة فيها على الإرهابيين.

تعد الحكومات الطائفية المتعاقبة في عراق بعد الاحتلال هي المسؤول الأول عن توفير هذه البيئات الثلاث(البيئة المنتجة للإرهاب، البيئة المنسجمة مع الإرهاب، البيئة الموظفة للإرهاب) في تدرجها تشكل ما يطلق عليه “البيئة الحاضنة” للإرهاب، لكن التفرقة بين تلك الدرجات مهم في وضع خطط مواجهة الإرهابيين، سواء بالمبادأة والهجوم أو التمترس والدفاع، وقبل كل ذلك الرؤى الفكرية البديلة التي تنظر إلى الإرهاب باعتباره عملية تبدأ من الأذهان. وفي العراق تمكنت الحكومات الطائفية وبامتياز أن تسهم في صناعة الحواضن عبر تهميشها واقصائها لمكون كامل عن الفعل السياسي، عبر برنامج ممنهج لاستهداف العرب السنة وبالتالي صار من الضرورة توفر الحاضنة لكل معادي للدولة من قبل المجتمعات الرافضة للسياسة الطائفية التي تستهدفهم في عقر محافظاتهم، وتستفزهم بالشعارات الطائفية، وفي أحيان كثيرة يعمد منتسبي قواتها الأمنية بالانتقاص من رموز العرب السنة ومعتقداتهم في محافظاتهم في سيناريوا إذلال المجتمع العربي السني، ومن الطبيعي أن لا نعمم، فالتعميم خلل، غير أن رصد سلوك شائن لعشرة أفراد من آلاف يعد شديد الوطأة على مجتمع كامل، ولا يعكس بالضرورة توجه الدولة، لكنها تتحمل تبعاته لكونها هي من جندت هؤلاء واحتضنت الغث والسمين في صفوف قواتها الأمنية، خاصة في عمليات دمج ميليشيات الأحزاب الطائفية في القوات المسلحة الرسمية والمؤسسات الأمنية.

ولتفكيك هذه البيئة المنتجة للإرهاب لا بد من إصلاح الواقع السياسي ابتداء، ومن ثمة لا بد من توفير الأمن الفكري المحصن للفرد والجماعة من الوقوع في شرك الإرهابيين، وإذكاء الوعي الفردي والجماعي من خلال التعريف بقيم الدين الإسلامي العظيمة ، ونشر الصورة الصحيحة للتدين بعيدا عن الغلو والتظرف من جهة، ومن التحلل والتميع من جهة ثانية. يقول سعد بن عبد القادر القويعي(16) في سياق البحث عن إجابة شافية عن التساؤل المرير، حول سر انضمام من خدعوا إلى التنظيمات الإرهابية، نرى بأن التطرف سبب رئيس في الميل عن جادة الاستواء في الفكر، والسلوك، وفي التصور، والممارسة، والذي يولد داخلياً على مستوى الفهم المنحرف، ثم يترجم خارجياً إلى السلوك المتطرف بمستوياتها الثلاث، وذلك من خلال البيئة المنتجة للإرهاب، والبيئة المنسجمة مع الإرهاب، والبيئة الموظفة للإرهاب.

إن عقلية الشباب التي تتشكل في فترة المراهقة، إذا ما شكلت وفق نسق أحادي متشدد، يرفض التعايش مع الأنساق المجتمعية الأخرى، فإنها تخفي حينئذ في طياتها تهديدات متطرفة، وإرهابية كامنة؛ لأن الإشكالية تكمن في ارتباطها بالدلالة التي يحملها الخطاب، وهذه الدلالة تنطلق من بنية بيئية متطرفة، -وبالتالي- طرح إشكالية تتجاوز خطابياً الفعل وردّ الفعل، إلى معادلة التطرف، والإرهاب. فالحاجة الماسّة إلى وعي دقة المرحلة، تقتضي إدراك جاذبية الأسلوب الذي يستخدمه تنظيم "داعش" في مخاطبته، وحداثته؛ كونها أحد أهم الأسباب الجاذبة للشباب للانضمام إلى تنظيم "داعش"، حيث يستخدم التنظيم في ذلك جيوشًا إلكترونية من شباب العشرينيات، الذين لديهم خبرة في استخدام أدوات التواصل الاجتماعي، وصياغة الرسائل الجاذبة للشباب عبر فيديوهات مصورة، ومعدة باستخدام تقنيات هوليوودية متطورة، تظهر تسجيلات لتدريبات التنظيم، ومقاطع مزعومة لانتصاراته.

   أهم ممارسات الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال التي ولدت ردة فعل عنيفة لدى جهور العرب السنة وخاصة الكفاءات  والعقول التي يحتاجها البلد للهجرة، وساهمت بأن يتعاون البعض منهم مع التطرف كما انعكست سلبا على الواقع الخدمي والمعيشي لبقية المكونات هي(17)؛

القتل، الفردي والجماعي على أيدي القوات الأمنية أو من خلال العصابات الإجرامية التي تسيرها الأحزاب الطائفية أو من خلال المليشيات المسلحة الخارجة عن القانون والمخالفة للدستور، أو من خلال التحقيق والتعذيب وصولا للقتل. وكل ما ذكر عليه شواهد وأدلة بالآلاف ذكرت بدراسات مختصة ونشرت وعممت كثيرا. أي بتعبير أدق الإرهاب يفضي إلى الإرهاب، هذا فضلا عن خسارة العقول والطاقات الإدارية والعلمية التي يحتاج إليها البلد، ونستشهد باغتيال البرفسور الجراح الدكتور علي المهداوي الذي رشح لوكالة وزارة الصحة ودخل الوزارة ولم يخرج منها وأمثاله كثير.

الاعتقال ومادة أربعة إرهاب، وكأنها كما ذكر عنها مادة أربعة سُنة، فالاعتقالات العشوائية، والاعتقالات الممنهجة، والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان بالتعذيب والسجن دون تقديم للمحاكمة، وتأخير تقديم أوراق المعتقلين، وحشر العشرات من السجناء في غرف لا تتسع إلا لأربعة أو أكثر بقليل، حتى باتت السجون والمعتقلات تعذيب بذاتها لا يستطيع الإنسان في الخارج الدخول فيها دقائق، فضلا عن سنين يقضيها المعتقلون وفي أحيان كثيرة من غير أن يعلموا جريرتهم إلا لكونهم عرب سنة مؤثرين. إرهاب المؤسسات الأمنية لا تقتصر على القتل والتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان بل اتسعت دائرة إرهابها حتى في السجون والمعتقلات التي تشهد اكتظاظ لا مثيل له حتى في عهد الاستبداد من قبل.

التهجير والنزوح  لعقول والكفاءات ولرادة المجتمع وقادته…تعددت الأسباب والتهجير واحد… الهدف إما يكون تغييرا ديمغرافيا لهيمنة مكون على حساب المكونات الأخرى، أو يكون لأذلالهم لشعور المقابل بالنقص، والخسيس إذا ولى لا ترجوا منه خيرا، خاصة لذوي الوجاهة والاعتبار المجتمعي السابق إذا دار الزمان عليهم وملك رقابهم لحاسد أو حاقد. وهذا جله من فعل المشروع الطائفي الإقصائي.

هدم المدن، واستهداف البنى التحتية للخدمات البلدية والصحية والتربوية، واستهداف المساجد والجوامع، واستهداف المباني الشخصية والبيوت والعمارات والمحال التجارية. وذلك بسبب الأعمال الحربية ضد "داعش" أو غيرها. وفي كثير من الأحيان يتم انهاء التنظيم الإرهابي المسيء وطرده من المدن العربية السنية وتستغل المليشيات الأوضاع فتفجر المساجد والأبنية الخاصة والعامة من غير أي تبرير ولا حساب.

التهميش والإقصاء، وهي سمات ملازمة للسياسات الطائفية فهيمنتها على القرار السياسي والأمني بالدرجة الأساس يعد حكرا لأحزابهم الطائفية، ومشاركة الآخرين “الكورد والعرب السنة” يكون إما تابعا أو في مؤسسات خدمية لا اعتبار كبير لها.” مثلا في محافظة سنية بأغلبيتها مع وجود أقلية من العرب الشيعة والكورد والتركمان فيها أربعة عشر مؤسسة أمنية ثلاثة عشر مؤسسة يقودها ضباط من العرب الشيعة، وفقط دائرة الدفاع المدني “الإطفائية” يقودها ضابط عربي سني. حتى في الدوائر المدنية تجد الموضوع ذاته بدرجة أخف.

الازدواجية بالمعايير؛ يسيء العربي السني يعد إرهابيا ويعاقب، يسيء العربي الشيعي يعذر وأحيانا يكافئ، يتظاهر العرب السنة يعدون فقاعات يجب أن تهنى أو ينهون، يتظاهر العرب الشيعة ويحتل مجلس محافظة أو برلمان يعد حق مشروع لهم. فساد المسؤولين الشيعة وتخريبهم للاقتصاد والتنمية والإعمار يغض الطرف عنه، مخافة لمسؤول عربي سني يبتغي فيها الصالح العام يحاكم على النزاهة ويشهر به. مرة سأل محافظ أحد القادة العسكريين الكبار على مستوى البلد، عن سبب اعتقال مدير ناحية سني عليه مذكرة، وعدم اعتقال قائمقام شيعي عليه مذكرة…أجاب مازحا لكون الأول سني الآخر شيعي…وكان جوابه عين الصواب وإن اتشح بثوب المزاح… مع اعتبار أن بعض القادة الأمنيين في زمن المالكي ساعدوا على دعم وتقوية التنظيم الإرهابي "داعش" دون أن يتعرضوا لأي مسائلة أو عقوبة...(18).

ما ذكر غيض من فيض واعتمد الباحث على عدم التدليل عليه لكونها أضحت معلومات بالسياسة العراقية بالضرورة لا يشكك بها إلا جاهل وأخبارها تتناقله الركبان…أي هذه المعلومات بالمصطلح الشرعي متواترة، بل ما خفي كان أعظم. ولعل من أهم مخرجات هذه الأفعال غير المسؤولة والممارسات الطائفية وتسليط الإرهاب على محافظات العرب السنة و احتلالها من قبله وبالتالي السعي لتدمير هذه المحافظات بعمليات حربية وتقديم أبناء القوات المسلحة العراقية المشكلة في غالبيتها من أبناء الجنوب قرابين على مذبح المشروع الطائفي المستهدف لهذه المحافظات وبالتالي، تسبب هذا الفعل بالآلاف من الضحايا من المدنيين الشاغلين لهذه المحافظات، والآلاف من الشباب الجنوبي من أفراد القوات المسلحة العراقية، حتى اتشحت محافظات الجنوب بالسواد نتيجة أعداد الضحايا بسبب الأعمال الحربية، الأمر الذي أجج المشاعر بجدوى أن يكون ابن الجنوب ضحية قتال تسبب به الساسة في محافظات الغرب والشمال ومنعوا أبناء هذه المحافظات بالقتال وتحرير مدنهم بأيديهم وهم أهل هذه المحافظات لولا حاجة في نفس المشروع الطائفي.

من كل ما تقدم نجد بالضرورة أن تتولد ردة فعل عنيفة غير مدروسة من بعض أفراد المكون العربي السني، فينخرطوا في التنظيمات الإرهابية التي لم تعرفها الساحة العراقية حتى مع بدايات الاحتلال. وتوفر بعض العشائر العربية السنية حاضنة لهم قبل أن تنكشف حقيقتهم. ليس من قبيل الاقتناع بهم وتبني فكرتهم بل نكاية بالمحتل أو بممارسات الحكومات الطائفية المتعاقبة، كل ذلك إذا ما أخذ بنظر الاعتبار يسهم في تبني النهج الإرهابي، هذا إذا ما أضيف له عامل مهم وهو الدين، فكل ذلك فعل باسم الدين والتدين، حينها المسألة تأخذ بعدا آخر من خلال الآتي؛

توظيف التدين المتطرف من قبل جهات وشخصيات اعتبارية تتنوع وتتعدد بتعدد أهدافها ورؤيتها للأحداث، فالذي يروم تشويه حقيقة الدين الإسلامي وأعداؤه كثر، يعمد من خلال منظوماته المخابراتية لاختراق الجهات الإرهابية ودفعها لفعل العنيف والمروع من الفعل الإجرامي لربطه بالإسلام وهو منه براء. لم يجد أعداء هذا الدين صورة يطعنون من خلالها بالإسلام والمسلمين كداعش وأخواتها.

النظام السابق ومن بقي يمثله بعد خسارته يسعى للتعويض من خلال دعم كل توجه ضد المحتل والحكومات الطائفية، حتى لو كان في صوره الإرهابية وهذا ما رصد بداية الانتفاضة التي ابتدأت بالحراك الشعبي ثم تكرس الفعل على مستوى حمل السلاح، وبعد ذاك خسروا لصالح "داعش" وأخواتها، ومع اعتبار أن تكوين التنظيمات الإرهابية كانت بدايته من خلال ضباط جيش سابقين، خاصة الذين كانوا يشرفون على معسكرات المتطوعين العرب، وبالظن لا اليقيين استخدوا من قبل مخابرات دولية.

طبيعة المأزومين من المتدينين أنفسهم تتناسب والطرح العنيف الذي يمارسه التنظيم الإرهابي، لذاك هؤلاء يعدون التنظيم الإرهابي ضالتهم المنشودة التي تحقق لهم رغائبهم النفسية غير السوية وتخرج الفعل المدمر بعد التبرير.

الفهم السقيم لهذا الدين، وكثرة المفتين من أنصاف المتعلمين، وانتشار الجهل بمبادئه السامية وتعاليمه السمحة وقيمه الثمينة. كل ذلك أسهم بطريقة أو بأخرى في غياب الوعي الحقيقي بما يتعلق وتعاليم الدين الإسلامي وقيمه النابذة للعنف في غير محلة.

انتشار ظاهرة التكفير والغلو ، بأسباب متعددة منها ما ذكر أعلاه، ومنها بسبب البيئة التي وفرها المحتل والحكومات الطائفية المتعاقبة, وحين يكفر الإنسان فإن المعنى الحقيقي للتكفير هو استحلال دمه. وكل من يسعى لنشر القتل في الأمة لإسلامية عامة وعند العراقيين خاصة يستخدم التكفير ويوظفه.

2-3 الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال والفساد.

      يعد الفساد قديم قدم المجتمعات البشرية وأن معالجة أسبابه تستدعي تشخيصا حقيقيا لهذا لمفهومه كما تستدعي بيانا لدواعي وأسباب انتشاره في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وتوضيح أبرز صوره وأشكاله، والآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليه، وبلورة رأي عام مضاد له وبناء إرادة سياسية لمواجهته، وتبني استراتيجيات لذلك تتناسب وطبيعة كل مجتمع، لذا نرى أن تحديد مفهوم الفساد يمثل المدخل لهذا المبحث، فهناك لفيف من الباحثين(19) من يقول بأنه خروج على القانون والنظام أو استغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعة معينة، بينما يعرّفه آخرون(20) بأنه قيام الموظف العام بطرق غير سوية بارتكاب ما يعد إهداراً لواجبات وظيفته، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية شخصية أو فئوية أو حزبية. هنالك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته "منظمة الشفافية الدولية" بأنه " كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته ".وتتجلى ظاهرة الفساد بمجموعة من السلوكيات التي يقوم بها بعض من يتولون المناصب العامة في إدارة الدولة أو في بعض مؤسساتها كالوزارات وتوابعها والإدارات المحلية وما يتفرع عنها، وبالرغم من التشابه أحيانا والتداخل في ما بينها إلا انه يمكن إجمالها بالرشوة والمحسوبية والمحاباة ونهب المال العام والابتزاز والأخيرة – أي الابتزاز – ظاهرة تبدو شائعة في العراق في السنوات الأخيرة ، وعمليات الابتزاز هذه تصل في أحيان كثيرة إلى ابتزاز الفقراء أنفسهم!!! خاصة وأن هنالك تقارير كثيرة تؤكد أن هنالك آلاف المتجاوزين على رواتب الرعاية الاجتماعية وشبكة الحماية المخصصة للفقراء ، تضاف إلى ذلك الأرقام المخيفة عن أعداد الذين يعيشون تحت خط الفقر في العراق. ومن المعروف تعدد الأسباب الكامنة وراء بروز ظاهرة الفساد وتفشيها في المجتمعات بالرغم من وجود شبه إجماع على كون هذه الظاهرة سلوكا إنسانيا سلبيا تحركه المصلحة الذاتية، شخصية أو حزبية على حساب الصالح العام، فكون المستفيد ماديا من فعل مخالف للقانون على أن يكون ريع هذه الاستفادة لجماعته أو حزبه وليس لشخصه لا يعفيه من المسؤولية لكون المنصب -وخاصة السيادي منه- عقد مع الدولة والمجتمع يتعين فيه الإلتزام بالصالح العام على حساب المصالح الشخصية والفئوية.  وبسبب انتشار هذه الآفة احتل العراق المرتبة السادسة ضمن الدول العشر الاكثر فسادا في العالم لعام 2015 وجاء في المركز 161 ضمن 167 دولة شملها تقرير أصدرته اليوم منظمة الشفافية الدولية، فيما جاءت الدنمارك الدولة الأقل فسادا في العالم وكوريا الشمالية والصومال الأكثر فسادا.

 ولرصد أسباب الفساد الإداري والمالي نستطيع القول أنها تكمن في مجموعة من العوامل وكما يأتي(21)؛

  • الأسباب السياسية:  غالبا ما نجد أن الفساد يتفشى في أنظمة الحكم الشمولية التي تتسم بالاستبداد والدكتاتورية باعتبار عدم وجود جهات رقابية حقيقية، وحتى في النظم الديمقراطية الوليدة بحيث لا يملك المواطن العادي وعيا حقيقيا بدوره في ممارسة حقه في الحفاظ على النظام العام سواء كانت ممارسته من خلال مؤسسات رقابية أو من خلال الإعلام أو من خلال أي منبر حر يستطيع من خلاله التعبير عن رأيه. تأسيس الوعي العام ضرورة تقتضيها المصلحة العامة في البلاد لتكريس المسؤولية الحقيقية لدى المواطن في أداء واجبه من أي منبر.
  • الجهل العام والخاص؛ جهل المواطن وعموم الموظفين وعدم معرفتهم الآليات والنظم الإدارية التي تتم من خلالها ممارسة السلطة، بالإضافة الى عدم وجود عامل الخبرة والكفاءة لإدارة شؤون الدولة يزيد من ظاهرة انتشار الفساد. إن مستوى الجهل والتخلف والبطالة وقلة الوعي الحضاري وضعف الأجور والرواتب واختلاف الدخل بين القطاعين العام والخاص والفقر كلها تتناسب طرديا مع ظاهرة الفساد .
  • عدم الفصل بين السلطات الثلاث وعدم استقلالية القضاء : الفصل بين السلطات مبدأ دستوري ويسهم في دعم القضاء كي يكون مهنيا، فعدم استقلالية القضاء يؤدي الى انتشار ظاهرة الفساد بمستوى عالي، حيث يلاحظ في معظم البلدان المتقدمة استقلالية القضاء عن عمل وأداء النظام السياسي وهو ما يعطي أبعاداً سليمة تتمثل بالحكم الصالح ، فاستقلالية القضاء مبدأ مهم يستمد أهميته من وجود سلطة قضائية مستقلة نزيهة تمارس عملها بشكل عادل وتمتلك سلطة رادعة تمارسها على عموم المجتمع دون تمييز وإشاعة العدل بين أفراد المجتمع .
  • ضعف المؤسسات الرقابية: يظهر الفساد في حالة ضعف الدور الرقابي و عدم القدرة على ممارسته ، وعدم تطبيق القانون بالإضافة الى عدم تفعيل صلاحيات الأجهزة الرقابية على أعمال الجهاز التنفيذي ومحاسبة المقصر على المخالفين وضعف المسؤولية الإدارية عن الأعمال الموكلة لها أو المحاسبة عليها ، والقصور الحاد في استخدام الأساليب التكنولوجية الحديثة في نظم الرقابة .
  • ضمور وضعف وسائل الاعلام ومحدودية دورها الرقابي، وعدم قدرتها على فضح الفساد ، وعدم وجود الشفافية في بيئة العمل وعدم الحرص على المعلومة الصحيحة وكشفها، وعدم اضطلاع منظمات المجتمع المدني بدورها بأسناد الإعلام وعدها جهة رقابية للمواطن غير خاضعة للبيروقراطية المعطلة للصالح العام.
  • الأسباب الاجتماعية: وتتمثل في منظومة المجتمع وتفاصيله كونه متحضر أو قبلي يتقبل الخلل أو يرفضه مما يؤثر على انتشار الواسطة والمحسوبية وهي تنتشر في المجتمعات القبلية كالبلاد العربية وذلك لان الحياة الاجتماعية تتقبلها ولا تعدها فساداً ، بل يتم دعمها كأن يقال " الشجرة التي لا تظل أهلها اقطعها" وغيرها...وتقديم العون على استمرارية مثل هذا النوع من الآفات وإيجاد المبررات لها يسهم في تخلف الشعوب ويشيع آفات كالواسطة والمحسوبية على حساب الكفاءة ومستوى الأداء وتحسينه. 

 

الآثار السلبية للفساد الإداري والمالي في العراق(22)؛

  • التأثيرات على السياسة و الإدارة و المؤسسات: يمثل الفساد تحدياً خطيراً في وجه التنمية، فهو على الصعيد السياسي يقوض الديمقراطية والحكومة الجيدة بتعويم أو حتى تغيير مسار العملية الرسمية، أما الفساد في الانتخابات والهيئات التشريعية فيقلل من المساءلة ويشوه التمثيل النيابي في عملية صنع القرار السياسي، أما الفساد القضائي فإنه يعرض سيادة القانون للخطر والفساد في الإدارة العامة ينجم عنه التوزيع غير العادل للخدمات، أي بمعنى أوسع ينخر الفساد في القدرة المؤسساتية للحكومة لأنه يؤدي إلى إهمال إجراءاتها و استنزاف مصادرها، فبسببه (أي الفساد) تباع المناصب الرسمية و تشترى، كما يؤدي الفساد إلى تقويض شرعية الحكومية و بالتالي القيم الديمقراطية للمجتمع كالثقة و التسامح.
  • التضخم الوظيفي هو احد أسباب الفساد المالي والإداري , من خلال قيام المتنفذين باستخدام نفوذهم بتوظيف أعداد كبيرة من الموظفين بدون الحاجة إلى خدماتهم , مقابل رشاوى أو لاعتبارات شخصية, ووضعهم في أماكن مهمة في الدوائر, وهو ما يؤدي إلى تردي الأداء الحكومي وزيادة النفقات على الجوانب التشغيلية بدون النظر إلى الجوانب الاستثمارية والخدمية المهمة
  • ضعف وجود البنية الخدمية الأساسية بسبب قلة الموارد وعدم كفاءة الموظفين , وهو ما يؤثر على قدرة الحكومة على توفير الخدمات الأساسية , وبالتالي يؤدي إلى إضعاف شرعية الحكومة وسلطتها, وبالتالي هذا يقود إلى الانفلات الأمني وزيادة الاضطرابات, وترسيخ الحكم العائلي , مما يقود إلى تهديد امن واستقرار المجتمع
  • صعوبة الحصول على المنح والقروض من الخارج , أو عدم الاستفادة منها, لعدم ثقة المؤسسات الدولية بقدرة الحكومة على توجيهها بالشكل الصحيح لخدمة الأولويات العليا للدولة والمجتمع, إذ يشير تقرير خاص لصندوق النقد الدولي أن هناك نسبة كبيرة من الأموال التي أقرضتها البنوك الأمريكية للدول النامية تعود مرة أخرى إلى الولايات المتحدة وسويسرا وتودع في بنوكها بحسابات شخصية لمسؤولين من تلك الدول بالإضافة إلى الإسراف الكبير في استخدام هذه الأموال واستغلالها
  • التأثيرات الاقتصادية: يؤدي الفساد كذلك إلى تقويض التنمية الاقتصادية لتسببه في حدوث تشوهات و حالات عجز ضخمة، ويؤدي انتشار الفساد في القطاع الخاص إلى زيادة كلفة العمل التجاري من خلال زيادة سعر المدفوعات غير المشروعة نفسها و كذلك لازدياد النفقات الإدارية الناجمة عن التفاوض مع المسئولين و مخاطر انتهاك الاتفاقيات أو الانكشاف، ورغم أن البعض يدّعي بأن الفساد يقلل من النفقات الإدارية عن طريق تجاوز الروتين الإداري، إلا أن وجود الرشوة يمكن كذلك أن يدفع المسئولين لاستحداث تعليمات وحالات تأخير جديدة في إنجاز المعاملات, كذلك يتسبب الفساد في ضعف المناخ الاستثماري وهروب المستثمرين , بسبب طلب المتنفذين بالحصول على عمولات وإعاقة أعمالهم, مما يؤثر سلبا على بنية القطاع الاقتصادي وضعف النمو الاقتصادي , وهو ما ينعكس على زيادة الفقر والبطالة
  • ومع إسهامه في زيادة تضخم النفقات التجارية فإن الفساد يشوه الملعب التجاري إذ يحمي الشركات ذات المعارف في الحكومة من المنافسة ما يعني بالنتيجة استمرار وجود شركات غير كفؤة، وعلاوة على ذلك يولد الفساد تشوهات اقتصادية في القطاع العام عن طريق تحويل استثمار المال العام إلى مشروعات رأسمالية تكثر فيها الرشا، ويلجأ المسئولون إلى حيلة زيادة التعقيدات الفنية لمشاريع القطاع العام لإخفاء أو لتمهيد الطريق لهذه التعاملات غير المشروعة، ما يؤدي بالنتيجة إلى زيادة تشويه استثمار المال العام. ويؤدي الفساد كذلك إلى خفض معدلات الالتزام بضوابط البناء و المحافظة على البيئة و الضوابط الأخرى و إلى تردي نوعية الخدمات الحكومية و زيادة الضغوط على ميزانية الحكومة
  • يؤدي الفساد إلى نمو فئة متنفذة وثرية في المجتمع, مع ازدياد الفقر , مما يؤدي إلى زيادة الطبقية في المجتمع , ويزيد من نسبة المهمشين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا, وبالتالي يؤدي إلى هجرة الكفاءات الوطنية , وعدم القدرة على جذبهم بسبب استشراء الفساد , مما يؤدي إلى إضعاف التنمية وتقويض مرتكزاتها, وفقدان ثقة الطبقة المتعلمة في المجتمع
  • ان انتشار الفساد المالي والاداري في المجتمع يؤدي الى تغليب المصلحة الشخصية على المصالح العامة, وعدم الاهتمام بامور المواطنين, او توفير الخدمات لهم, كذلك يقود الفساد وتزامنه مع وجود ازمات اقتصادية في البلد الى الضغط على المواطنين, وقلة فرص العمل, كما ان قلة الخدمات مثل الكهرباء تؤدي الى توقف العديد من الاعمال, وتزداد البطالة, ومن ثم تقود الى التذمر الشعبي العام, وقد تقود الى اتجاه بعض شرائح المجتمع للاستعانة بجهات خارجية, لاستحصال حقوقها, وبالتالي تقود الى تمردات, وتفتح المجال لدخول الارهاب , والذي قد يستقل هذا التذمر لإثارة النعرات الطائفية في البلد, وهذا ما نشاهده الان من قتال وحروب, في العراق يعود جزء منه الى الفساد المالي والاداري, وعدم نزاهة المسؤولين في الحكومات المحلية للمحافظات, والقادة العسكريين وعدم مراقبتهم, مما ادى الى سقوط عدد من المحافظات بيد الارهاب كما في الموصل وصلاح الدين.
  • عدم الاكتراث بالقانون واحترامه من قبل إفراد المجتمع , وذلك لشعور المواطنين بأنه يحمي المتنفذين بالسلطة السياسية, مما يؤدي إلى الاهتمام بالمصالح الخاصة على حساب المصالح العامة, وزيادة الفرقة بين أفراد المجتمع , وشعور شريحة من المجتمع بالظلم وعدم الحصول على حقها, مما ينعكس على زيادة تذمر المواطنين وعدم الثقة بالأجهزة الحكومية, مما يؤدي إلى عدم دفع الضرائب والتهرب منها , وعدم الاهتمام بالمرافق العامة , وبالتالي انخفاض إيرادات الدولة , وزيادة النفقات العامة , مما يقود إلى ضعف مشاركة الدولة في توفير الخدمات لعدم توفر الإيرادات الكافية , أو عدم كفاية الإيرادات لوجود عمليات فساد مالي فيه.

ولعل قائل أن هذه المقولات تحتاج إلى دليل أو قرينة، ومع اعتبار كون الفساد بات معلوما من الحياة السياسية في العراق بالضرورة ففي الإمكان التدليل عليه بالعديد من الحوادث التي يتناقلها الركبان من غير تكذيب حتى، لعلنا نختار واحدة من القضايا الخطيرة (23)  فقد قدمت شبكة "رووداو" الكردية، تقريرا مثيرا حول القيادي العراقي "أحمد الجلبي"  عراب الاحتلال وصاحب البيت الشيعي، المثير للجدل، وكشفت أوراقا ووثائق أقل ما توصف به أنها "بالغة الخطورة"، حول ملابسات موت الجلبي في ظروف غامضة بالعراق. وقالت الشبكة إن رئيس اللجنة المالية النيابية، أحمد الجلبي، أبلغ قبل 23 يوما من وفاته، هيئة النزاهة العراقية بملف خطير "للفساد المالي"، داعيا الهيئة إلى "إيلاء الاهتمام قبل أن ينزلق العراق نحو الإفلاس"، بحسب شبكة "رووداو" الكردية. ونوهت إلى أن الجلبي رحل يوم 3 /11/ 2015، لكن سرعان ما أثار بعض المسؤولين العراقيين الشكوك حول وفاته. وعلى الرغم من عدم وجود أي أدلة مؤكدة، فإن المسؤولين العراقيين لم يستبعدوا أن يكون الكشف عن هذه الوثائق السبب وراء وفاته. ويظهر التحقيق في وثائق اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، ذي الرقم (74) الذي سلم في 11 تشرين الأول 2015 بتوقيع رئيس اللجنة المالية د. أحمد الجلبي إلى هيئة النزاهة، أن العديد من البنوك العراقية تقوم يوميا بعمليات غسيل للأموال بأسماء وهمية ومع شركات وهمية، بحسب "رووداو". وجاء في جزء من التحقيقات التي حصلت شبكة "رووداو" الإعلامية على نسخة منها، أن "شخصا باسم محمد ياسر محسن، وهو مؤسس شركة (الطيب) ومدير بنك الهدى، قام بشراء الدولار من البنك المركزي العراقي بشكل يومي بوثائق مزورة وحولها لشركة تزوير وهمية". وتشير التحقيقات إلى أن "محمد ياسر وخلال السنوات الثلاث الماضية حول ستة مليارات وخمسمئة وخمسة وخمسين مليونا وستمئة وستين ألفا وثلاثمئة وثمانية وستين (6,555,660,368) دولارا من البنك المركزي إلى حسابه في ثلاث شركات وهمية في بنك الإسكان الأردني"، فضلا عن بعض المعاملات الأخرى. ويصنف أحمد الجلبي في الوثيقة هذه العملية بـ"غسيل الأموال"، ويكشف عن أن "لديه معلومات دقيقة عن قيام مصرف الشرق الأوسط ومصرف أربيل بنفس تعاملات مصرف الطيب". وفي هذا الشأن، طلبت اللجنة المالية في البرلمان العراقي من هيئة النزاهة، "التحقيق في عمليات الحوالات النقدية بين المصارف والتي لا تجوز بأي شكل من الأشكال وفقا للقوانين المالية العراقية". وتبين التحقيقات التي وقع عليها الجلبي أن "هذه بعض النماذج البسيطة من فساد المصارف في عموم العراق، وهذا أمر خطير وسيؤثر في المستقبل على الاحتياطي المالي العراقي في البنك المركزي، أرجو الاهتمام بالموضوع قبل أن يتجه العراق نحو الإفلاس". وتحدث الجلبي قبل وفاته عن الفساد المالي بالقول: "اتضح لنا وجود مافيات فساد كبيرة استولت على المصارف ولديها شركاء في البنك المركزي، كما أن هناك مسؤولين كبارا في الدولة يدعمون تلك المافيات ويحمونها".
   وإلى جانب الوثائق التي قدمها لهيئة النزاهة، تشير الأنباء إلى أن الجلبي قبل يوم من وفاته، سلم ملف فساد آخر إلى المرجعية الشيعية العليا، تتضمن معلومات تفصيلية حول فساد العديد من الشخصيات والقوى السياسية العراقية والبنك المركزي، واحتوى أيضا على أسماء الدول المشاركة في عملية سلب العملات العراقية والتي تحولت إلى مزاد للعملة الأجنبية.


  وبحسب موقع الخليج أون لاين (24) فإن الفساد كان سمة مميزة في مسيرة الحكومات التي تعاقبت على الحكم بعد هذا التاريخ، وتسبب بإهدار مئات المليارات من خزينة الدولة التي تعد واحدة من دول العالم الثرية بالنفط. الاحتلال والفساد، برفقة الإرهاب والطائفية؛ أربعة أضلاع أطبقت على حياة العراقيين وحولت بلادهم إلى واحدة من الدول الأكثر فقراً في العالم؛ لا سيما بعد تهاوي البنى التحتية بسبب التقادم الزمني وعدم الصيانة، وتراجع الخدمات الأساسية إلى ما دون المستويات الدنيا. كل ذلك كان يقف وراءه أباطرة الفساد الذين استحوذوا على الميزانيات التي تخصص لبناء وصيانة البنى التحتية. وتعد مدة حكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي (2006 - 2014) الأكثر فساداً في تاريخ العراق؛ حيث سلم السلطة لخلفه حيدر العبادي بعد اختفاء مليارات الدولارات من الميزانية، حرص الأخير على الوصول إلى معلومات عنها فعجز بسبب تورط قيادات عليا في الدولة والأحزاب النافذة في الأمر؛ بحسب تصريحات علنية أدلى بها مسؤولون في الحكومة لوسائل الإعلام. فشل حكومة العبادي في الكشف عن ملابسات الفساد الذي فاحت رائحته أثار غضباً شعبياً واسعاً صيف 2018 كاد يسقط النظام؛ ما حول التحدي إلى مربع حكومة عادل عبد المهدي، الذي تولى مهام منصبه في أكتوبر 2018، وفي 29 يناير أعلن تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، جاعلاً هذه القضية من أولويات حكومته. مع اعتبار أن حيدر العبادي أعلى سلطة في الحكومة صرح في مناسبات عديدة عن ملفات الفساد التي عصفت بالدولة العراقية ولعل قضية الفضائيين في الحشد أثارت زوبعة وأدت إلى اغتيال المسؤول عن تسريب هذه المعلومات لرئيس مجلس الوزراء، وكان قد اتهم رئيس مجلس الوزراء السابق حيدر العبادي، قيادات في الحشد الشعبي بالإثراء على حساب المقاتلين ضد تنظيم "داعش" والحشد لـ "صناديق الاقتراع"، رافضًا مساندة إيران على حساب مصالح البلاد،.(25)

ذات التحدي يقف في مواجهة الحكومة الجديدة؛ المتمثل بكون المتورطين في منظومة الفساد هم ساسة وقادة أحزاب ومليشيات، وهذه الطبقة هي التي تسيطر على المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري العراقي، أي إنها هي الحاكمة الفعلية. مصدر في الدائرة الإعلامية التابعة للمجلس الأعلى لمكافحة الفساد، كان قد كشف لـ"الخليج أونلاين" عن أن أكثر من 90 ملفاً طرح على طاولة المجلس، تقدر الأموال المتعلقة بها بعشرات المليارات من الدولارات. وأضاف المصدر، طالباً عدم ذكر اسمه: إن "ما يعيق عمل المجلس هو ارتباط أكثر تلك الملفات بشخصيات وأحزاب متنفذة"، مشيراً إلى أن "غالبيتها تعود إلى حقبة ولايتي نوري المالكي". المصدر ذكر أن "العديد من الموظفين الكبار في مؤسسات الدولة تعاونوا مع المجلس في أعقاب خطاب رئيس الوزراء، وتأكيده أن مكافحة الفساد هي من أولويات المرحلة المقبلة، لكنهم تراجعوا عن ذلك بشكل مفاجئ". وأكد أنه "بعد أن تقصى المجلس عن الأسباب تبين أن تهديدات بالقتل وصلت بشكل متزامن وبطرق مختلفة لكل المتعاونين". وأضاف: إن "التقارير عن الفساد أصبحت تصل إلينا من مسؤولين لا يذكرون أسماءهم خوفاً على حياتهم من مافيات الفساد"، لافتاً النظر إلى أن "السنوات الماضية شهدت عمليات اغتيال طالت شخصيات حاولت الكشف عن بعض ملفات الفساد". في هذا السياق أعلن مدير هيئة المنتوجات النفطية في جنوب العراق، حيدر البطاط، في تصريح صحافي لموقع "بغداد اليوم"، (1 أبريل الماضي)، عن تلقيه تهديداً من جهة مجهولة بعد كشفه بعض أوجه الفساد في محافظة البصرة. وقال البطاط: "وردت رسالة تهديد إلى هاتفي من جهة تطلق على نفسها اسم الدولة العميقة، كما وردني تهديد آخر عبر البريد الإلكتروني من الجهة نفسها، بعد مطالبتي بإعادة تأهيل مستودع نفطي، بالاستفادة من مواد متاحة دون الاستيراد من الخارج الذي سعت إليه جهات نافذة بهدف الحصول على رشاوى وعمولات من شركات خارج البلاد". البطاط دعا رئيس الحكومة إلى "توفير الحماية الشخصية له ولأفراد عائلته"، مؤكداً: "نحن في خطر شديد وقد يقتل أو يخطف أحدنا".










المبحث الثالث...الخصائص والسمات

    يتسم حراك تشرين في مجمله وفي ساحة التحرير خاصة بكونه، تراكمي في خبرته، دينامي في حركته، متطور في مطالبه،   شبابي في عنفوانه، سلمي في خياراته، صلب في مواقفه، عراقي في مفرداته...

    ولكل سمة من هذه السمات تندرج تفاصيل كثيرة توضح الصورة وتكرس الحقيقة التي تقول أن هذا الحراك يمثل سلسلة وحلقة متقدمة في سلسلة حلقات انتفض فيها العراقيون على منظومة الحكم الفاشلة التي أوردتهم المهالك، ونحن حين نتكلم عن حراك شعبي شكل تيارا جارفا يسعى لقلع جذور الفشل الذي تراكم مع الحكومات المتعاقبة التي ورثت العراق ثالوث الدمار المدنس الطائفية، الإرهاب، الفساد، نحن نتكلم عن شريحة مجتمعية واسعة تضخمت ككرة الثلج وحوت بين جنبيها المجتمع العراقي بكل ما يحوي من شخصيات، فإنك ترى شباب ابطال يجودون بأنفسهم، عارية صدورهم يستقبلون رصاص البغي والعدوان دون خوف أو وجل، بعضهم محدودي الثقافة ومنهم من يحملون أعلى الشهادات التي مهدت لهذه الموجة قبل تشرين أول للعام2019 ، تميزت هذه التظاهرات بعد مرور ما يزيد عن شهرين ونصف بكونها تمثل ألوان المجتمع العراقي بتناقضاته كافة، فنجد الذي يجود بنفسه ويسترخص الموت بحثا عن وطن الذي فجر هذه الانتفاضة وأدام زخم تيارها، ونجد المستفيد الانتهازي، ونجد ممثلين عن مجمل الكتل السياسية كما نجد بعض الطفيليات من الشواذ والعصابات والسراق في محاولة لتشويه هذا الحراك وشيطنته، وفي أحيان تجد المتناقضات، ومع كل ذلك يبقى عنفوان هذه الانتفاضة هو السمة الطاغية بعد أن رويت السوح بدماء الأبرياء الأحرار من قبل زبانية النظام ومجرمي حملة السلاح.


3-1 تراكم خبرة الانتفاضة؛

لم يكن الحتجاج والتظاهر وخاصة بعد الاحتلال وليد الساعة أو فعلا جديدا بل شكل خبرة تراكمية لجمهور واسع وفي مختلف المحافظات العراقية وحتى محافظات إقليم كوردستان في الشمال العراقي ففي شهر كانون أول 2017 شهدت عدد من مدن محافظة السليمانية ثاني اكبر مدن اقليم كردستان تظاهرات واسعة شارك فيها الاف بينهم معلمون وموظفون ونشطاء تطالب باستقالة حكومة الاقليم ومحاربة الفساد بسبب الازمة الاقتصادية الخانقة في الاقليم.(24) كما شهدت مدن إقليم كردستان العراق تظاهرات على خلفية توقف حكومة الإقليم عن سداد رواتب الموظفين كاملة واحتفاظها بقسم منها كمدخرات لهم. وشهدت مدينة السليمانية، ثاني أكبر مدن الإقليم تظاهرات ضمت المعلمين ومجموعة من قدامى مقاتلي البشمركة وناشطين من منظمات المجتمع المدني. واندلعت مواجهات إثر ذلك بين المتظاهرين والشرطة اعتقلت قوات الأمن إثرها عددا من المتظاهرين، (26)

بداية التظاهرات الكبيرة في العراق(27) بعد الاحتلال الأمريكي وتعاقب الحكومات الطائفية الفاشلة في محافظات الوسط والجنوب؛

- في يوم 6/2/ 2010، 19/7/ 2010، شهدت محافظة البصرة تظاهرات ضد المحافظ شلتاغ عبود، وطالبت توفير الخدمات ومكافحة الفساد.

-  في يوم 5/2/2011 شهدت منطقة الحسينية وبوب الشام في بغداد وناحية الحمزة في محافظة الديوانية تظاهرات بالألاف تطلب بتوفير الخدمات

-  في يوم 7/2/ 2011 شهدت مدن الموصل الشمالية والأنبار الغربية وديالى الشرقية والعمارة الجنوبية تظاهرات شارك في مجموعها أكثر من 5000 شخص من المثقفين وشيوخ العشائر والوجهاء، طالبوا فيها بتحسين الواقع المعيشي والخدمي السيء في البلاد.

- في 25/2/2011، اقتحم المحتجون المقار الحكومية في الموصل والبصرة وواسط والرمادي، وسيطروا على المجلس البلدي في الحويجة وحاصروا مقار ودوائر أخرى.

- في 25/12/ 2012 نظم العراقيون مظاهرات حاشدة في ست محافظات مختلفة (الأنبار، الموصل، ديالى، صلاح الدين، كركوك، بغداد) واستمرت لأكثر من عام، وذلك احتجاجًا على ما وصفوه تهميش الحكومة لهم، وتواصلت حتى 30 من ديسمبر/كانون الأول 2013.

- في نيسان 2013 اقتحمت القوات العراقية الساحة التي يعتصم بها المتظاهرون المناوئون للحكومة في مدينة الحويجة بمحافظة كركوك، الأمر الذي خلف أكثر من 50 قتيلاً وأدى إلى حالة من الغضب واشتباكات في بلدات أخرى.

- يوم 9/6/ 2013، خروج مظاهرات كبيرة في محافظة النجف، احتجاجًا على تردي الواقع الخدمي وارتفاع أسعار مولدات الطاقة الكهربائية الأهلية، فيما طالبوا باستبدال مديرين الدوائر "المترهلين والفاشلين".

- في صيف 2015 و2016 نزل آلاف العراقيين في مدن الجنوب إلى الشارع للمطالبة بإنهاء الفساد وتحسين الخدمات العامة، لكن دون نتائج تذكر حتى الآن.

- في منتصف صيف 2016، تجمع الآلاف من أنصار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، بالعاصمة بغداد، للدعوة مجددًا إلى تنفيذ إصلاحات تضع حدًا للفساد في البلاد، في حين هدد المتظاهرون بخطوات تصعيدية ضد الحكومة.

- في شباط 2017، نظم التيار الصدري مظاهرة سلمية حاشدة بمشاركة آلاف العراقيين من العاصمة والمحافظات في ساحة التحرير وسط بغداد، وطالب المتظاهرون بتعديل قانون الانتخابات وتغيير مجلس مفوضية الانتخابات والابتعاد عن المحاصصة السياسية.

- في 1/10/2019 شهدت مدن الجنوب تظاهرات واحتجاجات شبابية عارمة وشملت محافظات (البصرة وميسان والناصرية والنجف وكربلاء وواسط والديوانية والمثنى)، وتعد الأشد والأشرس، وتأجلت لحين انتهاء مناسبة الأربعينية وتجددت في 25/1/2019، ولا يزال أوارها يشتعل ويتجدد لحين كتابة هذه الكلمات.




 

3-2 تطور الانتفاضة وديناميتها؛

سبقت انتفاضة تشرين في العراق وتقدمت عليها اعتصامات لخريجي الدراسات العليا من حملة شهادات الماجستير والدكتوراه، فحسب احصائيات وزارة التعليم العالي(28) أن هناك ما يقارب 15000 خمسة عشر ألف من حملة الدكتوراه والماجستير عاطلين عن العمل لا توجد امكانية لاستيعابهم في وزارة التعليم العالي" حسب تصريحات الوزارة" وتؤكد ايضا ممكن استيعابهم من قبل وزارات اخرى او في القطاع الخاص وغيرها، تلك هي اللغة الرسمية لتسويف مطالبهم وعدم الاكتراث بهم، وقد مهد اهمال مطالبهم المشروعة في الحصول على عمل، بعد أكثر من ثلاثة اشهر من الاحتجاجات، التجاوز عليهم واستخدام مختلف الأساليب القمعية، من ضرب واستخدام الهراوات وخراطيم المياه الساخن، الى جانب الاعتداء على النساء الخريجات والتجاوز عليهن بأساليب غير مؤدبة وغير حضارية ولا تليق بالمرأة. وانفجر بركان غضب العراقيين في الأول من تشرين بتظاهرات عارمة شملت بغداد وجميع محافظات الجنوب، تميزت هذه التظاهرات في بداية الأمر بغياب القيادة وعدم تبعيتها لأي جهة سياسية أو دينية خلافا لسابقاتها التي تبنى التيار الصدري تنظيمها وتوقيتاتها سواء بدايتها أو نهايتها، مع اعتبار أن التيار الصدري لعب دورا فاعلا بحمايتها لكنه لم يتبنى ولم يمنع اتباعه من المشاركة مع ظاهرة التواجد والانسحاب التي تكررت كثيرا خاصة في ساحة التحرير. في الاحتجاجات السابقة كان للمرجعيات الدينية والكتل السياسية دور ما في توجيهها ورسم سياساتها وتنسيقها مع الحكومة المركزية وقواتها الأمنية التي تعاملت مع الاحتجاجات دون ممارسة أساليب القمع التي استخدمتها ضد المحتجين الذين خرجوا في الأول من أكتوبر/تشرين الأول احتجاجا على سوء الخدمات والبطالة وفشل الحكومة في مكافحة الفساد.(29) وتطورت التظاهرات شكلا ومضمونا وباتت ساحة التحرير موطن المنتفضين ومعقلهم للتصدي لنظام المنطقة الخضراء، أهم خصائص هذه الانتفاضة أنها تطورت وتنامت من طلبات توفير الخدمات وإقصاء الفاسدين ومعاقبة القتلة الذين تصدوا للتظاهرات خاصة بعد أن شكلت ظاهرة القناصين والطرف الثالث وصمة عار في جبين السلطة والنظام تنامت هتافات المنتفضين لإسقاط كامل المنظومة الحاكمة، وتحقق لها إسقاط حكومة عبد المهدي بعد صراع طويل وتحميله المسؤولية عن الطرف الثالث المستهدف للناشطين من خلال قوات مكافحة الشغب وجهاز استخبارات الحشد والعديد من الفصائل التابعة لإيران. كذلك واحدة من أهم سمات الاحتجاجات  أنها خففت من حدة الخطاب الطائفي "التقليدي" الشيعي الموجه ضد السُنة مع غياب أية مؤشرات على خطاب طائفي سُني مضاد للشيعة، المحتجون يحاولون إعادة الهوية الوطنية الجامعة لكل العراقيين مع رفض تدخلات إيران والأحزاب والفصائل المرتبطة بها، كما أن المحتجون خاصة من العرب الشيعة ينظرون إلى فصائل الحشد الموالية لطهران على أنها "أداة قمع" مساندة للقوات الأمنية وجزء من منظومة الفساد، والوضع الراهن يعكس انقسامًا "غير مسبوق" بين عموم الشيعة ومنظومة الحكم "الشيعية" المتمثلة بالحكومة ومجلس النواب، وبعد أسابيع من المظاهرات والانتقادات تحدثت مرجعية النجف عن شرعية الاحتجاجات وضرورة تلبية مطالب المحتجين ووقف قمعهم ورفض التدخلات الخارجية. (30) كما أن حراك تشرين ابدأ بتظاهرات عفوية قوية ساخطة من غير أي ظهور لقيادة ولا دلالة على أي تنظيم لكنها مع تقادم الزمن كثفت من جهودها ورتبت صفوفها حتى ليبان للمتابع الحصيف دلائل وقرائن عمل منظم، ووجود تنسيقات وخيم وظهور أدلجة تناهض أدلجة النظام السياسي الإسلامي الشيعي الحاكم ومع تنامي الحراك وتعاظمه عمد العديد من الأحزاب والكيانات السياسية اختراقه والسعي لمشاركته مخرجات أي نجاح جزئي أو كلي ولتسليط الضوء على بعض الكتل السياسية وبعض التوجهات المنتشرة في ساحة التحرير في الشهر الأول من الانتفاضة وقبل إسقاط حكومة عبد المهدي كانت كما يأتي؛: اهم القوى الرئيسية الموجودة في ساحة التحرير في شهرها الأول حسب مشاهدات ميدانية، سرايا السلام وهم المسيطرون على بناية المطعم التركي ومن خلالهم يتم إدارة كل فعاليات التظاهرات وخاصة الساتر الموجود بين القوات الحكومية والمتظاهرين وهم مندفعين بقوة و يدافعون عن الساتر حتى الموت وهم الموجودين في مواجهة القوات الأمنية في مداخل الشوارع و منهم اغلب سواق التكتيك حيث يدفعون لهم مبالغ أجرة يومية ويزودونهم بالبنزين وهم الذين نصبوا محطة الإنترنت بالساحة،  جماعة منتظر الزيدي وهم تيار تابع للسيد مقتدى الصدر وهم القوة الثانية من حيث القوة والعدد والتأثير وتقديم الدعم والظهور الإعلامي وإبراز الرموز الإعلامية من الشباب المتظاهر، جماعة التيار المدني من البعثيين والشيوعيين وبعض المثقفين وهم القوة الثالثة من حيث العدد و التأثير وهؤلاء هم الذين يقودون المجموعات المثقفة التي تقدم وتصوغ المطالب منهم مجموعة تقدم مقترحات تعديل الدستور ومقترحات إقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة وتقليص رواتب الرئاسات وفي الفترة الآخرة رفعوا شعار إسقاط النظام، مجموعات شبابية مختلفة من شرائح المجتمع وخاصة العاطلين عن العمل والمعلمين والمحامين وطلبة الجامعات ومعهم عدد كبير من شباب المناطق السنية من مختلف مناطق بغداد وهؤلاء عددهم يزيد وينقص حسب الموقف وهم متواجدون بصورة متقطعة في التظاهرات.

أما الدعم المادي في الشهر الأول فقد كان الدعم الأكبر يأتي عن طريق سرايا السلام وهم يوفرون الطعام والانترنت والدروع والاقنعة ضد الغاز وتكلفة المصروفات تتجاوز ال مائة ألف دولار يوميا، الجهة الداعمة الأخرى هي تيار الحكمة جماعة السيد عمار الحكيم وهي تقدم كل أنواع الدعم المادي والمعنوي والتجهيزات الطبية وشكل جماعة عمار الحكيم مجموعات لتقديم الدعم اللوجستي للمتظاهرين وبوجود قياديين بارزين من جماعة عمار الحكيم في ساحة التحرير في بداية الاحتجاجات، كتلة النصر التابعة لحيدر العبادي تقدم الدعم المادي والسياسي والإعلامي وتضغط على الحكومة للاستجابة لمطالب المتظاهرين بقوة، بعض التجار والمقاولين وأصحاب رؤوس الأموال السنة وخاصة رجال الأعمال من الأنبار وبغداد يقدمون دعما ماليا كبيرا ويوفرون الأطعمة والدواء والمياه الصحية ولكن بعد التعرف عليهم من قبل الأجهزة الأمنية تم تهديدهم بالاعتقال وفرضوا عليهم التوقف عن التبرع بالمال، هناك تبرعات كبيرة من قبل سكان المناطق السنية على شكل طعام وغذاء وأدوية تصل المتظاهرين بكميات كبيرة تصل إلى ساحة التظاهرات بشكل مستمر.

واحدة من أهم من يجعل لساحة التحرير شرعية وقوة ومعترف بها محليا ودوليا هو لقاء ممثل الأمم المتحدة مع المتظاهرين؛ ففي 30تشرين الأول/ أكتوبر 2019 - في إطار جهودنا المستمرة لتعزيز الحوار بين المحتجين والحكومة، زارت الممثلةُ الخاصةُ للأمين العام للأمم المتحدة في العراق السيدة جينين هينيس- بلاسخارت(31) ساحة التحرير للتحاور مع الناس هناك.

     وبينما جرى تبادل الآراء ومناقشة السبل الممكنة لمعالجة المطالب المشروعة للمتظاهرين السلميين، أكدت الممثلة الخاصة، مجدداً، أن الحكومة ليس بوسعها أن تعالج بشكل كلي تركة الماضي والتحديات الراهنة خلال عامٍ واحدٍ فقط من عمرها. ودعت السيدة هينيس- بلاسخارت إلى إجراء حوارٍ وطني لتحديد استجابات فورية وفعالة للخروج من حلقة العنف المفرغة، وتحقيق الوحدة في وجه مخاطر الانقسام والتقاعس. بالوقوف صفاً واحداً، يمكن للعراقيين التوصل إلى أرضية مشتركة لتشكيل مستقبل أفضل للجميع.

وكانت الممثلة الخاصة للأمين العام في العراق، السيّدة جينين هينيس-بلاسخارت، قد أجرت مشاورات مع طيف واسع من الأطراف والسلطات العراقية بما فيها الرئاسات الثلاث ومجلس القضاء الأعلى، وعدد من المتظاهرين بالإضافة إلى ممثلين عن النقابات. وأكدت على المبادئ التي يجب أن يتمسك بها الجميع في الأيام المقبلة، وقبل كل شيء حماية الحق في الحياة، وضمان الحق في التجمع السلمي والاحتجاج وحرية التعبير كما كفلها القانون، وممارسة أقصى قدر من ضبط النفس في التعامل مع المظاهرات، ومحاسبة الجناة وإنصاف الضحايا، والعمل وفق القانون وخاصة فيما يتعلق بالممتلكات الخاصة والعامة.

وحددت يونامي عددا من الإجراءات الفورية المطلوب القيام بها بأقل من أسبوع، وتشمل:

  • إطلاق سراح كافة المتظاهرين السلميين المحتجزين منذ الأول من تشرين أول/أكتوبر وفقا للقانون.
  • عدم ملاحقة المتظاهرين السلميين.
  • الإسراع في تحديد هوية وتقديم المسؤولين عن استهداف المتظاهرين للعدالة.
  • محاكمة ومعاقبة المسؤولين عن الاستخدام المفرط للقوة و/أو المتسببين بأعمال العنف الأخرى وفقا للقانون.
  • دعوة كافة الأطراف الإقليمية والدولية علنا لعدم التدخل في الشؤون الداخلية للعراق واحترام سيادته.

وتتضمن الإجراءات قصيرة الأمد والتي تمتد بين أسبوع وأسبوعين التالي:

  • الإصلاح الانتخابي: يتم الانتهاء من وضع إطار قانوني موحد بدعم فني من الأمم المتحدة وتقديمه بعد فترة وجيزة إلى مجلس النواب.
  • إصلاح القطاع العام: يتم تطبيق الأمر التنفيذي رقم 237 بالكامل وبدون تأخير وحظر أي أسلحة خارج سيطرة الدولة.
  • الفساد: على النخبة السياسية أن تكون قدوة في محاربة الفساد من خلال كشف المصالح المالية داخل البلاد وخارجها سوء كانت بأسمائهم أو تحت أسماء أخرى. وإلغاء اللجان الاقتصادية في الكتل والتيارات السياسية.

إجراءات متوسطة المدى يتم تنفيذها خلال شهر إلى ثلاثة أشهر، وتشمل:

  • الدستور: تستمر لجنة التعديلات الدستورية بمراجعة الدستور وبدعم من الأمم المتحدة وطرح أي تعديل في الدستور للاستفتاء عليه من قبل الشعب العراقي.
  • الفساد: تقوم هيئة النزاهة بإحالة قضايا الفساد إلى مجلس القضاء الأعلى أو المحكمة المركزية لمكافحة الفساد.
  • سن القوانين: مثل قانون من أين لك هذا؟ وقانون المحكمة الاتحادية، وقانون الضمان الاجتماعي، وقانون حل أزمة السكن، مجلس الإعمار، وغيرها من القوانين، وتقوم الحكومة بإرسال مشروعات القوانين إلى مجلس النواب لاستكمالها. (32)


 وبحسب متابعات ميدانية، تم لقاء ممثل الأمم المتحدة مع ممثلي التظاهرات من جميع القطاعات ١٠ من كل قطاع حيث حضر اللقاء ٩٠ متظاهرا ممثلون عن شرائحهم، أصحاب التكتك، شريحة العاطلين عن العمل، شريحة المعلمين،  شريحة المحامين،  شريحة الأطباء وشرائح أخرى موجودة في الساحة وحضر أيضا اللقاء ممثل عن الحكومة حيث قدمت كل شريحة مطالبها ووعدت الحكومة بالاستجابة لجميع المطالب ماعدا إقالة رئيس الوزراء وتقديم موعد الانتخابات وتعديل الدستور. مع اعتبار تكمن الحراك من اسقاط الحكومة كمنجز أولي يستتبعه منجزات أخر.



 

3-3  عنفوان وسلمية وصلابة وعراقية الانتفاضة

    يعد الحراك مجتمع عراقي مصغر يعكس طبيعة التنوع البشري لمدينة بغداد، فيه الشباب المتحمس وفيه الشيوخ العقلاء من أصحاب الحكمة وفيه رجال وشباب ونساء وحتى الفئات العمرية دون سن البلوغ تجدها، دون الساتر المواجه لقوات الشغب تجد شرائح مجتمعية متنوعة، مجاميع من المثقفين والفنانين والأدباء والحرفيين، وتجد الباعة المتجولين ومصحات ميدانية ومنصات إعلامية وتجمعات لمختلف الأنشطة المجتمعية المشكلة لألوان طيف مدينة بغداد، مع اعتبار السواد الأعظم من الحراك هم من العرب الشيعة، مع اعتبار مشاركة طيبة للعرب السنة خاصة من أهل بغداد والمحافظات القريبة كديالى والغربية، ولعل المتابعين للحراك والمطلعين على تفاصيله يوكدون أن أول شاب شهيد كان من مدينة الفلوجة، ولعل شباب العرب السنة حاولوا سد ثغرة تخلف محافظاتهم عن الانخراط في حراك مكافئ لحراك المحافظات الجنوبية، مع أن الجميع يعذر هذه المحافظات بعد صد حراكها في الأعوام السابقة كما في 2011، 3012 بالحديد والنار والقتل والتهجير وتسليط الإرهاب عليها وهدم معظم حواضر هذه المحافظات بعد أحداث التنظيم الإرهابي داعش وسيطرته على ما يزيد عن ثلث العراق، والجميع يعي ما لا قاته هذه المحافظات من الأعمال الحربية التي صاحبا تحرير هذه المحافظات.

 يحتل الساتر الأول المواجه لقوات مكافحة الشغب المعززة بقوات متنوعة من الميليشيات ومن هو محسوب على الطرف الثالث، مجاميع شبابية استشهادية سطرت أروع ملاحم البطولة والمطاولة والتصدي من غير أي موارد حقيقية تذكر إلا من إيمانهم بقضيتهم العادلة التي يجودون بأرواحهم من أجل تحقيقها وغاية ما يصبون إليه هو ...وطن... ليس إلا، يقينا يفهم العراقيون تعبير كلمة وطن ماذا تعني، إنها تعني وطن يعيش به العراقيون أحرارا تتساوى فيه الحقوق والواجبات لكل من يقطن فيه بصرف النظر عن خلفيته الدينية والمذهبية والقومية والفكرية، وطن يتسع للجميع وتعود خيراته لأبنائه ليس لإيران ولا لأي جهة أخرى لم تحقق للعراق والعراقيين مصلحة مكافئة، وطن بحكم رشيد عادل يوضع فيه الرجل المناسب في المكان المناسب، وطن يعكس سمعة وقيمة العراق والعراقيين التي كان يحلم بها العالم أجمع، وطن تتوزع فيه الثروات والموارد بالعدل على العراق والعراقيين، وطن يكون قبلة في الرقي والتقدم والنجاح، وطن تجتمع فيه جميع الخصال الحميدة وتنفى عنه غيرها، وطن لا مكان للسلاح إلا بالدفاع عن حدوده وأبنائه...

     وعلى الرغم من سلمية التظاهرات وهذا خيار استراتيجي للمنتفضين فالانتفاضة تعرضت للعديد من المحاولات التي حاولت انهائها وتحجيمها في عموم المحافظات، لا بل حاول البعض استعجال الصدام وهددوا باقتحام المنطقة الخضراء بعد تحشيد مسيرة مليونيه تنطلق من كربلاء تجاه بغداد من مختلف محافظات الوسط والجنوب تسير صول المنطقة الخضراء غير أن وعي العراقيين في ساحة التحرير وفي محافظة كربلاء فوت هذه الفرصة على المتصيدين بالماء العكر والمزايدين على القضية الأصيلة ومحاولة خرق السمة السلمية للانتفاضة، فما  كان من المنتفضين إلا بناء سور من الشباب على أبواب المنطقة الخضراء تمنع انزياح الجموع صوبها بعاطفة غير محسوبة النتائج فحالت دون تحقيق ذلك، مع اعتبار القيام بحملة إعلامية توعوية تحول دون الانجرار لارتجال بعض المغرضين والمقامرين بأرواح الشباب. ويحسب لسرايا السلام وأصحاب القبعات الزرقاء الحفاظ على أمن المتظاهرين وحمايتهم بأدوات غير السلاح واستطاعت أن ترد جموع غادرة استهدفت أرواح المواطنين بالرصاص الحي من الطرف الثالث، مع اعتبار وجود الجيش منزوع السلاح في غالب الأوقات لحماية أمن الساحة مع تعرضهم من قوات الطرف الثالث لاعتداءات سافرة لمرات عدة، وللوقوف على المحاولات العديد من الميليشيات والقوى الأمنية الموالية لنظام طهران لاقتحام التظاهرات بالقوة المفرطة رصدت قناة الحرة الأمريكية في تقرير لها (33) قالت في الآتي؛ عقب اندلاع المظاهرات المنددة بالفساد ونفوذ إيران، حاولت القوات الأمنية، ومن خلفها ميليشيات الحشد، احتواء الاحتجاجات عبر إرهاب المتظاهرين بالرصاص ومختلف وسائل القمع، ما أسفر عن مقتل المئات.ولم يقف الإرهاب عند القتل العشوائي للمتظاهرين عبر القناصة أصحاب الأقنعة السوداء أو "الهجمات المجهولة"، بل شمل أيضا خطف الناشطين واغتيالهم لتتحول البلاد إلى أرض للخوق والرعب.والخميس الماضي، اجتاح العشرات من مؤيدي الحشد الشعبي على متن شاحنة مزودة بنظام صوتي موقع المتظاهرين في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، في محاولة جديدة لإرهاب المعتصمين.وليلتها، توقف أنصار الحشد أمام مساحة وضعت فيها شموع وأمتعة شخصية لضحايا عمليات القمع من أحذية وملابس وخوذات خفيفة، في رسالة تهديد غير مباشرة للمتظاهرين المتمسكين برحيل الطبقة السياسية.وتخوف المتظاهرون حينها من توابع استعراض القوة وشككوا في دوافع أنصار الحشد الشعبي، الذي يضم فصائل موالية لإيران وباتت تحمل صفة رسمية بعدما صارت جزءا من القوات العراقية.بعدها بيوم واحد، هاجم مسلحون ملثمون جسر السنك قرب ساحة التحرير، موقع الاعتصام الرئيسي، وقتلوا نحو 25 شخصا وأصابوا أكثر من 120 آخرين، وحرقوا خيام المتظاهرين، وحتى عربات "التكتك" الصغيرة التي يستخدمها المتظاهرون في إسعاف الجرحى.ويؤكد الباحث في الشأن العراقي، رعد هاشم، لـ"موقع الحرة" أن "هناك دلائل كثيرة على ارتكاب الحشد الشعبي للمذبحة، منها مركباتهم الحكومية وسياراتهم المعروفة، وهناك توثيق بأماكن خروجهم وأماكن انسحابهم، حتى أن الجيش وقطاعات منه انسحبت قبل وقت من دخولهم بقليل في تصرف غير مسؤول، ما سمح لهم بدخول أماكن الاعتصام".

     يقول الباحث فارس كمال نظمي؛(34) وهكذا تبدو الثورة التي انطلق عمرها المستقبلي للتو تجسيداً لكتلة تاريخية وطنياتية عابرة للطبقية والعقائدية والهويات الفرعية، شديدةَ العنفوان في دمائها وخطابها وغضبها وأهدافها الجذرية وسعة التمثيل التي تمتلكها. كما تتميز بقدرتها على التحشيد العددي الواسع عبر تنسيقياتٍ متفرقة في أرجاء البلاد تعمل على تحديد إحداثيات التظاهر والاعتصام مكانياً وزمانياً، والترويج الإعلامي في مواقع التواصل الاجتماعي، وتوفير الإمدادات الغذائية وتأمين الخدمات الطبية واللوجستية للمحتجين. لكن في الوقت نفسه، تبدو الثورة غير قادرة بعد على إطلاق هيكليتها التنظيمية للتمهيد لإعلان عصرٍ سياسي جديد.

      وليس المقصود بالهيكلية التنظيمية ظهور استقطاب حزبوي أو عقائدي تقليدي إذ يبدو هذا أمراً لا يتفق مع التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي والنفسي للحراك، فضلاً عن أنه قد يغدو سبباً للانشقاق والتفتت؛ بل يقصد به ظهور أطر تنسيقية قيادية بين بؤر الحراك المتنوعة بصيغ ائتلافية أو جبهوية تسمح بتلاقح الرؤى وتوحيد الخطاب بما يبلور قطبية سياسية مرنة للحراك ذات مشروع محدد المعالم بمطالبه وخياراته وقراراته، بمواجهة القطبية القابضة على السلطة.   ومن هنا نلمس نضج ووعي في العقل الجمعي العراقي  واغير في مصفوفة القيم للحاضنة التي خرجت منها الأحزاب والكتل السياسية المسؤولة عن خراب العراق ودمار العراقيين، ومما يُرسخ حقيقة هذا النضج؛ أن الأحزاب السياسية ذات النفوذ المستمد من مظلة المرجعية، تساقطت عن هرم التسلّط وأُبعدت عن رعاية الحاضنة الشعبية المفترضة لها ولاسيما في محافظات جنوبي العراق، فضلاً عن تلاشي هالة (القدسية) عن ميليشيات (الحشد الشعبي) وفصائله المدعومة إيرانيًا والتي مارست إجرامًا منقطع النظير لم يعد مقتصرًا على المناطقية الطائفية كما كان قبل بضع سنين بل امتد ليغدو طاغوتًا يحرق بطغيانه الحرث والنسل. وفي معادلة الحراك الشعبي لانتفاضة تشرين؛ احترقت إيران ورموزها تحت وطأة أقدام شباب الثورة، ولم تعد ثمة آذان صاغية لأدواتها وأبواقها في العراق، ولعل في هذا مقدمات وخطوات أولى لتأسيس واقع عراقي جديد منزّه عن التبعية ومستقل عن الإرادات التي تسطو على المشهد وتتحكم بمجرياته.(35) صحيح أن تحقيق ذلك دونه مصاعب وعوائق والتخوف من المجهول ومن الفوضى لكون ميليشيات إيران ستدافع حتى الرمق الأخير عن منظومة أتباعها في الحكم وستضحي باتباعها ولا يضيرها بحور من دماء أبناء العراق بمختلف خلفياته.



 

3-4 هيكلية وجسد الحراك في ساحة التحرير

        هنالك كليات قيلت في بداية الحراك في شهره الأول وحيزا من الشهر الثاني له بكونه حراك خالي من القيادة ومن التنظيم عفوي غير مؤدلج لا ينتمي لأي حزب سياسي، وهذه مقولات تطلق من قبل اصحاب الانطباع العام والرؤية للوهلة الأولى، مع اعتبار أننا حين نقترب من سقف الشهور الثلاث والحراك لا يزال حيا ينبض ويصول ويجول ويعد اليوم المؤثر الأول على القرارات التي تصدر ممن بقي في العملية السياسية وخاصة مجلس النواب والرئاسة مع عدم قبوله بهذه السلطات التي تزيد في فسادها عن الحكومة المقالة، نجد اليوم أن معظم هذه المقولات غير صحيحة، بل الواقع يشي بخلافها فساحة التحرير يوما بعد يوم تعكس تنظيما وتوزيعا للمهام وهنالك قوى مؤثر في عرصاتها، كما المراقب يجد الشباب المنتفض البسيط المنزوع السلاح إلا من قضيته لتحقيق مطلب واحد فقط وهو وطن، كذلك تجد الجمهور المؤدلج فالساحة فيها من العلمانيين ومن الإسلاميين الشيعة كأتباع التيار الصدري ومن القوميين ومن الشيوعيين ومن المنظرين ومن المفكرين لهؤلاء جميعا، كما تجد أصداء منصات التواصل الاجتماعي التي حشدت في البداية ولا تزال تحشد لإدامة زخم الحراك ونقل ما يجري به للعالم أجمع. بل وجدت منصات ومواقع تعد مسؤولة بشكل كبيرة على التحشد والتواصل ما بين الحراك والعالم، واشتهرت أسماء كثيرة بات لها تأثيرا من أمثال ؛

    سرايا السلام وهم المسيطرون على بناية المطعم التركي في الشهر الأول  ومن خلالهم يتم إدارة كل فعاليات التظاهرات وخاصة الساتر الموجود بين القوات الحكومية والمتظاهرين وهم مندفعين بقوة و يدافعون عن الساتر حتى الموت وهم الموجودين في مواجهة القوات الأمنية في مداخل الشوارع و منهم اغلب سواق التكتيك حيث يدفعون لهم مبالغ أجرة يومية ويزودونهم بالبنزين وهم الذين نصبوا محطة الإنترنت بالساحة.

جماعة منتظر الزيدي وهم تيار تابع للسيد مقتدى الصدر وهم القوة الثانية من حيث القوة والعدد والتأثير وتقديم الدعم والظهور الإعلامي وإبراز الرموز الإعلامية من الشباب المتظاهر وله منصة إعلامية فوق المطعم التركي لها مخرج لا يمر ببقية الطوابق، وله دعم مادي كبير.

جماعة التيار المدني من البعثيين والشيوعيين وبعض المثقفين وهم القوة الثالثة من حيث العدد و التأثير وهؤلاء هم الذين يقودون المجموعات المثقفة التي تقدم وتصوغ المطالب منهم مجموعة تقدم مقترحات تعديل الدستور ومقترحات إقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة وتقليص رواتب الرئاسات وفي الفترة الآخرة رفعوا شعار إسقاط النظام

مجموعات شبابية مختلفة من شرائح المجتمع وخاصة العاطلين عن العمل والمعلمين والمحامين وطلبة الجامعات ومعهم عدد كبير من شباب المناطق السنية من مختلف مناطق بغداد وهؤلاء عددهم يزيد وينقص حسب الموقف وهم متواجدون بصورة متقطعة في التظاهرات. وهناك العديد مكن الشخصيات ومن مختلف التوجهات لها منصات فاعلة على السوشيل ميديا ولها تأثير على ساحة التحرير من أمثال

-حسن الكعبي ، مسؤول تنسيقية الاحتجاجات للتيار الصدري يعمل على قيادة مجموعات القبعات الزرق .

- حسين علي ( حسين تقريبا ) الذي تبناه التيار الصدري والذي يعمل الان كموظف  في مشروع ANTIMA  مكتب  معهد صحافة الحرب والسلام  IWPR .

- جاسم الحلفي ، رجل اعمال وصاحب عقارات عديدة قيادي في الحزب الشيوعي العراقي و مقرب من التيار الصدري .

- غيث التميمي ، قيادي سابق في التيار الصدري و صديق مقرب من جاسم الحلفي .

-احمد البشير والطاقم التابع للبرنامج صاحب برنامج البشير شو على قناة DW

- احمد عبد الحسين، شيوعي ومعمم سابق يعمل مع التيار الصدري .

- مهتدي أبو الجود، من سكنة مدينة الكوت وهو ابن اخت جاسم الحلفي .

- احمد الشيخ ماجد، يعمل في الترا عراق المموله من معهد صحافة الحرب والسلام( والده الشيخ ماجد احد قياديين التيار الصدري)

-ستيفن نبيل وهو عراقي مسيحي مقيم في الولايات المتحدة وهو صحفي في قناة الحرة عراق.

-  زياد وليد، اسمه الحقيقي "زيا " مسيحي و موظف في الترا عراق من سكنه شقق زيونة يعمل على التنظير السياسي خلال الفيسبوك ومن خلال موقع الترا عراق  .

- علاء ستار من مدينة الكوت موظف في الترا عراق مسؤول في خيمة خوش ولد

- فراس السراي وله موقع فاعل.

- مشرق الفريجي قيادي في تنسيقية احتجاجات التيار الصدري  مسؤول عن ادارة اللوجستيات في خيمة نازل اخذ حقي .

- زيدون عماد، من اهالي الكوت يمتلك شركة ممولة من التيار الصدري  موقعها في ابو نؤاس ، مسؤول عن السيطرة على خيمة نازل اخذ حقي و التحكم بالقرارات فيها .

ومن أقوى الصفحات التي تتفاعل مع الحراك

صفحة نازل اخذ حقي،  تجمع الخوش ولد، صفحة حسين تقريبا، جريدة التكتك التي تمول من التيار الصدري، مخيم حديقة الأمة ، موقع  الترا عراق، مزاجيات

شيطنة الحراك

   بعد تقادم الزمن على الحراك وبعد أن تعذر على النظام انهائها أو تحجيمها بالوسائل التي اعتمدت فرط القوة واستخدام اطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والصدامات المسلحة، عمد النظام إلى اختراق الحراك وتشكيل مافيات وعصابات تعتمد السرقة والفساد الأخلاقي وتعكس صورة مسيئة للحراك أمثال عصابات ما يسما بأبي صقر وغيره، وأوجدت ذريعة لأركان النظام الفاسد المدمر للعراق والعراقيين بتشويه الحراك كون فيه مجموعة من اللصوص والفاسدين خلقيات ويمارس بعضهم الرذائل محاولا تسويقها على أنها لون من ألوان الحرية... تصد أصحاب القبعات الزرق لبعض العصابات وطاردوهم وحاولوا ابعادهم من دون جدوى كبيرة كون هذه العصابات






المبحث الرابع؛ غايات الحراك ومخرجاته

4-1 مطالب الحراك

    الشرارة الأولى لحراك الأول من تشرين كانت نتيجة طبيعية لتراكم معناة جيل كامل من نقص الخدمات وانخفاض المستوى المعيشي وما يعانيه غالب العراقيين من فقر مدق مع ترهل وتنامي موارد أتباع الأحزاب والكيانات السياسية بعد أن كان الحال من بعضه، الأمر الذي فجر بركان الغضب من شريحة معدمة محرومة من الحد الأدنى من مقومات العيش الرغيد، حتى قيل عن هذه التظاهرات في بادئ الأمر أنها ثورة جياع في بلد يعد من أغنى بلدان المنطقة، لكنها كحركة فاعلة لاقت آذان صاغية من مجل العراقيين الوطنيين المعارضين للمنحدر الذي يهوي إليه البلد بسبب الفاسدين، وفعلا اكتسبت زخما كبيرا من شرائح المجتمع الأخرى وتطورت مع الزمن وتحولت في محصلتها النهائية إلى كلمة واحدة تحوي العالم بين جنباتها...وطن...

  يرى المحلل السياسي العراقي إياد الدليمي(36) أن "تظاهرات العراق التشرينية كانت عراقية خالصة ولم تكن فئوية ولا مطلبية". وتميزت التظاهرات العراقية التي انطلقت، في أكتوبر الماضي، بشعبيتها وعدم وجود جهة حزبية أو منظمة مدنية أو حكومية داعمة لها، وعرفت بأنها عفوية من دون قيادات.

  وأضاف الدليمي في حديثه لـ"الخليج أونلاين" أن هذه المظاهرات "رفعت شعار تغيير النظام وإنهاء المحاصصة والطائفية، ومن ثم كانت قفزة في الوعي الجمعي العراقي الذي لم تتمكن أي سلطة مهما كانت من اختطافه".وقد يكون هذا الرأي قراءة آملة في المشهد لكون المنتفضين تطورت مطالبهم من كونها تقديم خدمات وتحسين الواقع المعيشي التي عملت حكومة عبد المهدي تلبية العديد منها وصادق عليها البرلمان، لكنها لم تك تفي بالغرض بل تجاوزتها مع الزمن إلى عشرين مطلب، وهي مطالب رفعت على أساس كونها مطالب الانتفاضة... فقد أعلن ثوار التحرير مطالبهم الـ 20 التي كتبوها من قلب الساحة في العاصمة بغداد لإيقاف التصعيد، جاءت على النحو الآتي:

١- إسقاط الحكومة وتقديم عادل عبد المهدي للمحاكمة بتهمة قتل المتظاهرين .

٢- حل البرلمان .

٣- كتابة دستور جديدة للبلاد يكتبه مختصون ومستقلون بعيدا عن الأحزاب والذين شاركوا في العملية السياسية منذ ٢٠٠٣ وحتى يوم انتصار الثورة .

٤ – إبعاد المؤسسة الدينية من التدخل في السياسة .

٥- استعادة أموال العراق المنهوبة ومحاكمة اللصوص والمسؤولين عن إهدار المال العام .

٦- تشكيل مجلس قضاء جديد مستقل بعيدا عن الأحزاب والمحاصصة .

٧- إلغاء المحاصصة الطائفية والحزبية في إدارة الدولة .

٨- حل المليشيات كافة وحصر السلاح بيد الدولة .

٩- إجراء انتخابات مبكرة وبإشراف اممي ويمنع الترشح لها من الأحزاب والكتل السياسية التي شاركت في العملية السياسية منذ ٢٠٠٣ وحتى يوم انتصار الثورة .

١٠- محاكمة الفاسدين من أعلى هرم في السلطة حتى منصب مدير عام منذ العام ٢٠٠٣ وحتى يوم انتصار الثورة .

١١ – تأسيس جيش عراقي جديد بعقيدة جوهرها الدفاع عن الوطن وحماية المواطن .

١٢ – حل الأجهزة الأمنية التي مارست القمع والقتل ضد المواطنين وتشكيل اجهزة أمن جديدة عقيدتها الجوهرية حماية المواطن وليس الدفاع عن السلطة .

١٣ – جعل الحكم رئاسي .

١٤ – صياغة قانون انتخابي جديد يكتبه مستقلون وأصحاب اختصاص.

١٥ – تشكيل محكمة جنائية خاصة لمحاكمة الفاسدين وقتلة الشعب العراقي والذين أساءوا استخدام السلطة ولم يحسنوا إدارة البلاد منذ ٢٠٠٣ وحتى يوم انتصار الثورة .

١٦ – إلغاء كافة الامتيازات التي تتمتع بها الرئاسات الثلاث .

١٧ – إلغاء رواتب وامتيازات نزلاء رفحاء .

١٨ – تعليق عمل مؤسستي الشهداء والسجناء السياسين لحين التدقيق في ملفاتها .

١٩ – حل هيئة النزاهة واصدار قانون متكامل لمكافحة الفساد واسترداد الاموال المنهوبة بالفساد.

٢٠ – إلغاء كافة الدرجات الخاصة وشمول كل الوظائف بقانون الخدمة...

 ونستطيع أن نجمل هذه المطالب العشرون بمجموعة مطالب جامعة، مع اعتبار إن كانت المطالب العشرون

التي تقدم المتظاهرون قاعدة لهذه الورقة فإن اعتمادها بحسب التسلسل سيكون نحو الآتي...

  • استقالة الحكومة وبقاؤها حكومة تصريف أعمال لحين تشكيل حكومة تنال رضى الشعب مع اعتبار وجود مراقبين من الأمم المتحدة على الحكومة تضمن عدم تدخل إيران وأذنابها وأي جهة خارجية بعمل الحكومة.. وهذا فعلا ما حصل بعد ذاك الوقت. استقالت حكومة عبد المهدي مع بقائها حكومة تصريف أعمال لساعة كتابة هذه الكلمات،  فقد جاءت موافقة مجلس النواب العراقي(27) في جلسته الاستثنائية الأحد الأول من كانون الأول/ديسمبر، على استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، التي يعتبر كثير من المراقبين أنها جاءت متأخرة، لتفتح الباب على سيناريوهات مختلفة بانتظار العراق، لا يمكن لأحد الجزم بتغليب أحدها على الآخر، في وقت تتواصل فيه الاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت في تشرين الأول الماضي، لتوقع مزيدا من القتلى برصاص أجهزة الأمن.
  • حل البرلمان باعتباره منتج لعملية تزوير كبيرة ولا قيمة رقابية له ويدعى إلى انتخابات مبكرة بإشراف أممي تام من الألف إلى الياء... وقبل ذلك يصار إلى تعديل قانون الانتخابات من قبل حكومة تصريف الأعمال بما يحقق للمتظاهرين مطالبهم وتبعد الأحزاب التي تسببت ي حالة الفشل السياسي وجميع قياداتها عن العمل السياسي على الأقل في المرحلة الانتقالية... مع اعتبار  أن المرجعية طالبت بإجراء انتخابات مبكرة كمخرج للأزمة ففي 20/12/2019 تضمنت خطبة الجمعة الممثلة للمرجع الشيعي الأعلى في العراق في خطبة الجمعة(28)
     أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة، الرجوع الى الشعب بإجراء انتخابات مبكرة.
     ينبغي تشريع قانون منصف للانتخابات، وتشكيل مفوضية مستقلة لإجرائها.
     يجب الإسراع في إقرار قانون الانتخابات وأن يكون منسجماً مع تطلعات الناخبين.
     ينبغي التنافس في الانتخابات بعيدا عن الانتماءات المناطقية أو العشائرية أو المذهبية.
     آمل ألا يتأخر طويلا تشكيل الحكومة الجديدة، ولا بد أن تكون غير جدلية.
     قلقون من استمرار تعرض النشطاء في الاحتجاجات إلى الاغتيال والتهديد والخطف.
  • عدم المساس بالدستور الحالي مع اعتبار تعليق المواد المرتبطة بطبيعة تشكيل الحكومة ومهام البرلمان لحين الوصول إلى حالة الاستقرار السياسي وبعدها في الإمكان إجراء تغيير في بعض مواد الدستور.. وتجريم كل من عطل المواد الدستورية المرتبطة بالحريات وحقوق الإنسان وغيرها...
  • ابعاد المؤسسات والمرجعيات الدينية عن التدخل في العمل السياسي مع احترام خصوصيات المكونات في توجهاتها الدينية والمذهبية كافة..
  • تشكيل مجلس قضاء أعلى جديد على أساس مهني ومستقل ولا صلة له بأي توجه سياسي وإبعاد القضاة الذين شاركوا في المدة السابقة من أي مهام... وتعقب الملفات الآتي من عام 2003 ولهذا اليوم( ملف انتهاك حقوق الإنسان، ملف الفساد المالي والإداري، الملف المالي بتعقب مخرجات الميزانيات من قبل لجان مختصة طيلة المدة السابقة وإنهاء فوضى الرواتب بما يمنع الجمع بين راتبيين من الدولة العراقية مهما كانت التسميات شهداء سجناء سياسيين رفحاء وغيرها مع تحديد سقف أعلى وأدنى للرواتب، ملف الاستهداف السياسي والاستبداد، ملف استهداف الأبرياء وخاصة استهداف المتظاهرين في انتفاضة تشرين ومن قبلها الحراك الشعبي عام 2012، ملف تمكين "داعش" من احتلال العراق، ملف عسكرة المجتمع وانتشار الميليشيات المسلحة وتمكينها من الدولة العراقية...إلخ.
  • بناء منظومة أمنية وجيش وطني مهني مستقل وتمكينه بأحدث المعدات وانتهاء المظاهر المسلحة خارجها، وحل جميع الميليشيات والمؤسسات الأمنية ذات الولاء الطائفي والولاء للأحزاب التي حكمت، وابعاد هذه المؤسسة عن أي عمل سياسي حتى المشاركة في الانتخابات..
  •  إعادة النظر في جميع الهيئات والمناصب السيادية وجميع مخرجات الاحتلالين الأمريكي والإيراني، فلا محاصصة وهمية ولا تمكين لمكون على حساب آخر بل العمل على إقامة دولة المواطنة التي لا تلتفت في أدائها لخلفية المواطنين الدينية والعرقية، بل المعيار للمواطنة والكفاءة..

هذه المعلومات رشحت من ساحة التحرير وقد لا تكون موطن اتفاق جميع الحراك لكونها كانت مطالب متفرقة وحملت ضمن بعض بيانات المنتفضين، ومع تراكم التضحيات تحولت هذه المطالب جميعها إلى عبارتين تجتمع في الآتي... رفع إيران يدها عن العراق...ونريد وطنا.



4-2 مخرجات الحراك... السيناريوهات المحتملة

مجمل التحليلات والتنبؤات المستقبلية للحراك تشي بوجود أربعة سناريوهات محتملة تعد أهم مخرجات الحراك وجميعها يرتبط بالضرورة سنتطرق إليها مختصرة ومن ثمة نتكلم عن مؤشرات كل احتمال وقوته وضعفه وشكله..

السيناريو الأول؛  أن ينتصر الحراك بثورة شعبية عارمة تقلع المنظومة بشكل تام وتضع منظومة جديدة بدلا عنها.

السيناريو الثاني؛ أن ينهك الحراك ويخذل وتتمكن المنظومة من احتوائه بالكامل مع إجراء إصلاحات شكلية كي تضمن عدم تجدده مستقبلا.

السيناريو الثالث؛ أن يتمكن الحراك من القيام بتغيير جذري من غير أن يغير أصل المنظومة بل أن يصل الطرفان لمنطقة التقاء تحقق للحراك تغييرا جوهريا وتبقي أصل المنظومة، أن يحفظ ماء وجه الطرفين.

السيناريو الرابع؛ الاحتراب الداخلي والفوضى الخلاقة وتبدأ بصدامات دامية بين الحراك والتيار الصدري من جهة وبين الميليشيات الموالية لإيران وفي مقدمتها العصائب وبدر.

الترجيح بين السيناريوهات المحتملة؛

السيناريو الأول غير محتمل وضعيف ولا يمكن تحقيقه إلا في ظل تدخل المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وإعادة العراق تحت البند السابع مع تدخل عسكري يستهدف أذرع إيران في العراق.

    مؤشرات ضعف هذا الخيار تكمن في تجذر هيمنة طهران على السلاح وتعد الميليشيات وحتى القوات المسلحة العراقية بتشكيلاتها كافة مخترقة من قبل أفراد موالين لإيران، مع اعتبار تفاوت هذا الاختراق فالجيش قد يكون فرصة أكبر مع جهاز مكافحة الإرهاب للجهات المحلية والإقليمية والدولية المناهضة للمشروع الإيراني في العراق. مع كون التظاهرات منزوعة السلاح إلا من سرايا السلام والأخيرة محكومة في محصلتها النهائية للمشروع الإيراني ولا يمكن لها بحال من الأحوال الفكاك عنه إلا من بعض المواقف الارتجالية التي تخرج عن بعض تكتلاته وأفراده خاصة بعد التعاطف المكتسب للحراك من الحاضنة الشعبية التي تمثله سواء كانت في بغداد أو باقي محافظات الجنوب.


السيناريو الثاني؛ يظل باق ومحتمل وأقوى من السيناريو الأول لكنه في المحصلة النهائية يبقى ضعيفا.

مؤشرات هذا الرأي يكمن فيما اكتسبه الحراك من خبرة تراكمية وتعاطف شعبي ورأي عام مساند مع دعم محلي واقليمي ودولي، صحيح لا يعد الزمن جزءا من الحل، وكذلك التقادم لا يخدم الحراك بل ينحت في جرفه، فعوام الشباب لهم أعمال ومصالح ويحتاجون لحياتهم الطبيعية، وفي غالبهم اعتراهم التعب، غير أن جسامة الخطب وأهميته، وما يشكله هذا الحراك من أمل، مع اعتبار المساندة الجماهيرية وتأجيج العواطف التي توقدت وقدمت التضحيات، وتقديم صور يتلاحم بها الشعب المنتفض مع شرائح مجتمعية كبيرة حتى من الأجهزة الأمنية، لذا يعد هذا الاحتمال وإن كان أقوى من سابقه لكنه في المحصلة النهائية ضعيف إذا ما قيس مع بقية الاحتمالات.


السيناريو الثالث يعد من وجهة نظر كاتب هذه الدراسة أقوى الاحتمالات الأربعة السابقة لجملة مؤشرات وأسباب موضوعية بعيدة عن العواطف، ففي الاحتمال الأول نحتاج للمجتمع الدولي والفواعل الإقليمية والدولية، ولهذه الساحة فإن دورها لا يكاد يذكر بله أن يتسبب في تغيير المنظومة، كما أن الحراك غير بوصلة الحاضنة الشعبية بما يهدد أي مستقبل حقيقي للأحزاب التي تسببت بهذا الفساد والدمار حتى لو غيرت من ثيابها، وتبقى للكل معسكر أسباب قوته ومواطن ضعفه ومع تقادم الزمن لا بد من حل يفضي إلى تغيير جوهري في المنظومة الحاكمة ويحقق للحراك مراده من دون اقتلاع الأولى بشكل تام، بمعنى لو رددنا الأمر على الصراع الحقيقي ما بين الطرفين فلا بد من نقطة التقاء ترضي الطرفين، ولو مثلنا توجه الحراك تجوزا بالرؤية الأمريكية، والمنظومة بالروية الإيرانية فإن الأولى ستقبل بنظام ديمقراطي علماني لا علاقة له بالأحزاب والكيانات الحاكمة، وستقبل الثانية بهذا النظام العلماني شريطة أن يكون بقياد  من ذات الطائفة التي يراهنون عليها. ونحن هنا في الترجيحات لا نستقبل صيرورة التغيير وخطواته بل نكتفي بالتوجه العام له وحسبنا هذا من غير تفاصيل تخل ببنية البحث العلمي الرصين.


     الخيار الرابع وارد وممكن لكنه يبقى خيارا واحتمالا ضعيفا وشهدت الساحة العراقية في بداية الحراك تصادم بين مليشيات استهدفت الحراك وأخرى ذادت عنه ولعل الصدام بين سرايا السلام والعصائب ي مجمل المحافظات الجنوبية وفي بغداد خير شاهد، وكذلك القوات المسلحة العراقية وحتى فصائل الحشد الشعبي فإنها قد تنقسم على نفسها وتحصل بينها مقتلة كبيرة إذا ما أراد البعض منها الحسم بالقوة المفرطة كما حدث في مناسبات سابقة، مع اعتبار العاصم من كل ذلك وما يعد نسبيا صمام أمان بالنسبة للمنظومة بشكل عام وليس للحراك أن الفرقاء المتشاكسون بمجملهم تملك قيادهم طهران، بقي استثناء وإن كان ضعيفا فإنه استثناء وارد وهو أن تخلع جهة مسلحة ما سواء ولائها من إيران إلى الاصطفاف مع الشعب والجهات التي يؤمل منها ذلك قد يكون جهاز مكافحة الإرهاب وبعض قطاعات الجيش وبعض القوات المحلية. وقد تعمد الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها مهندسة الفوضى الخلاقة إلى هذا الاحتمال شريطة أن تسيطر على مخرجاته بالاتجاه المرسوم له ووفق الرؤية الأمريكية، وهذا قد يكون مستبعدا حاليا في ظل التوترات التي تشهدها الساحة الأمريكية في ظل قرب الانتخابات المقبلة.


الاحتمالات الأربعة ونسبة بعضها قياسا على النسبة المئوية(نسب تقديرية من وجهة نظر كاتب هذه الدراسة...ممكن أن تصيب أو أن تخطئ)....

السيناريو الأول؛ 20%

السيناريو الثاني؛25%

السيناريو الثالث؛ 40%

السيناريو الرابع؛ 15%

 وبالتالي قياسا على ما تقدم فإن حقيقة كون الاحتمالات جميعها وارد في العراق تقول به مخرجات هذا البحث، وما أشارت إليه الدراسة بشكل عام يذهب إلى كون المتحقق من البحث الفرضية الثانية القائلة؛ في حال انحسار الحراك لصالح المنظومة مع ديمومة الحراك وبقاء فاعليته وتأثيره ففي الإمكان اللقاء في منطقة وسط، يتحقق من خلالها التغيير في الوجوه والأدوات، مع بقاء نفوذ وسلطة كبيرة للمنظومة أي أن يتحقق تغيير جوهري جزئي، مع احتواء خطر الصدام العنيف بينهما، بمعنى آخر يحقق الحراك بعض ما يصبوا إليه من تغيير جوهري وحقيقي ، وتبقي المنظومة بعض مكتسباتها القديمة وتحافظ على الحد الأدنى الباقي لها. بمعنى أن يحفظ الطرفان ماء الوجه بأقل الخسائر مع اعتبار بقاء التدافع والتنافس والصراع على المدى المتوسط والبعيد.









الخاتمة

 أهم النتائج والتوصيات التي توصلت لها هذه الدراسة الآتي؛

إن حراك 1/10/2019 محطة مفصلية وستشكل فارق في الحياة السياسية والأمنية وستغير من المنظومة بقدر ما مهما علا أو انخفض فقبل حراك تشرين لا يتكرر بعده بالضرورة.

انكشفت أدوات طهران ولم تعد تجدي نفعا خاصة الطائفية ومظلومية الشيعة والعزف على عواطف الشعب والسعي لإغراقه في مستنقعات الجهل والتخلف والفرقة كي يسهل قياده.

إذكاء الوعي عند العقل الجمعي العراقي نتيجة تراكم التجارب التي كشفت زيف ادعاءات نظام طهران في حرص علاقتها مع العراق كبلد جار وشقيق بل عمدت إيران على التعامل مع العراق كضاحية تابعة له.

يعد حراك تشرين مستقبل العراق المشرق فمن لم يجد له دور فيه اليوم قد يتعذر عليه أن يكون له دورا في بناء مستقبل العراق، وبالتالي التنافس على سوح الحراك اليوم على أشده بين حتى الجهات النفعية الضالة، فضلا عن شباب يجودون بأرواحهم كي يكون لهم وطن.

تأكد للعراقيين كافة أن العلاقات بين واشنطن وطهران لم تكن عدائية كما يظهر إعلام الطرفين، بل تكاملت فلولا طهران لما تمكنت واشنطن ومن احتلال العراق ، ولولا واشنطن لما تمكنت طهران من الهيمنة على القرار العراقي، حتى باتت بغداد مقر لاجتماعات سليماني والسفير الإيراني بالاتباع من كل لون وطيف.

 النجاح الحقيقي للحراك سينجح في إيجاد نظام يقدم مصالح العراق ويعمل من أجل رقيه ويعتبر حقوق الإنسان ويتكامل مع غيره على حساب تبادل المصالح لا على أساس التبعية لا لطهران ولا لواشنطن ولا غيرها من الفواعل الإقليمية والدولية.

علم الحراك العراقيين كيف يتقبلون الآخر من مواطنيهم كما هو لا كما يرغبون أن يكون فالهويات الفرعية والفكر والتوجه محترم شريطة أن لا يكون على حساب الآخر ، ولا أن يكون سببا في تحميل العراق والعراقيين من التبعات ما لا قبل لهم عليه.



الهوامش والمصادر

  • صلاح عبداللطيف، التدخل الإيراني في العراق,التأريخ والواقع والمستقبل ، https://www.ida2at.com/iranian-interference-in-iraq-history-and-the/
  • ينظر https://www.suhf.net/yemen/ .
  • الدستور العراقي، المادة 9، الفقرة ب.
  • شبكة أخبار العراق، خطة لتوأمة الحشد مع الحرس الثوري الإيراني،24/8/2017، http://aliraqnews.com .
  • علاقة حزب الله اللبناني بالعراق جاء صريحا على لسان حسن نصر الله في لقاء متلفز ذكر به بصراحة استنجاد القيادات العراقيه به لتزويده بمقاتلين قادة لهم خبرات وتجارب قتالية ميدانية، ويدل التخادم ما بين حزب الله وتنظيم داعش على صلة الطرفيين بإيران أضف إلى ذلك التصريحات والانتقادات الإيرانية التي تستهدف التحالف الدولي لقطعه الطريق على الحافلات التي تقل داعش بحماية حزب الله، ينظر د.عمر عبد الستار،الاتفاق القنبلة، مركز العراق الجديد، https://www.newiraqcenter.com/ .
  • مصطفى فحص، ماتيس في بغداد هل يقلم أظافر طهران، موقع المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، 22/2/2017، https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/ .
  • ينظر https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/5395d426-a6b5-4896-8c42-82201e80f8cf .
  •  د. قيس العزاوي، اخبار الخليج البحرينية : : 2005-05-31 ، أزمة بين الرئاسة والدكتور إبراهيم الجعفري بسب اطلاق سراح الإيرانيين المعتقلين،

http://www.iraqcenter.net/vb/showthread.php?t=13273

http://khaleej.online/15XXay ا لخليج أون لاين.