الذكاء الصناعي وحتمية الحرب بين الولايات المتحدة وايران...

 

الذكاء الصناعي وحتمية الحرب بين الولايات المتحدة وايران...

 د. مهند العلام           اصل المقال كتب لاحد مراكز الأبحاث المرموقة في حزيران 2019، حين اسقطت ايران طائرة درونز امريكية كانت تحلق فوق مياه الخليج العربي، اذ مر الخبر سريعا في وسائل الاعلام، واهتم المختصون به لكونه الشرارة التي اطلقت الحرب بين الولايات المتحدة وايران، في ظل الخلاف الدائر بينهما على برامج ايران النووية والصاروخية والارهابية.            لكن هذه الحرب ستندلع بصورة حتمية بصورة او بأخرى، وان اختلفت الشرارات هنا وهناك، ومهما حاولت الاطراف الدولية والاقليمية والمحلية واللوبيات فض هذا النزاع، وحتى لو تراجعت ايران عن طموحاتها النووية والارهابية، او حتى لو اوقفت الولايات المتحدة عقوباتها، فان الحرب بينهما ستندلع، ليس بسبب الظروف السياسية والعسكرية والنووية فحسب، وانما بسبب شيء جديد اخر بدأ اليوم بالظهور والتفوق، وسيغير وجه العالم من جديد وهو الذكاء الصناعي. معرفة العصر الذي نعيشه اليوم، يجعلنا نؤكد على هذا الامر، والعصر الذي نعيشه هو عصر الذكاء الصناعي، ولعل قائل يقول، وما هي علاقة بين الذكاء الصناعي والآلات وبين الحرب الايرانية الامريكية - الاسرائيلية المرتقبة، بل وما هو المنطقي في الجبهة الرقمية اليوم حتى يجعل فرص الحرب اكثر من فرص السلام. عرفت البشرية الصناعة منذ امد بعيد، لكن الثورة الصناعية غيرت شكل العالم الى الابد في القرنين الماضيين، واصبح التصنيع يعني التغيير والتقدم التقني والاجتماعي والثقافي في مستقبلنا القادم، وتأثير الصناعة على الانسان واضح بشكل ظاهر على المستويات المعيشية والفكرية بشكل اساسي، وعلى موضوع الحرب والسلام أيضا. ففي بداية القرن الماضي حينما تحققت الثورة الصناعية الاولى، والتي بدأت بالبخار والمكائن التي تعمل بالوقود الاحفوري، وتم انتاج الحديد والصلب، تغير وجه العالم وبدأ الانسان ببناء ناطحات السحاب وتغير شكل المدن وحياة الناس، بحيث ادت ضرائب واردات الصلب الى ان تكون السبب الاساسي الذي جعل الولايات المتحدة الامريكية تدخل الحرب العالمية الاولى 1914-1918 تحت ذريعة تطبيق مبادئ ويلسون في السلام وتطبيق سياسة الباب المفتوح. بعد ذلك بسنوات وحينما انتقلت الثورة الصناعية الى مرحلة متقدمة اخرى، وبدأت العلوم بالتطور وخاصة بروز الفيزياء الكموميةQuantum والتي وفرت وصفًا للخصائص الفيزيائية للطبيعة على مقياس الذرات والجسيمات دون الذرية وبسببها تغير فكر وشكل العالم من جديد حين ظهرت القنابل الذرية، بعد دخول الولايات المتحدة الامريكية الحرب العالمية الثانية 1939-1945 وان كانت لأسباب سياسية وعرقية آنذاك. ثم جاء عصر الاتصالات والتواصل وبداية الثورة الصناعية الرقمية، وظهرت الكومبيوترات الشخصية والمعالجات والاتصالات الخليوية، فتبدل وجه العالم مرة أخرى، فجاءت حرب الكويت 1991. اذ كان للعراق آنذاك جيش يعد الثالث عالميا من حيث الكتلة البشرية والعدة والعتاد التقليدي لكنه يفتقر الى أنظمة التواصل الحديث فكان الميدان المناسب لتجربة تلك التقنية الجديدة. وحين انشئ لأول مرة العالم الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي، انخرطت الولايات المتحدة في حرب العراق عام 2003 تحت ذريعة نشر الحرية والديمقراطية، وازدهر عصر التواصل الاجتماعي والصناعي التقني. واليوم هنالك ثورة يشهدها العالم هي ثورة صناعية مختلفة وجديدة هي ثورة الذكاء الصناعي وعصر الآلات الذكية، وهو ما سيعجل باندلاع الحرب الجديدة مع ايران، الكتلة العسكرية التقليدية والتي تمثل البيئة المناسبة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، اذ تتجه التكنلوجيا الى اشياء جديدة لم يكن دخولها متخيلا من قبل، وافضل ميدان لتجربتها هي ميادين الحروب حيث يتميز الاتقان عن المألوف والسائد.فجاءت حرب غزة وتوريط أهلها كونها الميدان التجريبي الأمثل لتطبيق تلك التقنيات ، ومن ثم تطبيقها على مدى أوسع مع ايران وميلشياتها المتفرقة. لقد عملت البشرية اليوم على صناعة واختراع اشياء ستتفوق على اعمال الانسان، فاليوم اختفت العوائق وازدادت العوامل المساعدة لانطلاق الذكاء الصناعي بجيله الجديد، وبدأت مرحلة جديدة وهي مرحلة تفرد الالة. في السابق كانت الكومبيوترات تحلل المعلومات التي تصل اليها بقدر ما يريده الانسان، اما اليوم فقد اصبحت الآلات وبفضل البيانات المتعددة المخزونة طيلة العقود الماضية، قادرة على التعلم، اي اصبح عقلها "هيولانيا" يشبه عقل الانسان، وان اختلف التقنيون في اي مرحلة قد وصل اليها، فبعضهم يقول ان الذكاء الصناعي لازال في طور الطفولة، ولكن كثير منهم آخر يقول ان الذكاء الصناعي قد وصل اليوم الى مرحلة البلوغ والرشد، وبالتالي اصبح قادرا لان يصدر التقارير والمناهج والاوامر لعمل الانسان نفسه مع مراعاة الوقت والمال. وبفضل منظومات الانسان الثقافية هذه اصبحت الآلات مختلفة تماما عن السابق، اذ اصبحت الآلات الذكية متفوقة على الانسان كميا وقابلة لإدارة كل شيء، لان الهدف منها هو حل جميع مشاكل الانسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعتقادية بأعلى كفاءة ممكنة، فيصبح AL هو "الاله" كعادة الانسان في صنع الهته على طوال القرون التي خلت، ويندمج الذكاء الصناعي مع الذكاء البشري الفردي لدرجة انه قد لا توجد اية فروق بينهما. وسيظهر مبدأ التنافس البشري مع الآلات والذكاء الصناعي، فمن حيث الأداء، وسوف تتفوق الالة على الانسان، فالتقنية الذكية هي التي تحدد الانماط والاولويات ولذلك لا تحتاج الى الانسان، لكننا لا نعرف حتى اليوم مدى العلاقة التي يجب ان يصل اليها الذكاء الاصطناعي مع المجتمع، والمدى الذي ستصل اليه التكنلوجيا في حياة الشعوب في المستقبل. الحواسيب والأنظمة الرقمية والمعلومات لن تغير طريقة عيش الانسان فحسب، بل ستغير الناس انفسهم، فالعلاقة بين الناس والآلات كانت في الماضي وسيلة للتواصل ولتقريب بعضهم ببعض، لكنها اليوم شريكا لنا.  اليوم اصبح الكثير منا يخلط بين العالم الافتراضي والعالم الحقيقي، واليوم تبرز اسئلة في غاية الاهمية، كتحديد السلطة بين الانسان والالة، ومنْ يسيطر على منْ، الانسان ام الالة، ومسالة المراقبة بين الانسان والالة، ومن هم الفائزون ومن هم الخاسرون في هذه المواجهة او المنافسة، ومن له الحق في امتلاك البيانات والمعلومات.. او ان هذا موضوع مشترك بينهما. والانسان اعلى مستوى للقيمة بشكل عام، رغم ان هذه القيمة مختلف عليها، حيث تختلف هذه القيمة بين نظر المهندسين والفلاسفة، فالمهندس يرى ان قيمة الالة الكاملة المنجزة للأعمال بصورة تصل الى الكمال هي اعلى من الانسان الذي قد يخطئ في عمله في وقت ما، بينما الفيلسوف يرى ان الانسان أيا كانت حالته هو اعلى قيمة من اية آلة يصنعها. اليوم الرقمية ستدمر كل شيء لدينا، فالصراعات الاجتماعية والسياسية اصبحت مرتبطة بالتطور التكنلوجي، فالوظيفة اصبحت مرتبطة بالعيش واختفاء الوظائف تعني البطالة. اذ اصبح العمال اليوم اقل عددا واقل قيمة في المجتمع الانتاجي الصناعي، اي ان الاتحادات النقابية العمالية لا تتمتع بالقوة نفسها التي كانت عليها في القرن الماضي، واليوم صار التأثير على الطبقة الوسطى اكبر خاصة على الذين يمتلكون تعليما جيدا لكنهم سيبدؤون بترك وظائفهم بسبب الآلات الذكية، وهذا ما سيهدد الوظائف والاستقرار الاجتماعي، ويزيد من الظلم الاجتماعي والفساد والهدر والاستثمارات وتبييض الاموال. لكن العمل والوظيفة مسالة في غاية الاهمية لدى بعض الشعوب الحية، ففي بعض تلك البلاد، يكون من المشرف للإنسان ان يكون له وظيفة، اذا ان الانسان اذا لم يساهم في المجتمع فلن يكون جزء منه، وان الشعوب هي التي تنتج ثروتها وقيمتها، وهذا يوجب تحرك وعمل الشعوب، وبالتالي اصبحنا نحمل معنا اعمالنا اينما نسافر هذا اليوم. وهنا سيصبح الانسان بلا فائدة اذا تخلى عن عمله وابداعه وحسه وثقافته البشرية وحرية التعبير، وهذه الاسس هي التي ستجعل الانسان يتفوق في صراعه مع الذكاء الاصطناعي، فنحن اليوم نعيش بمرحلة الاستفادة من كل شيء بقوة الاقتصاد، وهذه عملية تحول مؤلمة. وكل ثورة تحدث صراعا، وثورة الذكاء الصناعي ستحدث صراعا مهولا هذه المرة، فالآلات هي الجنود وهي القيادة وهي التي ستختار الاسلحة، وهي التي ستختار الاهداف، وهي التي ستحسم المعارك، والذي سيرسم الذكاء الاصطناعي دورها في ادارة الحرب القادمة. وستقوم الآلات الذكية بالمراقبة والسيطرة والحرب الالكترونية والتشويش وصد الهجمات المعادية بطريقة ذكية ودون خسائر بشرية تذكر. وهذا ما رأيناه ونراه في حرب الشرق الأوسط واوكرانيا الجديدة. ففي حرب أوكرانيا الأخيرة، رأينا كيف استخدمت الطائرات المسيرة (الدرونز) وأنظمة الحرب الإلكترونية بشكل لم يكن متخيلًا قبل سنوات قليلة، مما أظهر بشكل عملي كيف يمكن أن تتغير معالم الحروب بفضل التقنيات الذكية. وهذه الحرب كانت بمثابة مختبر حي لتقنيات الذكاء الصناعي في العمليات العسكرية. في الحرب الامريكية الايرانية القادمة، ستكون الآلات الامريكية بمواجهة المليشيات الشيعية والتي لا تمتلك سوى عقائدها بالموت في سبيل قادتها، وكتلتها الصاروخية والعسكرية التقليدية، اذ ستقوم الآلات الذكية كطائرات الدرونز والصواريخ باختيار الاهداف، وهي التي ستحدد نوع الضربة، وكمية العتاد، ونوع الذخيرة المستخدمة، وستقوم الآلات الذكية بالمراقبة، والتحقق على تنفيذ الاهداف، وستقوم باختيار سير المعركة ومكان وزمان القتال، وسيتم تقليص استخدام الجنود البشريين الى اقصى حد ممكن، وبذلك تكون التكلفة البشرية اقرب الى المعدوم، لان المليشيا الايرانية بالتأكيد ستبحث عن اهداف بشرية ولن تجدها في ساحة القتال. فهل يمكن أن نصل يومًا إلى نقطة تكون فيها الحروب بالكامل مُدارة من قبل الآلات دون تدخل بشري؟ وهل سيُسلب القادة العسكريون القدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية لصالح ذكاء صناعي قادر على التفكير بسرعة ودقة تفوق البشر؟ تخيلوا عالماً تُسيطر فيه الآلات على ساحات القتال، حيث يجلس الجنرالات خلف شاشاتهم يشاهدون جيوشاً من الطائرات دون طيار والروبوتات تتخذ قراراتها الذاتية في ثوانٍ، فتقضي على الأعداء قبل أن يدركوا حتى أنهم في خطر. لكن التحدي الاكبر الذي يواجه العالم اليوم، لن يقتصر على علاقة الذكاء الصناعي مع انترنت الاشياء، والذي ستكون نتيجته الرقمية واضحة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والبورصة وعالم الاعمال والمصارف فحسب، وانما يتعدى لما هو اخطر من ذلك، اذ امست الآلات جميعا ممن تمتلك بطاريات وقدرة على الاتصال بالأنترنيت قنابل موقوتة يتحكم بها الذكاء الاصطناعي في أي وقت تنفجر وهذا ما رأيناه بالأمس في بيروت. كذلك تقوم شركة غوغل بتجميع مواد وبيانات التقاليد الدينية والطقوس واحكام العبادات للأديان الكبرى ومنها الاسلام، اذ بدأت تفكر بكيفية الاستفادة من بيانات الاديان الكبيرة السائدة في العالم اليوم، لكي تصبح الاحكام الدينية تابعة للذكاء الصناعي، لتحويلها الى ما يشبه اية سلعة قابلة للمساومة والبيع والشراء، بمعنى اتمتة الافكار والعقائد، لإيجاد ما يناسب الانسان منها في مكانه وزمانه، وهذا سيكون التحدي القادم الذي ستواجه البشرية عن قريب.