ظاهرة الحرب التي دارت بين حزب الله وإسرائيل يمكن تحليلها من خلال منهج العوامل المحلية و الإقليمية والدولية التي تتداخل في هذا الصراع و التي تؤثر فيه بدرجة ملحوظة. حزب الله والداخل اللبناني: كما يقول وليد جنبلاط زعيم الدروز "عبارة عن تسوية وهو مجموعة قوى سياسية وطوائف و منذ تاريخ إنشاءه تعتمد هذه الطوائف على قوى خارجية لدعمها" .
يمثل لبنان منطقة رخوة يمكن عندها تتقاطع الإستراتيجيات الإقليمية و الدولية بل تتصارع حتى يستطيع كل فريق الحصول ليس على ما يريده كله و لكن وفق معادلات تتوقف على من يحسن استغلال كل مفاصل القوة لديه و يترجمها لمكاسب سياسية .
كانت المعادلة اللبنانية منذ استقلاله هي التوازن بين الطائفتين الرئيستين في ذلك الوقت و هي الطائفة السنية والمارونية مع احتفاظ المارون بشيء من الترجيح و كان الشيعة ذو نفوذ محدود نظرا قلة عددهم و هامشية هذا العدد و هذا التوازن بطبيعة الحال يقتضي التوافق بين القوى الداعمة لهما وهما فرنسا الداعمة للمارون و سوريا و من وراءها الدول العربية الرئيسية كمصر و السعودية كداعمين للسنة.
و لكن في أواخر الستينات و أوائل السبعينات حدث تخلخل في هاتين الدعامتين التين تحفظان للبنان الاستقرار وهو التوازن بين الطوائف و تغير موازين القوى الداعمة.
ففي الخمسينات و بداية الستينات لاحظت الزعامة المارونية المسيطرة أن هناك خللا ديموغرافيا على وشك الحدوث فأعداد السنة في لبنان في ازدياد كما أن اللاجئين الفلسطينيين يزدادون أيضا نتيجة التهجير القسري من فلسطين و هؤلاء محسوبون بطيعة الحال على قوة أهل السنة فعملت القيادة المارونية على موازنة السنة بسماح بهجرة أعداد متزايدة من الشيعة الإيرانيين إلى لبنان بل إعطائهم الجنسية حتى أن موسى الصدر الذي تبوأ الزعامة الشيعية بعد ذلك في لبنان أصله إيراني و أعطيت له الجنسية اللبنانية .
و في نفس الوقت حدث تخلخل في القوى الداعمة مع وصول حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا و تخوفه من انتقال المقاومة الفلسطينية بسلاحها وعتادها بعد مجازر أيلول في الأردن كما انشغلت مصر بمعركتها مع إسرائيل و تراجع نفوذها السياسي في الوطن العربي كما تراجع النفوذ السعودي كثيرا في أعقاب اغتيال الملك فيصل .
كل ذلك أدى إلى نشوب الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 حيث شارك الشيعة السنة على مضض في قتال المارون ولكن بمجرد ان تدخلت سوريا انقلب الشيعة ليقفوا في صف سوريا و المارون . ومكن منظمة التحرير الفلسطينية إلى إعادة بناء قوتها الأمر الذي دفع القوات الإسرائيلية إلى اجتيح لبنان عام 78 ثم كان عام 82 و التي تمكنت فيه من كسر شوكة السنة في لبنان بإخراج الفلسطينيين المسلحين من لبنان و في هذه اللحظة في لحظة انكسار السنة ولدت منظمة حزب الله الشيعية .
دشن حزب الله ميلاده بتوجيه ضربات للقوات الأمريكية و الفرنسية التي دخلت لبنان لتعزيز الوجود الإسرائيلي أي أن وجود حزب الله و إعلام الناس بوجوده تم عن طريق الهجمات الانتحارية و الهجوم المباشر و المباغت و لازالت هذه الخصائص تميز عمليات حزب الله و إستراتيجيته حتى الآن .وخلافًا لمعظم الأحزاب الإسلامية بدأ حزب الله كمقاومة سرية ضد الاحتلال قبل أن يعلن لاحقًا عن وجوده السياسي، بينما نشأت معظم الأحزاب الإسلامية الأخرى كمنظمات علنية أصبح لها لاحًقا ذراع عسكري - كما هو الحال على سبيل المثال مع كتائب عز الدين القسام في فلسطين المحتلة [الجناح العسكري لحركة حماس] - و هذا جعل أهداف الحزب دائما سرية و يشوبها الغموض حتى الآن.
أمر آخر يميز نشأة هذا الحزب هو الدور الأهم لإيران في تكوينه يقول نائب الأمين العام لحزب الله، قاسم نعيم: كان هناك مجموعة من المؤمنين ... تفتحت أذهانهم على قاعدة عملية تركز على مسألة الولي الفقيه والانقياد له كقائد للأمة الإسلامية جمعاء، ولا يفصل بين مجموعاتها وبلدانها أي فاصل وذهبت هذه المجموعة المؤلفة من تسعة أشخاص إلى إيران ولقاء الإمام الخميني وعرضت عليه وجهة نظرها في تأسيس و تكوين الحزب اللبناني، فأيد هذا الأمر وبارك هذه الخطوات أي أن المجموعة المكونة للحزب أخذت الموافقة عليه من إيران قبل التكوين . وبعد انسحاب القوات الأمريكية و الفرنسية من بيروت و تمركز الجيش الإسرائيلي في الجنوب اللبناني الذي أخذ يبحث عن من يقوم بدور حراسة حدوده الشمالية و من يثق به في الطوائف اللبنانية فالمارون أثبتوا فشلهم و هو بالطبع لا يثق بالسنة لأنهم حليف طبيعي للفلسطينيين فلم يجد غير الشيعة ولذلك تنافس حزب الله و حركة أمل و هم أهم حركتين داخل الطائفة الشيعية على لعب هذا الدور و إثبات الكفاءة للإطلاع بهذه المهمة و من هنا جاءت مذابح مخيمات صبرا و شاتيلا في منتصف الثمانينات و التي قامت بها حركة أمل على أمل أن تعترف بها إسرائيل لقيادة الشيعة و التمركز في الجنوب لحماية الحدود و نظرا لعوامل كثيرة فإن إيران فضلت حزب الله ليقود الشيعة ومن هنا انسحبت كوادر حركة أمل و انضمت إلى حزب الله ليشكل الطرف الأكثر ثقلا داخل الطائفة الشيعية.
و مع حسم المعركة داخل المعسكر الشيعي ازداد اعتماد الأطراف الخارجية المختلفة عليها لأنها البديل المقبول عن المارون لقيادة لبنان و جاءت حرب الخليج عام 1991 لتحسم سوريا الوضع في لبنان لصالحها بإشارة أمريكية كثمن للتحالف معها ضد العراق وكانت أواخر الثمانينات و بالتحديد عام 1989 قد شهد توقيع اتفاق الطائف والذي سلب بعض القوة من الطائفة المارونية و لكنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا بعد أن سيطرت القوات السورية على جميع لبنان عام 1991 ومنذ ذلك الوقت شهد حزب الله تحولات كبيرة على صعيد صورته الإعلامية .فقبل عام 1991 وطوال عقد الثمانينات لم يخف الحزب صفته الإيرانية عن فكره تنظيمه و فكره فهذا تصريح لحسن نصر الله يقول فيه إنّ المرجعية الدينية هناك ـ في إيران ـ تشكل الغطاء الديني، والشرعي، لكفاحنا ونضالنا ويقول إبراهيم الأمين الناطق باسم حزب الله لصحيفة النهار بتاريخ الخامس من مارس عام 1987 نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران.
ولكن بعد الطائف و ازدياد اعتماد القوى الإقليمية سواء إسرائيل و سوريا و إيران على الحزب في تنفيذ إستراتيجيتهم في لبنان بدأ الحزب يحاول الانخراط في الحياة السياسية و يحاول إظهار نفسه باللون اللبناني واتخذ كذلك أشكالا عدة منها تغيير شعار العلم الخاص به من الثورة الإسلامية في لبنان إلى المقاومة الإسلامية في لبنان وشارك الحزب في الانتخابات وترأس الحزب في هذه المرحلة من هو أقدر على تنفيذ هذا المخطط وان يظهر بصورة المعتدل و ليس المتطرف و من هنا كان استبدال صبحي الطفيلي بحسن نصر الله .
و لم يأت عام 2000 إلا و سوريا و الشيعة قد أحكما سيطرتهما على لبنان و حينئذ رأت إسرائيل أن تنسحب من لبنان بعد أن استقر الوضع في لبنان باحتلال حزب الله الجنوب وسيطرته على الحدود لتأمينها وفي نفس الوقت كان الوضع السياسي على ما يبدو في السطح مستقرا للسوريين و لكن لم ينتبه الكثيرون لدخول لاعب إقليمي جديد وهي إيران. وبقيت معضلة بالنسبة للحزب و حلفائه وهي المبرر للتمسك بسلاحه فاهتدى جميل السيد الشيعي وهو أحد أقطاب الأمن اللبناني الموالين لسوريا إلى وضع مزارع شبعا وأنها لازالت محتلة مع العلم بأن هذه المنطقة تنتمي حدوديا إلى سوريا .
و لكن التوازن في لبنان لا يتحقق كما أسلفنا إلا بوجود شرطين التوازن بين الطوائف الرئيسية و توازن القوى الداعمة الإقليمية. فالسنة في لبنان شعروا بالغبن فهم الطرف الأكثر خسارة بعد انتهاء الحرب الأهلية وحصتهم في الحكم لا تتناسب مع نسبتهم من السكان و مع بروز زعامة رفيق الحريري الذي استطاع أن يفهم معادلات الساسة الإقليمية والدولية و يصعد لسلم رئاسة الوزراء بدعم سعودي تمكن الحريري من إعادة التوازن قليلا تجاه السنة وبعلاقاته طيبة مع المارون و الدروز وغيرهما من الطوائف أدرك الحريري أن ميليشيا حزب الله هو العائق الكبير في سبيل استقلال لبنان لذلك استغل علاقاته الإقليمية والدولية للحد من نفوذ هذا الطرف في لبنان وانتهى الصراع بمقتل الحريري لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ حزب الله وعلاقاته بالدولة اللبنانية .
في فترة ما بعد اغتيال الحريري تعرضت سوريا لضغوط دولية شديدة أدت إلى انسحابها العسكري من لبنان وجاء الدور على حزب الله ليدفع الثمن و هو نزع أنيابه أو أسلحته وكانت الإستراتيجية التي اتبعها الحزب لمقاومة هذه الضغوط ترتكز على عدة أسس :- تهديدات بمقاومة من يحاول نزع سلاح حزب الله .- تنظيم احتجاجات مضادة غمرت شوارع بيروت .- تعزيز العلاقات الإقليمية خاصة مع إيران وسوريا .- الدخول في مفاوضات سياسية مع قيادات الطوائف والزعامات السياسية الأخرى .
و الأخيرة في دوافع حزب الله في حربه الأخيرة فهذه المفاوضات يبدو أنها كانت لا تسير في اتجاه يرضي طموح حزب الله و خاصة ما يتعلق بالثمن الذي يريده لكي يتخلى عن سلاحه و يبدو أن الحزب يريد دورا أكبر للطائفة الشيعية في لبنان مماثل لدورها في العراق وهو لم ترض به الطوائف الأخرى و لعل هجومه على إسرائيل وإلحاقه الضرر بالمدن الإسرائيلية مكن الحزب من تطبيع الوضع الذي يريده و الذي يسعى إليه في تركيبة الحكم اللبنانية وخاصة أن هذا الوضع سيكون مؤيدا دوليا وإقليميا كثمن لنزع سلاحه.
وتتحدث تقارير صحفية نشرت مؤخرا عن اجتماع جرى وبعد أسابيع من الحرب بين قيادات من حزب الله وأخرى من الحرس الثوري الإيراني وتم التباحث حول وضع خطة تهدف إلى جر الجيش اللبناني إلى معركة مكشوفة مع إسرائيل او مع ما يوصفون بالجماعات الاصولية المتطرفة بهدف تدمير هذا الجيش بحيث يسهل للضباط الموالين لحزب الله داخل هذا الجيش من فرض سيطرتهم عليه و القيام بما يشبه الإنقلاب العسكري لدعم تحرك حزب الله للسيطرة على الدولة .
وربما يندهش كثيرون من حقيقة أن هناك تعاوناً بين إيران والولايات المتحدة؛ وحقيقة العلاقة بين الطرفين هي ان الحقائق المغيبة هي التي تمثل حقيقة التفاهم الأمريكي الإيراني، وهنا لاندعي لنظريات المؤامرة التي راجت لسنوات خلت الا اننا في هذا المجال وهذه القضية بالتحديد لا يمكن لنا من فهم العلاقات الإيرانية الأمريكية في الخمسة والعشرين سنة الأخيرة إلا بقراءة كتاب [رهينة خميني] الذي ألفه [روبرت كارمن درايفوس] وهو باحث فرنسي متخصص في الشؤون الاستخبارية شغل في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات مدير قسم الشرق الأوسط في مجلة [أنتلجنس ريفيو]، وهذا الكتاب الذي تم تأليفه وطبعه في عام 1980م، ونسخه المتداولة قليلة جداً، ولا ندري لماذا لم يطبع مرة أخرى بعد ترجمته في أوائل الثمانينيات؟ الا انه بعد استعراض الأدلة الكثيرة يخلص الكتاب إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر قد قام بتعمد هادئ وتدبير مسبق خبيث على حد وصف المؤلف لمساعدة الحركة الإسلامية التي نظمت الإطاحة بشاه إيران، واشتركت إدارة كارتر في كل خطوة ابتداءً من الاستعدادات الدعائية إلى تجهيز الأسلحة والذخيرة، ومن الصفقات التي تمت خلف [الكواليس] مع الخونة في جيش الشاه إلى الإنذار النهائي الذي أعطي للزعيم المهزوم في يناير 1979م لمغادرة إيران.
ويمثل هذا فصلاً آخر من فصول الخيانة التي مارستها الدوائر الحاكمة في التاريخ السياسي للولايات المتحدة. وعند رصد التعاون الأمريكي الإيراني في السنوات الأخيرة لا يفوتنا التنسيق الجاد والهادف بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية حول أفغانستان وبالتاكيد في العراق ايضا. وهو ما لم ينفه الإيرانيون فحسب، بل أكَّدوه أيضاً. وبعدها طلب الطرف الإيراني من الطرف الأميركي علناً بأن يحفظ الجميل الإيراني لقاء الخدمات التي قدَّمها في رحلة احتلال أفغانستان التي وصلت إلى درجة توفير طائرات تنقل أنصار التحالف الشمالي ضد طالبان إلى خطوط الجبهة الأمامية.
كذلك عرفت إيران أنها لا تستطيع أن تغزو العراق وأن تفوز به، فتعين أن تقوم بهذا قوة أخرى. وكان عدم قيام الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله في عام 1991م قد سبب خيبة أمل هائلة لإيران. والحقيقة أن السبب الأولي لعدم قيام الولايات المتحدة بغزو العراق آنذاك كان معرفتها بأن تدمير الجيش العراقي من شأنه أن يجعل من إيران القوة المهيمنة بين القوى المحلية في الخليج العربي. وكان من شأن غزو العراق أن يدمر توازن القوة العراقي ـ الإيراني الذي كان الأساس الوحيد لما اعتبر استقراراً في المنطقة. أما تدمير النظام العراقي فلم يكن من شأنه أن يجعل إيران آمنة فحسب، وإنما كان من شأنه أيضاً أن يفتح آفاقاً لتوسعها. فالخليج العربي ـ أولاً ـ مليء بالشيعة، وكثيرون منهم متوجهين صوب إيران لاعتبارات دينية.
فعلى سبيل المثال إن منشآت تحميل النفط السعودي تقع في منطقة غالبيتها الساحقة من الشيعة. وثانياً: ليست هناك - دون الجيش العراقي الذي يقف بالمرصاد لإيران - قوة عسكرية في المنطقة يمكنها أن توقف الإيرانيين والذين باستطاعتهم أن يصبحوا القوة المهيمنة في الخليج العربي.
أما في غزو العراق الأخير فقد سبقت الحرب جلسات ولقاءات سرية عقدت في عدة عواصم أوروبية بين ضباط إيرانيين ونظرائهم الأمريكيين كذلك عبر الضغط على حلفائها من الشيعة العراقيين للتنسيق مع الولايات المتحدة. وتشير مصادر صحفية أن هناك مجالاً مفتوحاً للحوارات والجلسات السرية بين الولايات المتحدة وإيران بخصوص العراق والتي كانت تُعقد ويديرها رفسنجاني من إيران، والدكتور ولاياتي من الإمارات العربية المتحدة والسفارة الإيرانية في الكويت.
ولم تكن زلة موقف أن تطلب الإدارة الأميركية من الحكومة الإيرانية أن تكون وسيطاً مع مقتدى الصدر لمعالجة التداعيات في النجف وكربلاء. ووصل الغزل الأمريكي الإيراني في العراق إلى حد ما صرح به نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم إرلي الذي نفى فيها تورط إيران فيما يجري في العراق.
أمريكا وإيران تلتقيان على جامع مشترك هو الخلاص من أي مقاومة مسلحة سنية على الساحة العراقية، ويبقى أن طهران تريد:
1 - قناعة أميركية بدور إيراني سياسي وأمني في العراق.
2 - لا بأس من إلزام إيراني بجنوب العراق؛ حيث العناصر المؤثرة محلياً والاستخبارات الإيرانية فعالة هناك.
تشير التقارير الى ان أمريكا هي من أعطت الضوء الأخضر للنفوذ الإيراني، وهناك وثائق مرعبة، وبعضها سُلّمت للأمم المتحدة، ومنها مثلاً أن هناك ضباطاً إيرانيين يحققون مع المقاومة العراقية داخل معسكرات أمريكية،. ولكن فجأة حدث توتر في العلاقات بين الحليفين الإيراني والأمريكي في العراق، وأعقبه اغتيال الدبلوماسي الإيراني في العراق؛ فما الذي حدث وأدى إلى هذا الخلاف؟
ان تحليل الدور الذي قام به أحمد الجلبي في العلاقات الإيرانية الأمريكية، والذي كشف عنه عديد من الصحف الأمريكية والغربية. التي تشير إلى أن الولايات المتحدة تعرضت للاستغلال من جانب إيران مستخدمة الجلبي أداة في ذلك لدفعها إلى غزو العراق، وكان المعنى الضمني لهذا أنه كان من شأن الولايات المتحدة أن تختار مساراً آخر لولا حملة المعلومات المغلوطة من الجلبي. ولكن للولايات المتحدة أسبابها الخاصة لغزو العراق، وان المصالح الأميركية والإيرانية لم تكن شديدة التباعد في هذه الحالة. حيث «إن استراتيجية إيران مع الولايات المتحدة تعتمد إنه إذا ما تعرضت الولايات المتحدة لمتاعب في العراق فإنها ستصبح معتمدة إلى أقصى درجة على الإيرانيين وحلفائهم الشيعة، وإذا ما هبّ الجنوب العراقي الشيعي فسيصبح مركز الولايات المتحدة حرجاً في العراق؛ لهذا استغلت ايران هذا الوضع لتضمن صعود النفوذ الشيعي صعوداً كبيراً قبل أن ينسحب الأميركيون. وكانت مهمة الجلبي أن يعطي للأميركيين مُسوّغاً للغزو، وهو ما فعله بحكاياته عن أسلحة الدمار الشامل، ومهمة أخرى كانت اكبر اهمية منها وهي حماية جانبين دقيقين من المعلومات لدى الأميركيين وهما:
الأول: كان عليه أن يحمي المدى الذي وصل إليه الإيرانيون في تنظيم الجنوب الشيعي في العراق.
والثاني: كان عليه أن يحمي أية معلومات عن خطط صدام حسين لشن حملة حرب عصابات بعد سقوط بغداد، وان هذين ألامرين دقيقان جدا وخافيين عن كثير من المحللين، وإذا أُخذا بجملتهما فسيكون من شأنهما أن يخلقا حالة الاعتماد الأميركية التي تمس حاجة الإيرانيين إليها.
بالنسبة للولايات المتحدة فإن لها سياسة معروفة تستخدم فيها خطوط الصدع بين أعداء محتملين لإحداث انقسام بينهم، فتتحالف مع الأضعف ضد الأقوى وإن خط الصدع في العالم الإسلامي هو بين السنة والشيعة، فالسنة المجموعة ألاضخم بكثير [عددياً] من الشيعة، وانتهاجاً للإستراتيجية الكبرى الأميركية يذهب المنطق إلى أن حل المشكلة هو بالدخول في تحالف من نوع ما مع الشيعة، ومفتاح الدخول إلى الشيعة هو الدولة الشيعية الكبرى إيران.
لكن ثمة شيء واحد كان يعرفه الجلبي ولم يخبر الأميركيين به هو أن صدام حسين سيشن حرب عصابات. وبشأن هذه النقطة لا يوجد أي شك في أن البنتاغون قد فوجئ، والأمر أهمه كثيراً».« فلم يشارك الجلبي بمعلوماته المخابراتية التي كان الإيرانيون يملكونها بالتأكيد؛ وذلك لأن الإيرانيين أرادوا أن يغرق الأميركيون في حرب عصابات؛ اذ من شأن هذا أن يزيد الاعتماد الأميركي على الشيعة وعلى إيران، ويسرِّع برحيل الأميركيين.
كانت المخابرات الإيرانية قد توغلت بعمق في العراق. وكانت الاستعدادات لحرب العصابات واسعة للغاية. وكانت إيران تعرف، وكذلك الجلبي. مع ذلك كانت الولايات المتحدة ستغزو، إنما كان يمكنها أن تستعد على نحو أفضل عسكرياً وسياسياً. ولم يبلغ الجلبي البنتاغون بما كان يعرفه، وقد أدى هذا إلى جعل الحرب مختلفة بدرجة كبيرة.
ولكن الشيء الأخطر هو أن هذه اللعبة لم تَرُقْ لوكالة الاستخبارات المركزية التي كانت تفهم أن الجلبي لم يكن حقاً مصدراً بالمعنى التقليدي للكلمة إنما كان مخلباً جيوسياسياً، إلا أنها لم تتصل بوزارة الدفاع بهذا الشأن حتى تواجه هذه الوزارة في العراق المشاكل.
ومن هنا أدركت الولايات المتحدة مدى المستنقع الذي جرتها إليه إيران بواسطة الجلبي في العراق لتدفعها إلى مزيد من الاعتماد على الشيعة العراقيين ومن ثم إيران، ولعل إقالة [تينيت] مدير وكالة المخابرات المركزية الامريكية في أعقاب هروب الجلبي إلى النجف ومساعده إلى إيران ومقتل مسئول الاستخبارات الإيرانية في العراق يصب في هذا الاتجاه.
و من أجل ذلك بدأت الإدارة الأمريكية مراجعة سياستها تجاه الشيعة بعدم وضع البيض كله في سلتهم وأخذت في التحرك نحو أطراف سنية عراقية بقصد جذبها للعملية السياسية وإعطاءها نصيب أكبر في كعكة الحكم في العراق على حساب الشيعة وهذا يفسر التصادم الأمريكي مع جيش المهدي حتى ردت تقارير أمريكية إن الإدارة مستعدة لإعطاء بعثيين من غير صدام حسين الهدية المنتظرة و هي جدولة مواعيد الانسحاب الأمريكي من العراق .
وفي الاجتماع الأخير لوزراء خارجية دول الجوار للعراق في أوائل شهر تموز الماضي ووفقا لتقارير إخبارية تسربت من هذا الاجتماع فإن الوزير الإيراني بلغ رفقاءه العرب أن المسألة العراقية باتت خارج أيديهم وأن العراق بات منطقة نفوذ إيراني ولا دخل للعرب فيه بل ان إيران مستعدة لمساعدة العرب في قضيتهم الأساسية وهي فلسطين بدون أن تطلب لنفسها شيئا .
و خرج وزراء الخارجية العرب وهم في حالة ذهول من الذي جرى, و هذا يفسر الاندفاع الرسمي العربي لتحميل حزب الله مسئولية حرب لبنان. ولذلك سارعت إيران في التحرك محاولة إظهار أوراقها في لعبة الشد و الجذب مع أمريكا فهناك النفط وخطوط نقله وهناك ورقة الانتحاريين الذي يمكن إرسالهم إلى دول مختلفة وإحداث المشاكل في هذه الدول وهناك أيضا أفغانستان و طائفة الهزارة الشيعية والصلة بين المخابرات الإيرانية وبعض زعماء الطاجيك وهناك أيضا شيعة الخليج والتأثير الإيراني عليهم وهناك الورقة العراقية وشيعة الجنوب بالإضافة إلى الورقة السورية فضلا عن الورقة الفلسطينية المتمثلة في دعم حماس بعد فوزها في الانتخابات وأخطر هذه الورقات على الإطلاق هي الورقة البنانية و حزب الله .
فاصبحت الولايات المتحدة الآن في مواقع الدفاع في الشرق الأوسط رغم جيوشها الضاربة في كل مكان ... فأميركا تحتاج إلى الاستقرار في العراق، وإلى الاستقرار في لبنان، وإلى الاستقرار في الخليج. و يشير أكثر المراقبون بأن صفقة يمكن أن تتم بين الطرفين، وأن الخلاف هو حول الأولويات و حسب بعض التقارير الإخبارية فإن الإيرانيين يريدون صفقة شاملة من النووي وحتى التفاصيل الاقتصادية والسياسية في شرق إيران وغربها وجنوبها وشمالها والأميركيون يفضلون الاتفاق على المسائل واحدة بعد أخرى من العراق وإلى لبنان .
وقد أوردت مجلة الشراع اللبنانية أن هناك اجتماع سري عقد في جنيف في سويسرا قبل العملية التي شنها حزب الله بيومين وبالتحديد يوم الاثنين العاشر من حزيران2006 و ضم الاجتماع مسئولين إيرانيين وأمريكان . و يبدو أنه حدث عرض الأوراق لكل طرف على الطاولة و بعدها حاولت إيران إثبات جدية أوراقها فكانت الساحة اللبنانية خير مكان لطرح جدارة أوراقها في سوق المساومة مع الولايات المتحدة ومن هنا نفهم الإصرار الأمريكي على نزع هذه الورقة الإيرانية بإصراره على مواصلة الحرب وحث إسرائيل على الضرب بقوة و حمايتها من أي تدخل دولي لوقف الحرب .
لذلك لم يكن الأمر من قبيل المصادفة أو الموافقة العرضية أن تبدأ إسرائيل وبتوجيه أمريكي حربها على لبنان, وتحديداً على حزب الله في لبنان, مع التحضيرات والاستعدادات الأمريكية في بغداد لضرب المليشيات الشيعية "الذراع الإيراني" في العراق، ضمن الخطة الأمنية الجديدة لبغداد في ضرب مراكز المقاومة في بغداد ككل, بعد فشل حكومة المالكي في نزع سلاح المليشيات خلال الشهرين الماضيين والإعلان عن مبادرة المصالحة الوطنية التي كان أحد بنودها حل المليشيات, فقد أعطى المالكي تفويضياً كاملاً للقوات الأمريكية لمعالجة ملف المليشيات, وإنهاء حالة الفوضى الأمنية التي تسود العاصمة بغداد بالإضافة إلى مدن الجنوب العراقي الذي تسيطر عليه هذه المليشيات.
ويبدو أن زيارة المالكي الأخيرة (التي تزامنت مع بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان) إلى الولايات المتحدة ولقائه بالكونغرس الأمريكي، والتي كانت بخصوص معالجة ملف المليشيات قد نجحت, وكما يبدو بعد أن اختار المالكي أن يكون وفياً لمن أوصله إلى الحكم، وهم الأمريكان، هو وحزبه بعد أن كانا طريدين لعقدين من الزمان خارج العراق إبان حكم صدام.
وقد كان التلويح بمصير حزب الله وما يواجهه من آلة الحرب الإسرائيلية, وبدعم أمريكي كامل والعزم على تفكيك بنيته التحتية ونزع سلاحه بالقوة. جاء القرار الأمريكي بإعادة نشر نحو 5500 جنديا أمريكيا في بغداد, بالإضافة إلى جلب ما يقرب ستة آلاف جنديا وشرطيا عراقيا للقيام بعمليات مباشرة ضد أوكار ما يسمى بـ"فرق الموت" التابعة لمليشيا الصدر والحكيم، هذا بالإضافة إلى استعداد القوات البريطانية في الجنوب لمثل هذه المهام. وفعلاً، شنت القوات البريطانية عمليات ضد هذه المليشيات في الجنوب, وكذلك بدأت القوات الأمريكية بعمليات في بغداد, وكان آخرها محاصرة مدينة الصدر وقصفها وقتل وجرح العشرات.
وقد قال الجيش الأمريكي أمس إنه قتل واعتقل نحو 441 من عناصر فرق الموت أو المرتبطين بهم وذلك في إطار خطة أمن بغداد الجديدة, لتأمين استقرار بغداد والحد من أعمال العنف المذهبية التي أدت إلى مقتل آلاف الأشخاص منذ بداية العام الحالي. وكانت المرحلة الأولى من الخطة الأمنية التي أطلقت في ايار2006 وشارك فيها نحو أكثر من خمسين ألف جندي فشلت في الحد من أعمال العنف الطائفية والسيطرة على التفجيرات.
وقد اعتبر هذا بداية لمرحلة "كسر العظم" لهذه المليشيات على أيدي القوات الأمريكية، بعد أن عجزت أو "تراخت" الحكومة العراقية عن تحقيق ذلك، وهو ما يبدو تماشياً ضمن مخطط كسر الأذرع الإيرانية في كل من العراق ولبنان, وللضغط على إيران كما يبدو لتقديم ما يمكن من التنازلات بخصوص ملفها النووي ونفوذها المتنامي في المنطقة.
صحيح أن هناك تعانقا وتحالفا واضحا بين المشروعين (الأمريكي والإيراني) في المنطقة، وأن الإيرانيين قد تحالفوا مع الأمريكان لإسقاط النظامين "طالبان وصدام"، إلا أن هناك تباينا في الأهداف، وهذا الاختلاف جعل الإيرانيين وحلفاءهم (الأحزاب الشيعية الموالية لهم) وهم في نشوة النصر وتحقيق المكاسب التي ما كانوا يحلمون بها في العراق, يخرجون عن الحدود والخطوط الحمراء، من خلال الإضرار بأهداف ومصالح الحليف، وهو ما أزعج الأمريكان لدرجة أوصلتهم إلى اتخاذ قرار المواجهة المسلحة ومرحلة كسر العظم،
فلم يكتف الشيعة بالنفوذ السياسي والسيطرة على الحكم ولأول مره في تاريخ العراق، على حساب السنة، وإنما راحوا يمارسون سياسة الاستئصال الطائفي "للسنة" وبشكل بشع ، مما عمق حالة عدم الاستقرار بسبب ردة الفعل من قبل بعض الجماعات السنية التي وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها، الأمر الذي فاقم من سوء الحالة الأمنية، وهذا ما يعود بالسلب على وضع القوات الأمريكية على الأرض، وهو ما لم يكن يتوقعه الأمريكان من الحليف الشيعي، حيث إن انزلاق البلاد في حرب أهلية طائفية "معلنة" شاملة, لا تخدم المشروع الأمريكي في العراق مطلقاً, ولا حتى في المنطقة حيث الأكثرية السنية, وهذا ما لم يفهمه اويدركه الشيعة الموالون لإيران, لأنهم ببساطة شديدة لديهم أجندة إيرانية يراد تحقيقها على حساب الأجندة العراقية والأمريكية على حد سواء؟
إن القراءة الإستراتيجية الدقيقة والمتأنية لمجريات الأحداث اليوم في العراق, تشير إلى أن: الشيعة خسروا مكانتهم كحليف موثوق للولايات المتحدة الأمريكية نتيجة نكرانهم لجميل "التحرير"، الذي أوصلهم إلى الحكم في العراق، والذي قابلوه بولاء إيراني منقطع النظير, والعمل على تحقيق الأهداف الإيرانية المتمثلة في تشكيل المحور الشيعي في المنطقة، والذي بدأ يهدد استقرار وهوية المنطقة بأكملها وظهور الميليشيات التي تعيث فساداً وقتلاً في الشارع العراقي.• وكذلك خسروا مكانتهم كطائفة دينية بسبب دورهم الخياني وتحالفهم مع العدو الكافر الغازي المحتل لبلاد المسلمين, وتخاذلهم في مقاومته ورفضه، وهو ما سيسجله التاريخ في صفحاته على تعاقب الأجيال.وكذلك تذمر ورفض قطاعات كبيرة من الشيعة للأحزاب الدينية التي احترقت سمعتها، وأصبح ذكرها مقرونا بفرق الموت والفساد الإداري وسرقة النفط وغياب البعد الوطني وتبعيتها لإيران.
وأمام كل هذه الحقائق والحيثيات، تبدو المواجهة المسلحة الحالية والقادمة، مؤكدة، بين الأحزاب الشيعية والجيش الأمريكي، الذي يستعد للقيام بعملية "كسر العظم" للذراع الإيراني في العراق, بعد أن كسره في لبنان من خلال ضرب حزب الله، وإضعاف تأثيره في المنطقة مستقبلاً. والحقيقية من ينظر بموضوعية شاملة انطلاقا من الحرص على مصالح العراق، سيجد أن الحد من بطش الميليشيات والتنظيمات التابعة لإيران ، أصبح حاجة ملحة وضرورية لاستقرار البلاد من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية, وكما هو معلوم اليوم أن نزع سلاح المليشيات وحلها "نهائياً" ومن غير رجعة, وتقليم أظافر الأحزاب الداعمة لها، ومن العوامل التي تساهم بشكل مباشر وكبير في إبعاد شبح التقسيم والحرب الأهلية في العراق.
Copyright © 2006 . All rights reserved to N A S R , Nothing in this publication may be reproduced without the permission of the publisher.