هنأت يا هنية...

 

هنأت يا هنية...

د. مهند العلام.

هذه المقالة تقدم عرضًا تاريخيًا وتحليليًا لأوضاع أهل السنة والجماعة، في مواجهة التحديات السياسية والدينية والاجتماعية خلال فترة من التاريخ الإسلامي. وتُقدم المقالة نظرة نقدية على استخدام الأصولية الدينية كوسيلة لإعادة القوة السياسية، وتبرز فشل هذه الجهود في تحقيق نتائج ملموسة. كما تسلط الضوء على الانقسامات الفكرية والدينية داخل المجتمعات الإسلامية، وتُشير إلى تأثير المصطلحات الحديثة على الفكر الإسلامي. المقالة تدعو إلى التفكير العميق في أسباب الفشل التاريخي وتحديات الحاضر، والتأكيد على أهمية التعامل بواقعية مع النصوص الدينية والظروف التاريخية.

منذ أربعة قرون، ظل أهل السنة والجماعة يقدمون التضحيات والشهداء في سبيل دعوتهم وإيمانهم، رغم أنهم لم يحققوا انتصارًا في أي معركة خاضوها، سواء كان الهدف منها الفتح أو التقدم أو السيطرة. لقد تصدّت لهم القوى الصاعدة، سواء الغربية أو الشرقية، والتي أوقفت تقدم العثمانيين نحو أوروبا، وألحقت بهم خسارة كبيرة على أبواب فيينا عام 1683.منذ القرن العاشر الهجري، بدأت تظهر تطورات في الساحات الرئيسية، كلها كانت تؤدي إلى ضعف السلطة السياسية المركزية. وعندما توقّف تقدم العثمانيين في أوروبا وآسيا، كانت ردة فعلهم الأولى على هذه الخسارة المفاجئة أمام التفوق الأوروبي المسيحي وصعود الصفوي الباطني، محاولة التحديث والتجديد، مع رفض التحجر الديني.لكن في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، ظهرت حركة دينية تسمى "كاديزاديلي"، بقيادة القاضي محمد كاديزاديلي. هذه الحركة، التي لم تكن معروفة كثيرًا في أنحاء السلطنة آنذاك، تعززت على يد تلامذته الذين عرفوا بـ"الطالبان"، وتعني الكلمة "تلامذة" باللغتين العربية والتركية العثمانية.كحالة تقليدية للأصولية الدينية، أكدت حركة "طالبان كاديزاديلي" أن عجز السلطنة عن الحفاظ على هيمنة "الإسلام الحقيقي" في سياساتها أدى إلى انهيارها. وزعمت الحركة أنه بالتخلي عن التسامح والانفتاح الذهني، والالتزام الحرفي بالنصوص الصحيحة للدين، يمكن للعثمانيين "تخليص الإسلام من الشوائب". وهذه الوصفة الدائمة للإصلاح كانت تسعى إلى إعادة الإسلام إلى مجده السابق.روج أتباع كاديزاديلي لمثلهم العليا في المساجد، وشاركوا في تحديد "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، مطالبين أتباعهم ليس فقط بتطهير حياتهم، بل أيضًا بالبحث عن المذنبين وقهرهم وإعادتهم إلى الطريق القويم. كما عبروا عن آرائهم في خطب الجمعة والمجالس العلمية، منتقدين الحركات الصوفية، معتبرين أنها أضعفت صورة الإسلام لدى "الآخرين". ورأوا أن التصوف انحراف عن الإسلام، وبالتالي يجب إقصاؤه من المجتمع العثماني. وتأثرت البنية الاجتماعية والثقافية في السلطنة العثمانية بحركة كاديزاديلي. فالفنون والعلوم والتعليم واجهت تحديات نتيجة للتشدد الديني الذي فرضته الحركة. فهذا التأثير كان له دور في تشكيل هوية دينية صارمة، مما قلل من تنوع الفكر والثقافة داخل المجتمع العثماني.مع ذلك، فشل أبناء كاديزاديلي في تحقيق انتصار واحد على الأعداء، إذ لم يكن التمسك بالنصوص الصحيحة للدين كافيًا لتحقيق النجاح السياسي. وكمثلهم كانت الحركة الوهابية. فبينما ركزت كاديزاديلي على العودة للنصوص الدينية الصحيحة، سعت الوهابية إلى تطهير الإسلام من البدع والتقاليد غير الدينية. فكانت النتائج متباينة حيث نجحت الوهابية في تأسيس دولة ذات توجه ديني صارم، بينما لم تحقق كاديزاديلي نتائج مماثلة.اذ ان التمسك بالنصوص الصحيحة للدين لا يعني التمسك بالنصوص صحيحة النقل فحسب، بل صحيحة التطبيق والملائمة للزمان والمكان، وان النصوص التي لا يعلم زمانها ولا هي تصلح كحكم لجغرافية معينة او لدولة ما، انما هي نصوص مثالية تكاد تكون قيما بتأويلها المعتاد غير القابل للتطبيق.ولقد تفاعلت القوى الخارجية، خاصة الأوروبية، مع هذه الحركات داخل السلطنة العثمانية بطرق متعددة. وكانت هناك استراتيجيات لدعم الأصولية في بعض الأحيان لتحجيم القوة العثمانية، بينما في أحيان أخرى، سعت القوى الغربية إلى نشر قيم التنوير والتحرر لمواجهة هذا التشدد.ثم حاول العثمانيون تطبيق الأصولية بفرض قيود صارمة على اليهود والعجم والمسيحيين، وقاموا بحظر القهوة والتبغ، واضطهدوا المسلمين غير الملتزمين دينياً. لكن هذه السياسات الدينية لم تتمكن من استعادة قوة السلطنة، حيث تمكنت القوى الغربية والشرقية من التفوق على العثمانيين في حروب القرن الثاني عشر الهجري. إضافة الى تلك السياسات الدينية التي فرضتها حركة كاديزاديلي والتي أثرت سلبًا على الاقتصاد العثماني. اذ فرضت القيود على الأنشطة الاقتصادية مثل التجارة، والتبادل الثقافي مع الآخرين، مما أدى إلى تدهور العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الدول الأخرى.من منظور الأصولية الدينية، كان الانحطاط السياسي والاجتماعي والديني نتيجة الانحراف عن الشريعة، وكان من الممكن تصحيحه بالقضاء على الممارسات غير الإسلامية. وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في أعمال الأصوليين طوال القرن العشرين، مما أسهم في تشكيل نمط فكري أصولي هيمن على جموع أهل السنة والجماعة.في العصر الحديث، أصبحت مفاهيم مثل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحاكمية والولاء والبراء وغيرها كثير، والتي صاغها اصلاحيون اصوليون ومراكز أبحاث ومستشرقون ومن تأثر بهم، جزءًا من الخطاب العام. تلك المفاهيم، التي وصفت مجتمعًا غالبه الجهل ليس فقط بالمعرفة والقراءة، بل أيضًا بعدم القدرة على اتخاذ قرار مستقل لمستقبله، أضحت جزءًا من واقع المسلمين.ونتيجة لذلك وبعد الحروب والتهجير والاوباء والمظالم وسحق الانسان المسلم وفقره وعجزه، أصبح الموت والقتل والشهادة عنده غاية ومبتغى، وأحيانًا وسيلة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه بوسائل أخرى. فأصبحنا نستبشر بالموت وكأنه النجاح النهائي، بينما لم نحسن من امر دنيانا بعد.فهنيئًا يا إسماعيل لك بالشهادة...