صعود حكم الاقليات في الشرق الأوسط..
اليهود، الشيعة، النصارى.
د. مهند العلام
في فترات الحروب والمجازر التي نشهدها اليوم في غزة، والتي مرت امثالها على منطقتنا طوال تاريخنا المعاصر، وفي حالة عدم الاستقرار السياسي والمعاشي التي مرت على اغلبيتنا السكانية، أصبحت بطبيعتها فترات خوف جماعي، لذلك يكون عند الناس شعور متزايد بالحاجة إلى الحماية، واعتزال مصادر الاضطراب والقلق.
في بداية القرن الماضي وبعد نهاية الدولة العثمانية، تم انشاء الدول القومية في منطقة الشرق الأوسط، واستمر غالبية المجتمع مرتبطا بالدستور وبالدولة الجديدة، وبالحكومة والقضاء والحدود وكل ما يتعلق بهذه الدولة الجديدة، ليس لان السنة هم الاغلبية فحسب، وانما نظامهم الفكري وطريقة عيشهم واختياراتهم المستقبلية لهم ولعوائلهم انما هي مرتبطة بالدولة. لكن هذا النمط من التفكير لأغلبية المجتمع التي تؤمن ان الدولة والقانون والحكومة هي الحامية والمدافعة والمانعة والمعطية والضامنة لحقوق السكان، تختلف عن نمط التفكير لدى الأقليات وان كانت حاكمة اليوم، لان حكم الأقليات مؤسس للبحث عن الحماية، كما كانت طيلة قرون طويلة خلت، أي حماية نفسها وموروثها الفكري والاعتقادي من التأثير الناعم للأغلبية السكانية السنية. فبينما تنحاز الاغلبية الى المرجعية الدستورية والقانون، بكافة اشكالها المحافظة والعلمانية إذا أحسنوا الاعلان عن أنفسهم بشكل جيد، تنحاز الاقليات الى مراجعهم التي هي اعلى من الدستور عندهم سواء كانت دينية ام قبلية ام اقتصادية. اذ ان الاقليات وان كانت عديدة السكان فان نمط التفكير عندها يكون واحدا، ولذلك نرى ان الاقليات اينما يكونوا وفي اي زمان يبقون مرتبطين بوحدة مرجعيتهم الدينية لأنها الضامنة لاستمراريتهم ولبقائهم على قيد الحياة ... نرى ذلك عند اليهود ومسيحيي الشرق والاقباط والدروز والبهائية والشيعة والعلوية، والنصيرية، والصابئة، وغيرهم. استغل الغرب هذا الخوف والبحث عن الحماية لدى أقليات الشرق المسلم وبدأوا بدعم سياسي وعسكري واجتماعي لرفع حكم الاقليات في الشرق الأوسط، وتراوح أشكال هذا الدعم بين الاقتصاد والثقافة والسياسة وحتى الدين، فعندما كانت قوى الغرب الاستعماري الأوروبي تسعى للتوسع والسيطرة على الموارد والتجارة، كانت الأقليات تقوم بخدمة الاحتلال الاستعماري لبلدان الشرق الأوسط، مما سبب هذا التدخل الاستعماري بتغييرات هائلة في هياكل المجتمع والاقتصاد والثقافة للشعوب المتأثرة. كذلك كانت الأقليات سببا أساسيا في تشكيل حدود الدول الحديثة، اذ شهدت المنطقة تأثيرًا كبيرًا للقوى الكبيرة في الغرب عندما وضعوا حدود الدول الحديثة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والتي قد لا تكون مطابقة دائمًا للواقع القومي والثقافي والديني في المنطقة. إضافة الى ذلك استطاعت الأقليات من الهيمنة الاقتصادية، فقد أدى التدخل الاقتصادي الغربي إلى تأثيرات عميقة على الاقتصاد في الشرق الأوسط، وتم تشجيع نماذج الاقتصاد الرأسمالي وتحديث البنية التحتية والصناعات، مما أدى إلى تحولات كبيرة في بعض البلدان وتعزيز قوة بعض الأنظمة الحكومية. الجانب الاخر لتأثير حكم الأقليات كان في الثقافة والاعتقاد، فقد أثرت وسائل الإعلام الغربية على الثقافة في المنطقة، فانتشار اللغة الإنجليزية والسينما الغربية والموسيقى والموضة، أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية في بعض البلدان، مما ساعد على محو وغياب الهوية المحلية للأغلبية السنية. اما في السياسة والحكم الديمقراطي، فقد أثرت القيم الغربية والمفاهيم السياسية على الشرق الأوسط، حيث شهدت المنطقة محاولات لتحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد بناءً على نماذج غربية، ولكن هذه التحولات لم تكن دائمًا سلسة وشهدت تحديات وصراعات بسبب تبوء الأقليات قيادة تلك الحركات السياسية وذهبت بها الى تحقيق المصالح الخاصة بالأقليات وحمايتها بشكل أساسي كما فعل الاقباط في مصر والعلويين في سورية واليهود في فلسطين والارمن والشيعة في العراق. وهنا يجب الاشارة إلى أن هذا التأثير ليس ثابتًا على الدوام، فالتطورات السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة كان لها دور في تعديل نطاق هذا التأثير. لكن المفزع في صعود الأقليات في الشرق الأوسط كان في ان التاريخ العام المحفوظ في ذاكرة سكان هذه المنطقة والعالم اليوم هي فقط ذكريات مجازر موت الاقليات، والتي يحتفل بها ويتذكرها الناس في كل عام، ويقام لها النصب والمعالم لتذكرها، والسياسيين والعلماء والمثقفين كل منهم يدلون بآرائهم ويدينون فاعليها ويترحمون على الضحايا، ويلعنون فاعلها غير الغربي، وهم قد نسوا او تناسوا المجازر الاروع للأغلبية السكانية التي سكنت المنطقة منذ فجر التاريخ والتي قد تعرضت للتشويه والكذب من الذاكرة والكتب. فالذاكرة العامة تحتفي بذكريات الاقليات الدينية والعرقية في حلبجة وسنجار والارمن واليهود، بينما تختفي الذاكرة، وينسى او يتناسى عموم الناس حوادث ومجازر الارمن ضد اهل السنة في كركوك والموصل، ومجازرهم في وان وبتليس وزيفي وارضروم، او مجازر اليونانيين في منطقة البلقان ضد السنة في جزيرة بيلوبونيز وتربوليتشا وباتراس ونافارين وتريبوليتشا وفي مناطق ايدين وازمير وايجة، وكذلك مجازر البلغار في قرى البلقان كمجزرة استروميكا، ومجازر الصرب في البوسنة وسابرنتشا، فضلا عن مجازر الايطاليين في انطاليا وليبيا، او مجازر الفرنسيين في ميسلون ودمشق وجبل لبنان والسويداء وحلب، او مجازر الانجليز في مجدل شمس ودير ياسين والقدس، او مجازر الاحتلال البريطاني للعراق في مناطق الاكراد او في بغداد والموصل والنجف والفلوجة والحلة وتلعفر وبعقوبة والكوفة والرمادي والرميثة، بل ان الناس حتى نسيت من ذاكرتها المجازر التي قامت بها القوات البريطانية وحلفاءها من المجندين الأرمن الاثور في الموصل والفلوجة والحبانية وكركوك. اما مجازر ومذابح اليهود في دير ياسين والقدس وحيفا ولبنان وغزة طول فترة الصراع، فضلا عن عما فعله الجيش الامريكي ومجازره في العراق وأفغانستان، فقد نسيت او اختفت في الذاكرة العامة، وما تبعه من مجازر على يد حلفائه من فرق الموت والمليشيات المدربة التي شكلها للتشريد والترحيل والتطهير المذهبي العنصري، بل ان الناس تناست ذاكرة ابو غريب وغوانتانمو وغيرها، وتناست او اغفلت الحكومات الغربية الجرائم ضد الانسانية التي قام بها جنودها من قنص، او تفجير، او ابادة متعمدة ضد الانسانية، بل وطردت من ذاكرتها اي ذكر عنها خشية اتهامها بموالاتها للإرهاب، او اي تهمة اخرى. ملايين من الناس قتلوا، وابيدوا بطرق رسمية، وبجيوش حكومية، وجنود نظاميين، بعمد مع إصرار، او بمليشيات صنعتها تلك الجيوش من الأقليات، لتقوم بالأدوار القذرة طيلة أكثر من قرن من الزمن الماضي، وملايين اخرين شردوا وهجروا من ديارهم وخسروا ارواحهم واراضيهم، وبالتالي استولى حلفاء جيوش الغرب على أراضيهم، وممتلكات الاغلبية في العراق والشرق المسلم. وتنسى الذاكرة العامة للناس أيضا، الحقوق العثمانية السنية في مناطقها التي كانت تابعة لها لقرون، والتي نزعت ملكياتها واعطيت، اما لشركات غربية بصورة مباشرة كما حدث في الامتيازات النفطية وسكة الحديد والمنشأت الكبيرة الاخرى، او اعطيت للمتعاونين مع الاحتلال، مثلما اعطى البريطانيون وخاصة مستشار الاوقاف آنذاك مستر كوك اليهود، الممتلكات والحجج الوقفية العثمانية في بغداد والبصرة والموصل، وأصبحت بعد ذلك ملكا طابو صرفا لليهود ومن تعاون معهم، واليوم ايضا يحدث الامر نفسه مع وقفيات الوقف السني ونزعه واعطائه للمتعاونين مع الاحتلال. وكذلك كان الامر في فلسطين مع اليهود، اذ اعطى الإنكليز اليهود الممتلكات الإسلامية والمزارع والأراضي لإنشاء دولة تحكمها الأقلية اليهودية، كذلك فعل الفرنسيون في سوريا حين مهدوا لحكم الأقلية النصيرية العلوية، وكذلك في لبنان حين لعب الغرب بحكم الأقليات المارونية والشيعية هناك ومكنوهم من السيطرة على غالبية الأراضي اللبنانية، وأيضا في مصر حين مكنوا الاقباط من السيطرة الاقتصادية على مقدرات مصر المالية والتجارية والسياسية، وكذلك في العراق حينما أعطوا الحكم للأقلية الشيعية آنذاك والتي أصبحت بفعل التطهير الديمغرافي الواسع اغلبية حاكمة اليوم. في فترات الحروب والمجازر التي نشهدها اليوم في غزة، والتي مرت امثالها على منطقتنا طوال القرن الماضي، وفي حالة عدم الاستقرار السياسي والمعاشي التي مرت على اغلبيتنا السكانية، أصبحت بطبيعتها فترات خوف جماعي، لذلك يكون عند الناس شعور متزايد بالحاجة إلى الحماية، واعتزال مصادر الاضطراب والقلق. لقد كان التأثير الغربي على الاقليات قد شهد تطورًا طوال القرن الماضي وما تلاها من تدخلات وتأثيرات سياسية واقتصادية، فالتوظيف السياسي للأقليات كاليهود والشيعة أثناء فترات الاحتلال حاول فيها الغرب من توظيف الطائفية، لتحقيق أهدافهم السياسية. وقامت سلطات الاحتلال بتعزيز بعض الشخصيات الشيعية واليهودية لدعم مصالحها وإقامة حكومات وفقًا لمصالحها السياسية. فضلا عن التأثير السياسي على النخبة من هؤلاء الأقليات، اذ سعت الحكومات الغربية للتأثير على النخبة الأقلية الحاكمة والتحكم فيها عن طريق منح بعضهم المناصب والمزايا الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ساهم في تشكيل قوى داخل هذه الطوائف تتعاون باستمرار مع المحتل الغربي. كذلك هناك أثر اقتصادي وتجاري، اذ قام الغرب بتطوير البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية خلال القرن الماضي، وهو ما قد يكون له تأثير إيجابي على بعض تلك الاقليات من حيث التشغيل والازدهار الاقتصادي، ومع ذلك، قد يكون هذا التأثير غير متكافئ بين مختلف الشرائح الاجتماعية. اما بالنسبة الى الهوية الوطنية والاندماج السياسي، فربما كان للتأثير الغربي على الاقليات تأثير متباين على الهوية الوطنية والاندماج السياسي، فقد أدى التحالف مع القوى الاستعمارية إلى تقسيم وجهات النظر داخل تلك الاقليات حول المشاركة في العملية السياسية ودورهم في مستقبل بلادهم، ونشأت بعض الحركات من هذه الأقليات تطالب بالمشاركة في الحكم وتحقيق المساواة السياسية والاجتماعية، وقد تمكنت بعض هذه الحركات من تطوير قاعدة شعبية قوية، أصبحت لاحقًا جزءًا من النظام السياسي في الشرق الأوسط. اما بالنسبة للهوية الوطنية، فقد تأثرت الهوية الوطنية للأقليات جراء التحالفات السياسية والاقتصادية مع الاحتلال الغربي، قد أدى ذلك إلى انقسامهم حول المواقف من الاحتلال والاندماج في النظام الاستعماري، مما خلق توترًا بين المؤيدين والمعارضين للسياسة الغربية. هذه الأمثلة تظهر أن التأثير الغربي على الاقليات كان متنوعًا ومعقدًا، وقد أثر في شتى جوانب الحياة السياسية والاجتماعية في الشرق الاوسط بفضل السياسات الغربية والتوظيف السياسي. ومن الجدير بالذكر أن التأثيرات التي لحقت بالأقليات في الشرق الاوسط خلال القرن الماضي كان لها تداعيات طويلة الأمد على الديناميكيات السياسية والاجتماعية في البلاد، والتي لا تزال تلعب دورًا في السياسة الشرق الاوسط حتى الوقت الحاضر. ان تشكيل الحكومات تحت تأثير الاستعمار الغربي، واختيار بعض الشخصيات من الاقليات لتولي مناصب قيادية في هذه الحكومات قد ساهم في تعزيز واستمرار الهيمنة الاقتصادية للغرب، اذ ساهمت الشركات الغربية في تطوير البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية في الشرق الاوسط خلال فترة الاحتلال، وقد ازداد تأثير هذه الشركات على الاقتصاد بمرور الوقت، مما أثر في التوظيف وتوزيع الثروة وأشكال الاقتصاد الهشة في المنطقة.