العجز ... د. مهند العلام
العجز هو الاخْفاَقَ التَعِبَ والخيبَة والضَعُفَ الفَشِلَ والوَهَنَ والارْتِخاء والذل هو الاستضعاف والانكسار والخَوْر ... هو عدم قدرة دولة أو مجتمع على تحقيق أهدافه أو ممارسة نفوذه، ويظهر حين تعجز الدول والمجتمعات عن حماية مصالحها والتصدي للتهديدات، وأسبابه مرتبطة بعدة عوامل رئيسية تؤثر سلباً على المجتمعات والدول، منها السياسات التي أدت الى مستويات عالية من الفقر واستمراريته وانتشار البطالة وهو ما يؤدي إلى انخفاض القدرة على تحسين مستوى المعيشة للسكان، ويحد من إمكانية توفير فرص عمل كافية ومستدامة وضعف من إنتاجية الأفراد ورفاههم الاجتماعي. كذلك ضعف الأنظمة التعليمية التي تعاني من قلة الموارد والبنية التحتية غير الكافية، وكذلك التفاوت الاجتماعي الكبير بين الأغنياء والفقراء، وبين الريف والمدن، والنخبة المثقفة المسيطرة وعامة المجتمع، وأيضا الشعور بعدم المساواة. والعجز له اشكال، منها العجز الاجتماعي وهو الضعف أو النقص في القدرة على تحقيق الرفاه الاجتماعي والتنمية البشرية اللازمة لتحقيق مستوى معيشي لائق للسكان. اما العجز الثقافي فهو الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة نتيجة لوجود قيود نابعة من الثقافة المحلية السائدة في المجتمع. هذا العجز يمكن أن يكون عائقًا كبيرًا أمام التنمية السياسية، الاجتماعية، أو الاقتصادية، خاصة في المجتمعات التي تهيمن عليها معتقدات أو قيم تقليدية. وهذا الفشل في التكيف مع المتغيرات العالمية أو عدم القدرة على تحديث الأفكار والممارسات بما يتناسب مع تطورات العصر يكون من مظاهره التقليدية الواضحة تمسك المجتمعات بالتقاليد القديمة التي قد تعيق التقدم والتطور. اما العجز الفكري فيعكس فشل الافكار السائدة في تلبية متطلبات المجتمع أو تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية المعلنة. ومن اهم أسبابه الجمود، فعندما تتمسك المجتمعات والحكومات أو الجماعات السياسية بأفكار متطرفة أو غير واقعية، يكون من الصعب التكيف مع متغيرات الواقع أو التعامل مع تحديات جديدة. والتطرف الفكري المتشدد قد يخلق استقطابًا اجتماعيًا، ويعزز الصراع الداخلي بين الفئات المختلفة في المجتمع. وبالتالي يمنع الوصول إلى توافق سياسي واجتماعي، مما يؤثر على استقرار المجتمع وتحقيق التنمية. ويعد التصلب والجمود في المواقف نوعًا من العجز، وخاصة في السياقات السياسية والاجتماعية والدبلوماسية. وهو نوع من العجز لأنه يمثل عدم القدرة على التكيف مع المتغيرات أو فهم وجهات النظر المختلفة في عالم يتطلب المرونة والتكيف. والتصلب السياسي عند القيادة السياسية أو في المجتمعات السياسية يجعل من الصعب الوصول إلى حلول وسطية أو توافقات. والتأزم السياسي يؤدي الى التصلب في المواقف وتصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية نتيجة لعدم القدرة على التفاوض أو حل النزاعات بطرق سلمية. اما السبب الحقيقي لكل أنواع العجز لدى الأمم والشعوب فيكون أساسه في العجز اللغوي، وهو عدم القدرة على استخدام اللغة بشكل فعّال للتواصل أو التعبير عن الأفكار، والمشاعر بطريقة واضحة ومفهومة. يظهر العجز اللغوي في عدة أشكال، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فالعجز الفردي يكون بسبب استنساخ او تقليد النظم التعليمية الغربية تقليدا عشوائيا، مما يؤدي الى صعوبات التعلم كعسر القراءة أو صعوبات في الكتابة والتعبير اللفظي بشكل سليم عن أفكارهم. والعجز اللغوي على مستوى المجتمع يكون في الانحسار اللغوي نتيجة هيمنة لغة حديثة محدودة الالفاظ نتيجة لسياسات حكومية سابقة، والتي تؤدي الى عجز في التواصل بين مختلف الفئات اللغوية وإلى تدهور القدرة على الفهم اللغوي العميق، والكتابة بطريقة منظمة وواضحة، وكذلك يظهر العجز اللغوي في الكتابة والتعبير مثل الإفراط في التبسيط اللغوي وعدم القدرة على التعبير عن الأفكار المعقدة بطريقة ملائمة مما ينتج فشلا في التواصل الفعّال والتوصل الى الإبداع... العجز اللغوي قد يؤدي أيضا إلى فقدان اللغة الأم بمرور الوقت، مما يؤثر سلباً على الهوية الثقافية للمجتمع. فمع تراجع الاهتمام باللغة الأم يبدأ التراث الثقافي والتاريخي المرتبط بها بالتلاشي، مما يؤدي إلى ضياع جزء مهم من هوية المجتمع، وضعف في القيم والتقاليد والتخلف عن التطورات العلمية، ومحدودية الوصول إلى المعرفة. لقد كان للثراء اللغوي في الدولة العثمانية سبب أساسي في استمرارية قوتها، فتعدد اللغات يتمثل في اللغة التركية العثمانية اللغة الرسمية للدولة، إلى جانب اللغات المحلية لمختلف الشعوب في الدولة. هذا التعدد اللغوي سمح للدولة العثمانية بتوسيع نفوذها على مساحات واسعة من العالم وإدارة الشعوب المتعددة بنجاح. كانت اللغة التركية العثمانية لغة الإدارة وكانت مزيجاً غنياً من مفردات عربية وفارسية إلى جانب القواعد التركية، مما جعلها وسيلة فعّالة للتواصل بين النخب المثقفة والإدارية. فالتواصل الثقافي والديني من حيث كون اللغة العربية كثيرة الالفاظ لغة العلوم والدين. وهذه العلاقة القوية مع اللغة العربية مكنت الدولة العثمانية من الحفاظ على شرعيتها كخلافة للمسلمين. بعد نهاية الدولة العثمانية أصبحت الدول المستقلة في الشرق الأوسط تواجه تحديات لغوية مرتبطة بتحديد الهوية الوطنية وتكوين هويات لغوية وطنية تعتمد بشكل كبير على اللغات المحلية، وكان التركيز على لغة واحدة في بعض الأحيان يؤدي إلى تجاهل اللغات الأخرى وتهميش الأقليات اللغوية، مما أضعف التواصل الداخلي وأدى إلى توترات اجتماعية. كذلك فان الدول المستقلة عانت من نقص في التعليم المتقدم والموارد الثقافية بسبب الانعزال عن العالم الأكاديمي الذي كان مزدهرًا في عهد العثمانيين. والعجز في التطور اللغوي في بعض هذه الدول بعد الاستقلال أعاق قدرة هذه المجتمعات على التفاعل مع المعرفة العالمية، مما أدى إلى تأخر في التقدم العلمي والثقافي. ان فقدان الثروة اللغوية العثمانية والتي كانت تحتوي على مفردات معقدة وشاعرية تنقل أفكارًا فلسفية وثقافية وعلمية متقدمة ثم الانتقال إلى اللغات المحلية الحديثة والتي اعتمدت على مفردات أكثر بساطة كان سببا في فقدان الثراء اللغوي والثقافي والعلمي الذي كان يمكن أن يربط هذه الأمم بارضها وتاريخها. وقطع الاتصال بالتراث الثقافي هو أحد الآثار الكبرى للعجز اللغوي في بلادنا الحديثة، اذ أصبحت الأجيال الجديدة غير قادرة على الوصول إلى الأعمال الأدبية والفكرية التي كانت جزءًا من هوية هذه المجتمعات مما أثر على قدرة هذه الدول على الاستفادة من تراثها العلمي والديني والفلسفي. كذلك أدى هذا التحول إلى توترات بين الأجيال، اذ شعر العديد من المحافظين بفقدان التراث اللغوي والثقافي. مما أثر على قدرتهم على التواصل مع العالم على المستوى اللغوي والثقافي، وهذا الانفصال اللغوي ساهم في ضعف الروابط الثقافية والدينية. لقد كانت هناك طبقات اجتماعية تمتلك القدرة على التواصل باللغة العثمانية ولديها خلفية ثقافية ولغوية واسعة، لكن مع التحول الحديث تم تقليص دور هذه الطبقات. وهذا أدى إلى إعادة تشكيل النخبة الثقافية، اذ أصبحت الفئات الجديدة التي تتقن اللغة الحديثة هي المسيطرة، في حين فقدت الفئات التقليدية الكثير من نفوذها.