السياسية..المقال الرابع

الانسان بين الحاكم والمحكوم...

د. مهند العلام.

02/12/2024

في هذا الجزء من سلسلة مقالات السياسة اود ان اطرح مسالة معنى الحكم والحاكم والمحكوم بطريقة نظامية تربط بين القيم الدينية والمعرفة العملية مضاف اليها العدالة التي تعزز الثقة بين الحاكم والمحكوم ضمن إحساس عميق بالمسؤولية الفردية والجماعية، لُتبرز دور الإنسان كخليفة حقيقي يعمل لمصلحة نفسه ومجتمعه ودولته.

فالمخلوقات اربعة اقسام منها ذلك الذي له عقل وحكمة، وليس لهُ طبع، ولا شهوة فهم الملائكة. والذي لهُ طبيعة وشهوة وليس لديه عقل ولا حكمة فهو الحيوان. والذي ليس لهُ عقل ولا حكمة ولا طبيعة ولا شهوة فهو الجماد والنبات. واما الرابع فهو الذي يكون لهُ عقل وحكمة وطبيعة وشهوة وهو الإنسان. 

وبسبب هذه الحكمة والعقل والطبيعة والشهوة ظهر الصراع في الوجود والتي محورها في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وهي في نفس الوقت مدخل للسياسة في التدبير في كبح أفات النفس، والاستدلال على طرق الخير بالحكمةِ والعقل، بالرغم من ان صراع الخلافة مستمر ما بين ابليس والإنسان. والمقصود بالخليفةِ حسب تفاسير العلماء ليس المراد بالخليفة آدم - عليه السلام - فحسب، وإنما كل من يخلف غيره.

وتعريف كلمة سياسة جاءت من كلمة "ساس" أي أُمِّرَ وأُمرَ عليه، وبعلمه وبعمله احرى اليه واثبت عليه قوله سبحانه (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) فالحياة والعقل هبة الماجد الوهاب والعلم والعمل درج العبد بالاكتساب.

وكسب الانسان، في ثلاثة أقسام:

     في سياسة الإنسان في نفسه وبدنه وهي سيرته في نفسه بالأعمال الصالحة والافعال الحسنة.

     وفي سياسة منزله في سيرته واهله واله.

     وفي سياسته في اهل نوعه وهي سيرته التي لا يستغني عنها مادام حيا.
"فاذا رجع الانسان الى نفسه وتامل احوالها بعين بصيرته واحوال غيره من الناس وجد نفسه في رتبته يشركه فيها اقرانه ووجد فوق رتبته طائفة هم اعلى بجهة او وجد دونه طائفة هم اوضع منه، فينتفع المرء بالسيرة الصالحة بين هؤلاء فيكون مع العظماء متقرب من مرتبتهم، ومع الاكفاء بالتفضيل عليهم ومع الوضيعين فلا ينحط لمرتبتهم.

وإذا بدأ الإنسان بسياسة نفسه كان على سياسة غيره أقدر، وإذا أهمل مراعاتها كان بإهمال غيره أجدر، فقلوب الرعية خزائن ملوكها فإذا وزعت من خير وشر فهو فيها. 

ولان كثرة الرؤساء تفسد السياسة احتاجت المدينة والدولة لان يكون رئيسها واحد وان يكون سائر من ينصب لتمام التأثير، وانما اضطر العالم الى سائس ومدبر ليدفع عنهم الاذى الواقع على بعضهم من بعض حتى يقصد كل احد منهم الصناعة التي ينتحلها لمصلحة نفسه ومصلحة غيره.

ومن هنا جاء الواجب بأركان المملكة الأربعة.. الملك، والرعية، والعدل، والتدبير. 

وقد عرف الماوردي الْمُلْك بموضوعةٌ خلافةِ النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالأجماع، وقالوا يستخلف من يغيب أو يموت والله لا يغيب ولا يموت، وقد قيل لسيدنا أبي بكر رضى الله عنه يا خليفة الله، فقال لست بخليفة الله، ولكني "خليفة رسول الله صل الله عليه وسلم". ثم جاء لقب "أمير المؤمنين" حين اطلق على سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه واستمر فترة طويلة بعد ان استحسنه المسلمون، ثم تغير بعد ذلك الى سلطان وملك ورئيس وامير وغيرها.

وفي الْمُلْك جاء قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو في ثلاث اشكال:

     الخلافة الدينية وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة لها.

     والملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي فيجلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.

     والملك الطبيعي هو الذي يحمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة.
ولأن الناس لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة، أو ولاية عهد، أو أثر عظيم، او غلبة، وبسبب خلقِ التوحش الذي فيهم وصعوبة انقيادهم لبعضهم لبعضٍ الى جانب الغلظةِ، والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة فمن النوادر ان تجتمع أهواهم؛ فإذا كان الدّين بالنبوةِ أو الولاية كان الوازع من أنفسهم، وذهب عنهم خُلقُ الكِبر والمنافسة فسهل انقيادهم واجتماعهم.

اما الرعية فالرَّعِيَّةِ في اللغة: من رعي، رعَى، َرعَى، ارْعَ، رِعايةً، فهو راعٍ، والمفعول مَرعِيّ، واصطلاحاً هم عامَّة النَّاس الذين عليهم والٍ يرعى مصالحهم وأمورهم، وإصلاح الرَّعيَّة بإصلاح الرَّاعي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ".

وتقسم الرعية أقساماً كثيرة منها متأهلون وهم الذين اقتصروا على العبادة والزهد، يوعظ الناس بترهيبهم وترغيبهم، ومنهم حكماء وهم العارفون بالعلوم الحكمية، كالطب والنجوم والحساب والهندسة، ومنهم علماء وهم حملة الآثار وخلفاء الأنبياء، اليهم يرجع التحريم والتحليل والتفسير، ومنهم ذو أنساب وهم أهل شرف والجاه والقدر، كلما كثروا في المملكة كانوا انبل، وهم عدة ملوك وأرباب الحروب وهم حرسة المملكة، وبهم تفتح المدن والممالك, ومنهم عمارة الأسواق وهم الصناع والاتباع بهم تتم أمور الناس، وينالون حوائجهم من قرب، وباقي الناس محتاج اليهم وينقسمون إلى ثلاثة:

     أخيار افاضل فهم محبون للخير يأتمرون وينتهون طوعاً، وحقهم الإكرام طوعاً، ويؤثرون ما عاد بصلاح الملك. 

     واشرار ارذال وهم اضداد الأخيار لأنه ليس للتأديب فيهم نفع فهم كالسباع المؤذية طبعاً. الأبعاد لهم إلى الأماكن النائية ليؤمن شرهم. 

     ومتوسطون وهم أرباب المكاسب يكافئ قولهم من محمود ومذموم يميلون إلى الصالح مرة وإلى الفساد الأخرى. 

واما العَدْل لغةً: عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادِلٌ من عُدولٍ وعَدْلٍ بلَفْظ الواحِدِ وهذا اسمٌ للجَمع. رجُلٌ عَدْلٌ وامرأةٌ عَدْلٌ وعَدْلَةٌ. وعَدَّلَ الحُكْمَ تَعديلاً: أقامَهُ ضدّ الجَوْر. وعَدَلْتُ الشَّيْء بالشَّيْء عَدْلاً، إِذا جعلته بوزنه، واصطلاحا: استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير 

واما التدبير فهي السياسة، فالتدبير في اللغة هي من التدبر والتَّدْبِير مُشْتَقّ من الدبر ودبر كل شَيْء آخِره، والتدبير اصطلاحا أُمُور وسوقها إِلَى مَا يصلح بِهِ أدبارها أَي عواقبها وَلِهَذَا قيل للتدبير المستمر سياسة. 

وجاء أن السياسة في التدبير المستمر، ولا يقال للتدبير الواحد سياسة، فكل سياسة تدبير، وليس كل تدبير سياسة. فان كان تدبير الرجل لنفسه سمي علم الأخلاق، وان كان تدبير خاصته سمي تدبير المنزل، وان كان تدبير العامة فهو سياسة المدينة والأمة والملك.

وواجبات هذا التدبير، تنفيذ الاحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين فلا يعتدي الظالم ولا يضعف المظلوم، وإقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك وتحفظ حقوق العباد، وتحصين البلاد بالعدة المانعةِ والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء وينتهكون المحارم أو يسفكون فيها دماً لمسلم، وجهاد من عاند الإسلام، وجباية الصدقات على ما أوجبه الشرعُ نصاً واجتهاداً، وتقدير العطايا من غير سرفِ ولا تقتيرٍ، واستكفاءُ الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض اليهم من الاعمال.

والسياسة تحتاج الى أهل العصبية ومن حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي والأمم، فهم يتنافسون في الخير، وخلاله من الكرم، والعفو عن الزلات، والاحتمالِ من غير القادر وحمل الكل، من كسب المعدم، والصبر على المكاره، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الاعراض، والتجافي عن المكر والخديعة، وهذه من خُلقُ السياسة، فإن حصلت لديهم استحقوا أن يكونوا ساسةِ للرعية.

كلك تحتاج السياسة الى الرأي المتين والنظر في تدابير السلف واخبارهم وتجاربهم وإلى رأي العقلاء، واستشارة العلماء، والمصابرة على الشدائد، واظهار الشجاعة، والقوة، واستعمالها.

وقد قيل أربعة لا يزول معها ملكٌ: حسن الدين واستكفاء الأمين وتقديم الحزم وامضاء العزم.

وأربعة لا يثبت معها ملكٌ: غش الوزير وسوء التدبير وخبث النية وظلم الرعية. 

وأربعة لا بقاء لها: مال يجمع من حرام، وحال تعقد من الآثام ورأيٌ يغوى من العقل وملكٌ يخلو من العدل.