السياسة..المقال الثاني.
د. مهند العلام
18/11/2024
جدلية المفاهيم السياسية.
في التراث السياسي للمسلمين وعلى طوال تاريخهم الحضاري لم نجد اية محاولة لتبرير القوة السياسية بدون الرجوع الى البعد الوجودي أي التجربة، ففي العصر العباسي الاول والذي يعرف بالعصر الذهبي للحضارة اذ نشأت العلوم والمعارف، كان بداية عصر التفسخ المجتمعي والانحلال الأخلاقي، برز التفكير السياسي بمعناه المعروف، ونظر الفقهاء الى الفكر السياسي، ولكنهم لم يهتموا بالتنظيم او النظم السياسية، ولم يقوموا بتحليل الظاهرة الحكومية التي تقوم على اساس الاختيار، اي السلطان، ولم يقوموا بتحليل الإفتاء اي العلماء، ولم يقوموا بتحليل الفصل بين المتخاصمين، اي القضاء، وهذه ما تعرف في ادبيات الفلسفة السياسية الاسلامية بالسلطات الثلاث (القضاء، الإفتاء، السلطان). وكان ذلك ما رسم العلاقة والفرق ما بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية وموضع الخبرة الحضارية منها في هذا الخصوص.
فدور العجم في بناء هيكل السلطة، ثم تنكيل الخليفة هارون الرشيد وولده المأمون بهم، عكس ديناميكيات السلطة في ذلك العصر. وفي فترة حكم الخليفة المأمون والمعتصم والواثق وتحديدًا في قضية "خلق القرآن"، وما فعلوه مع الامام احمد بن حنبل في محنته ظهر الصراع بين العلماء والخلفاء. لكن هذا الصراع عكس عدم وجود فصل واضح بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.
ينقسم التراث السياسي للمسلمين الى فكر، اذ كيفية التعامل مع السلطة، والى نظام، اذ ايجاد الحلول، والى ممارسة، اذ التعامل مع الواقع، اي الحركة.
والوجود السياسي في بداية الامر ينقسم الى حاكم، ومحكوم، وهنا تبرز حقوق وواجبات الحاكم، والمحكوم، والخلافة، والامامة. وقد عني الفقهاء المسلمين عناية شديدة بحقوق الحاكم، وواجبات المحكوم تجاهه، واهملوا بشكل لافت، واجبات الحاكم تجاه شعبه "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، وحقوق المحكومين "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟".
وقد قسم الفقهاء السياسيين المجتمع الى ثلاثة اقسام، فهناك طبقة تمارس السلطة، وطبقة تخضع للسلطة، وطبقة تحاول الوصول الى السلطة.
بينما انقسمت الطبقات السياسية للمسلمين، الى طبقة فلاسفة السياسة، والفقهاء المشتغلين بالأحكام ووضع القواعد السلوكية للعلاقات الفردية والجماعة وعلاقة الحاكم بالمحكوم والنظام القانوني، وهناك طبقة اخرى هم مفكري الحكم، والذين تعرضوا للسياسة والسلطة بالتحليل لقربهم من الحاكم وتأملوا في السلطة وصناعة الحكم وفكره. وبالتالي فالفكر السياسي لا ينطبق مع الفلسفة السياسية ولا مع الفلاسفة ولا مع اهل الفقه.....
وعن طريق هذه التقسيمات تظهر لنا وظيفة التراث السياسي، التي تكمن في العلاقة بين الثابت الديني والمتغير السياسي، حيث مفهوم الجماعة والاستقرار السياسي والاخلاقيات والقيم الوظيفية. اذ ساهم التجانس الاعتقادي في الدولة الأموية الى استقرار النظام السياسي، وكان لاستخدام الخلفاء العباسيين لمفهوم "ظل الله على الأرض" سببا لتعزيز شرعية حكمهم، كمثال للعلاقة بين الوظيفة العقائدية والعدالة في الوجود السياسي.
وتتكون عناصر الفكر السياسي عند المسلمين من...
• الفلسفة السياسية اذ لم تعرف حضارات المسلمين مفكرا للسياسة لم يكن فيلسوفا ولم تقبل فيلسوفا لم يكن مفكرا بالسياسة. الا ان الفيلسوف لا يصلح للحكم، فهو يتعامل فكريا مع ظاهرة الحكم ولا يقدم اي تأملات تعبر عن تصوره السياسي. فالفلسفة السياسية تعني الادراك والتصورات حول التعامل مع السلطة.
• والنظم، وهي القواعد القانونية اي الحلول الوضعية لمواجهة المشاكل.
• والممارسة، وهي الحركة والتعامل مع الواقع سواء اكان مطابقا او مخالفا للنظم، مثل اي ثورة او اضراب او رفض للطاعة.
ومصادر الفكر السياسي للمسلمين لم يكن القران والسنة كما هو شائع الان، بل كانت الادراكات السياسية للمسلمين نابعة من مصادر التراث السياسي كالخطب كلغة للإقناع والاقتناع، والرسائل والعقود، والكتب الموسوعية والكتب الفكرية والكتب السياسية، وتقاليد البداوة الخاصة بالرئاسة، والقيم الاجتماعية كالشجاعة والاقدام، وعلى مبادئ الحكم في عصر السعادة، وتجارب الحضارات الاخرى وتقليدها، والوقائع التاريخية.
وايضا كانت تلك الادراكات السياسية نابعة بشكل اساسي من القيم الاخلاقية، والتي غايتها تحقيق السعادة القصوى وهي ليست حبيسة جودة او رأفة، فالأخلاق مختلفة بين الناس، لاختلاف عللها واسبابها واختلاف جواهر الناس فيها، وتباين القبيح والفاضل منها، وسيادة الاخلاقيات انما تكون مرتبطة بمكانة الدنيا في النفس الانسانية، فهي سائدة حين تكون الدنيا دار امتحان ومعاناة، وحين تكون ايضا ممارسة الحكم محنة، والخضوع للحكم محنة ايضا.
وترتبط بعض القيم الاخلاقية ببعض الخبرات، وبالتالي فهي ليست كافية لترقى الى مرتبة الفلسفة السياسية، لان في الفلسفة السياسية هنالك التحليل والادراك الشخصي، واللذان يمنعان من وصول القيم الاخلاقية الى تلك الرتبة.
ولان السلوك السياسي ينبع من منطلق اخلاقي جاءت القيم السياسية والتي هي فكر سياسي تنبع من التحليل الاجتماعي، وهذا الفكر يقوم على اساس الحركة وهي بذلك تختلف عن القيم الاخلاقية والتي تنتج الفكر الفلسفي.
فالسياسة انما هي التعامل والتعاون عن طريق الملاحظة والمشاهدة، وبالتالي تكون القيادة والخلافة حقيقة سياسية، اي فلسفة والتوفيق والاعتدال فيهما قيم سياسية.
وتشمل هذه القيم السياسية، نظرية الدولة والسلطة وشروط القائد والقيادة السياسية وانواع الحكومات والنظم السياسية ومفهوم الولاء وهل يكون هذا الولاء مطلقا ام جزئيا وهل هو للامة، ام للنظام، ام للمسلم، اذ ان هذا المفهوم يكون مرتبطا بما يسمى بالوحدة والتي هي التكامل الاجتماعي السياسي، ومرتبط بالترابط والتجرد وبالتجانس الذي ينقسم بين الامة والوجود اذ الانتماء للامة وللملة.في العصر الحديث حاول أصحاب الفكر السياسي من المسلمين ربط فكرهم السياسي المعاصر بنظريات حديثة كالديمقراطية أو الدولة الوطنية من دون تجربة او سلطة، وظهر ذلك في أعمال راشد الغنوشي وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب وغيرهم، الذين أعادوا تفسير مفاهيم سياسية كالخلافة والشورى والحاكمية في ضوء الديمقراطية الحديثة وتوافقها مع النصوص الإسلامية، بينما تعاملت بعض الأنظمة الشرقية الحديثة مع القيم السياسية المستمدة من التراث، كالمملكة السعودية في تفعيل "البيعة" كمفهوم سياسي إسلامي.
لكن التناقض في المفاهيم خلق خطابًا غير متماسك حين حاولوا ربط الشورى بالديمقراطية، ورفضوا الأسس الليبرالية للديمقراطية، كفصل الدين عن الدولة وسيادة الشعب المطلقة. كذلك كان مفهوم "الحاكمية لله" يؤدي إلى إقصاء فكرة التعددية السياسية وقبول الاختلاف. بينما كان النموذج السعودي قد قدم في إطار سلطوي يخدم استقرار الحكم الملكي بدلًا من كونه آلية سياسية تتيح المشاركة الشعبية الحقيقية.
وكذلك فشل الاخرون كالمعتزلة حين حاولوا تقديم رؤية عقلانية للسلطة، والشيعة في نظرية "الإمامة"، وهو مفهوم يختلف جذريًا عن فكرة "الشورى" عند اهل السنة في تقديم مشروع سياسي متكامل ومتوافق مع الواقع الحديث، لأنه لا يتناسب مع احتياجات السلطة السياسية، ولأنه إطار مغلق ما جعله غير قابل للتطبيق، ولم يقدم حلولاً عملية لإدارة الدولة في العصر الحديث.