الخوف من الدنيا بين الزهد والعمران

الخوف من الدنيا بين الزهد والعمران

د. مهند العلام 28/10/2024 

في واقع مليء بالتحديات والأزمات، يشعر المسلم المتديّن بأن مكانته تتراجع وسط تغيّرات العالم، إذ لا يجد نفسه جزءًا من الصراعات العالمية التي لطالما اعتقد أنه في مركزها. يترافق هذا الشعور بتضاؤل الأهمية مع نوع من الخوف من الحياة المستقرة، وهو خوف يعكس تصورات دينية واجتماعية عديدة تتعلق بمفهوم الدنيا والآخرة. 

هذا الخوف معناه عند البعض هو الزهد في الدنيا وما في أيدي الناس، وكثير من الناس فهموا الزهد كمفهوم بشكل بدائي ومباشر وساذج، مقتصرين بفهمهم على تجنب الاستمتاع بمباهج الدنيا. بينما نجد الإمام أبا الحارث المحاسبي، أحد أهم وأبرز علماء التصوف البغدادي في القرن الثالث الهجري، يقدم تصورًا أعمق؛ حين يعرّف الزهد بأنه تطهير للقلب من التعلق المادي، دون الحاجة إلى ترك الأموال أو الممتلكات، ليبقى الإنسان مخلصًا لله في جوهر قلبه. 

في فكر المحاسبي، العلم يورث المخافة، والزهد يورث الراحة، والمعرفة تورث الإنابة. وخيار هذه الأمة هم الذين لا تشغلهم دنياهم عن آخرتهم. فلا يقتضي الزهد أن يهجر الإنسان دنياه أو يعيش في فقر، وإنما يكون الزاهد كمن يمتلك الدنيا بيديه لا بقلبه، فكل زاهدٍ زهده على قدر معرفته، ومعرفته على قدر عقله، وعقله على قدر قوة إيمانه. 

تفاوت الناس في الزهد إنما يكون على قدر صحة عقولهم وطهارة قلوبهم؛ فهناك من فهم الزهد على أنه الخشية من أن يؤدي الارتباط بالدنيا إلى الغفلة عن الله. وهذا الاعتقاد يؤدي إلى تفضيل حياة متقشفة يرى المتديّنون فيها قربًا أكبر من الله. 

كما أن هناك تصورًا دينيًا شائعًا يحث على اعتبار الدنيا جسرًا أو عتبة أو مرحلة مؤقتة، تدفع المسلم إلى التذكير بالموت. فالاستقرار قد يعطي شعورًا زائفًا بالديمومة والأمان، وهذا ما يعتبر مصدر قلق لمن يرى أن الحياة في النهاية عابرة، وأن عليه أن يبقى مستعدًا للآخرة. 

وتعتقد كثير من التيارات الدينية أن السعي إلى الاستقرار هو نوع من التعلق بالحياة الدنيا، لذا قد يشعر المتدين بالخوف من أن تكون الحياة المستقرة بابًا للركون إلى الدنيا ونسيان غايته الدينية الأسمى. 

وهنا يبرز أيضًا مفهوم الابتلاء والاختبار، إذ يعتقد المسلم أن الاستقرار قد يُضعف من صبر الإنسان ويقلل من قيمة الاختبارات التي تعطي الحياة معناها الروحي. أما مفهوم التقرب إلى الله، فيراه بعض المتدينين يتحقق بالفتن والمعاناة والمصائب والكوارث، التي يعتقدون أنها تقرب الإنسان إلى الله وتجعله أكثر إلحاحًا في الدعاء وأكثر ارتباطًا به، أكثر من الحياة المستقرة التي قد تنمي إحساسًا بالبعد والاستغناء عن الله. وقد تكون هذه الأسباب تمثل بعض الدوافع التي تجعل بعض المتدينين يشعرون بالخوف من الحياة المستقرة، وهو خوف قد يدفعهم إلى عدم الاجتهاد في بناء حياتهم الدنيا، ولكن بطريقة تتماشى مع قيمهم ومبادئهم الدينية. 

ويسعى بعض المسلمين إلى تحقيق توازن بين العمل في الدنيا والسعي للآخرة. فبدلاً من رفض الاستقرار المادي بشكل كامل، يجعلون النجاح مقرونًا بأهداف دينية وأخلاقية. فنية العمل من أجل خدمة الآخرين هي الغاية، وليس تحقيق الاستقرار المادي، والذي هو ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لدعم قضايا مجتمعية؛ فمساعدة المحتاجين والفقراء والأعمال الإغاثية الأخرى أو بناء مشاريع تنموية تعود بالنفع على المجتمع هي المعنى الأسمى لبناء الدنيا هنا، وليس تحقيق رفاهية فردية. 

وهناك قلة قليلة من المسلمين ترى أن التطوير العلمي والمهني هو نوع من أنواع العبادة، إذ يعتقد هؤلاء أن الاجتهاد في العمل والتفوق العلمي والمهني بمثابة عبادة، ويمكن أن يُنظر إليه على أنه وسيلة لإعمار الأرض وخدمة المجتمع. وبعض المتدينين ممن يسعون لبناء حياة مستقرة لأسرهم لا يحافظون على قيم الإيثار أو الاهتمام بالمصلحة العامة، معتقدين أن السعي للاستقرار هو فقط لأجل الحياة الشخصية، وليس لتحقيق إرث يمتد أثره للآخرين. 

تلك الأسس الدينية يجب إعادة مراجعتها اليوم إن كان المسلم يريد أن يكون له شأن أو مكان في عالم اليوم. فالأمن وتحقيق مستوى من الاستقرار هما من الوسائل التي تدفع الإنسان للتركيز على الهدف الأعظم، وهو العبادة، التي لا يمكن أن تتم بأحسن صورة إلا بالحرية ودون القلق المستمر بشأن الاحتياجات المادية الأساسية. فخشية الانغماس في الدنيا تدفع المتدين لبناء دنياه بوعي ومسؤولية. ومع السعي لتحقيق استقرار مستند إلى التوازن، يلتزم المسلم بقيمه الدينية ويخدم مجتمعه بفعالية. وإذا فُهمت الخشية من الاستقرار المادي بشكل متطرف أو أدت إلى التقليل من قيمة الدنيا أو العمل فيها، فقد تعيق بالفعل تحقيق حضارة أو مدنية مستدامة. فالحضارات تُبنى عادة على أساسات قوية من الاستقرار الاقتصادي والنمو العلمي والتنظيم الاجتماعي. 

بالمقابل، نجد أن حضارتنا التاريخية في الأندلس وبغداد وإسطنبول قامت على مزيج من القيم الدينية والفكر الحضاري الذي شجّع على الإبداع، والبحث العلمي، وتطوير الفنون. وهذه الحضارات لم ترفض الدنيا، بل رأت أن العمل الدنيوي والعلمي جزء من العبادة وسبيل لخدمة الإنسانية؛ فذكر الله في القلب والعمل باليد. 

اليوم، ولتحقيق السعي لحضارة ومدنية بين الأمم المتقدمة، قد يحتاج المتدين إلى رؤية متوازنة، بحيث لا تتعارض خشيته من التعلق بالدنيا مع طموحه لبنائها وتطويرها. إذ يمكن للقواعد الشرعية من المعاملات والأحوال الشخصية، إذا ما قُدّمت بروح منفتحة، أن تشجع على الابتكار والسعي للتفوق، وأن تدفع الإنسان ليكون مؤثرًا في تطوير مجتمعه، كنوع من الإحسان الذي يحث عليه الدين. 

فالحضارة تتطلب تجاوز الخوف من الدنيا إلى فهم أعمق لدور الإنسان فيها، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بمجرد الابتعاد عن الدنيا أو الخوف منها، بل يستدعي فهمًا متوازنًا وحقيقيًا لها وللدور الذي يجب أن يلعبه الإنسان فيها.

 فالخوف من التعلق بالدنيا قد يكون دافعًا قويًا للحفاظ على القيم الدينية والالتزام الأخلاقي، لكن الحضارة تتطلب فهمًا متزنًا اخر يعتمد على عدم التضحية بالتقدم الدنيوي. فالإنسان خليفة الله في الأرض، وهذه الخلافة تضع عليه مسؤولية إعمارها. بمعنى أن الخلافة بمفهومها المعاصر تعني أن الإنسان لديه القدرة والواجب لاستخدام موارده الطبيعية ومواهبه البشرية من أجل تطوير بيئة الحياة وتهيئتها للأجيال القادمة. وعليه، فالخوف من الدنيا قد يعوق الإنسان عن تحقيق هذا الدور، ويجعله يتجنب السعي للتطوير، أو قد يؤدي إلى الركون للعزلة، مما يحرم المجتمع من الابتكار والنمو. 

بناء الحضارة لا يتطلب فقط القيم الدينية، ومن هنا يأتي الفهم الأعمق للدنيا؛ إذ يجب على الإنسان أن يرى في العمل الدنيوي وسيلةً لتحقيق قيم مثل العدل، والإحسان، والعلم، والابتكار، والأمانة، والإحسان، والرحمة، والمعرفة، والتعاون. فيصبح العمل أداة لترسيخ القيم السامية في الواقع، ليتحول كل جهد بشري إلى جسر يصل بالقيم الدينية لحماية هذه الحضارة. 

الحضارة لا تُبنى على الخوف أو العزلة، بل على التخطيط والابتكار والسعي لتحقيق نتائج طويلة الأمد. لذا يجب أن يتجاوز الإنسان المتدين مخاوفه من الدنيا ليركز على ترك أثر إيجابي ودائم فيها. فالفهم الأعمق للدور الإنساني في الدنيا يعني السعي لتحقيق إنجازات تمتد آثارها إلى ما بعده، وهذا هو جوهر بناء الحضارات العظيمة. وإذا كانت الحضارة تتطلب التقدم العلمي والفكري، فهذان المجالان أساسيان في تحقيق فهم أعمق لدور الإنسان، إذ يمكن للإنسان أن يتجاوز مخاوفه ويتعامل مع الدنيا على أنها مجال لتحقيق الخير العام وتجسيد القيم السامية وبناء مجتمعات مستقرة، متقدمة، ومحترمة.