" وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ "
د. مهند العلام.5/11/2024
كثيرا ما نقرأ ونردد ونؤمن بان النصر من عند الله تعالى وليس بقدرات الانسان، بل هو التوفيق والفضل من الله. ويرتبط عادةً بالثبات على القيم والحق والصبر والمثابرة، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم مرات عدة، معبّرًا عن التأييد الإلهي لمن يسعى لنصرة الحق. فالنصر والتغلب تمنح الشعور بالقرب من الله والإحسان للآخر، ويجعل الإنسان أكثر صبرًا وإيمانًا وسعياً وتوكلاً وتواضعاَ حين يواجه التحديات حين يكون النصر على النفس لا لها.
فالنصر فضلًا وإكرامًا من الله للمؤمنين الذين يثبتون على الحق ويعملون ويجاهدون في سبيل الله. والنصر هنا لا يُقاس فقط بتحقيق الغلبة المادية على الأعداء، بل يمتد ليشمل الصبر على الابتلاءات، والثبات على العقيدة، والتغلب على النفس والأهواء، لمن يسعى لنشر الخير والعدل، ومواجهة الظلم والباطل. وهو تحقيق للعدالة الإلهية، وإقامة دين الله، ونشر الخير، ونصرة الحق، ودفع الظلم وتكريم الإنسان.
بيد أن هذا النصر من المفهوم الديني يمكن أن يُستغل بطرق تعزز من الهيمنة وتدعم الإقصاء، مما يُعزز الانقسامات الاجتماعية ويُعقّد العلاقات بين الجماعات المختلفة، من خلال تفسير البعض للنصوص الدينية بطرق تدعم فكرة التفوق الديني، حيث يتم استخدام الآيات أو الأحاديث لتبرير السياسات التي تهدف إلى الهيمنة على الآخرين أو إقصائهم. او من خلال تعزيز الانتماءات الدينية القوية من مشاعر الهوية الجماعية، مما قد يؤدي إلى تهميش أو إقصاء الأفراد أو الجماعات التي لا تتماشى مع هذه الهوية. ويتجلى ذلك في النزاعات التي تعتمد على الدين كوسيلة لتحديد من ينتمي ومن يجب أن يُستبعد من المخالفين.
او بواسطة إضفاء الشرعية على السلطة اذ يمكن أن تُستخدم الانتصارات الدينية لتقديم القادة كـ "ممثلين او ناطقين باسم الله" أو كأوصياء على الدين، مما يمنحهم شرعية مضافة للسيطرة على المجتمعات والأفراد.
او في استخدام النصر الديني في الحملات الدعائية لتصوير الخصوم على أنهم أعداء للدين، او استخدام الروايات والسرديات التاريخية حول انتصارات دينية أو فتوحات معينة لتعزيز الحق في الهيمنة
.لكن مفهوم "النصر" اصطلاحا يشير عادةً إلى الظفر والغلبة والتغلب والفوز والتمكين والظَفَرَة والظُهور والقهر، والإنجاز، والسيطرة، والتفوق. وهو تحقيق الهدف أو الغاية المرجوة في سياق مواجهة أو تحدٍ ما، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى الأمم.
في المفهوم السائد، يُعرّف النصر على أنه تحقيق الغلبة أو التفوق في سياق مادي ملموس، سواء كان ذلك في المعارك، أو المنافسات، أو الصراعات الاجتماعية والسياسية، أو حتى في الأهداف الشخصية والمهنية.
لكن هذا المفهوم يركز على النتائج الواضحة التي يمكن قياسها وملاحظتها، ويعتمد على معايير النجاح المادي مثل القوة، والسلطة، والمكاسب الاقتصادية، والانتصارات في الحروب أو النزاعات.وفي هذا السياق، يعتبر النصر إنجازًا ملموسًا يعزز من مكانة الفرد أو الجماعة او الدولة ويثبت قوتها أو تفوقها على منافسيها أو أعدائها
. وعادة ما يتطلب النصر في هذا المجال تخطيطًا استراتيجيًا وموارد كافية، مثل المهارات، والقدرات العسكرية أو الاقتصادية، والقدرة على اتخاذ قرارات فعّالة لتحقيق الأهداف المرجوة.ويميل هذا الفهم إلى النظر "للنصر" كعملية منطقية تعتمد على حسابات عقلانية في إدارة الموارد، حيث يُسعى فيه لتحقيق النتائج المرجوة بفعالية وكفاءة، ويمكن لهذا النصر أن يكون قصير الأمد أو مؤقتًا، خاصة إذا لم يحقق الاستقرار أو السلام الدائم، ولكنه يُعتبر مكسبًا مهمًا عندما يعزز الهيمنة أو التفوق في الساحة المادية.
لكن هذا النوع من النصر قد يؤدي إلى نزعة استهلاكية، "فالنصر الواقعي"، يمكن ان تؤدي الآثار السلبية المحتملة له الى الهيمنة أو الغرور، إذ غالبًا ما يؤدي السعي لتحقيق النصر المحسوس إلى الإضرار بالعلاقات الإنسانية أو بالقيم.فمن الناس من يكون نصره هذا او نجاحه المهني وتخطيه للتحديات ومواصلته للعمل بجد واستخدام مهاراته وموارده بفعالية ونجاح مشروعه يكون مدعاة للإحساس بالتفوق على الآخرين، مما قد يقود إلى الغرور والغطرسة أو التعالي
.او هناك من يعتقد أن النجاح المادي يُعزز من مكانته الاجتماعية ويعطيه الحق في التفاخر مما يُفضي إلى التقليل من قيمة الآخرين او مبررًا لفرض السيطرة عليهم، فالنصر المالي يعطي شعورا بالاستثنائية، مما يجعل الأفراد أو الجماعات يعتقدون أنهم "الأفضل" أو "الأكثر استحقاقًا" من الآخرين، مما يعزز من غرورهم ويجعلهم يتصرفون بتكبر تجاه أولئك الذين لم يحققوا نفس النجاح.
لكن دعونا ننظر الى "النصر" كحالة تحقيق للانتصار الذاتي، أي انتصار الفرد على شهواته ونزواته، أو تطوره، او في ارتقائه النفسي والأخلاقي. فمعنى النصر هنا يكون مرتبطًا بالصراع الداخلي والتقدم الروحي والأخلاقي. ومترادفاً غالبًا بانتصار الإنسان على نفسه، وتحقيق السيطرة على الشهوات والغرائز، والتغلب على النزعات السلبية كالغضب والخوف والأنانية. وتحرير المرء من الأوهام والتبعية، ويُنظر إليه كتحقيق للحرية أو "الانتصار على الذات"، حين يكمن النصر في الوصول إلى الحقيقة والمعرفة.
فالنصر يساعد في تقوية الذات والسيطرة على الأهواء والرغبات، مما يمكّن الإنسان من تجاوز تحدياته الداخلية. ومن خلال هذا النصر يمكن للفرد أن يظل ثابتًا على القيم الأخلاقية ويصبح أكثر وعيًا، متجنبًا تأثيرات الغرور والجشع.هذا النوع من النصر يتضمن أشكالاً متعددة من الانتصار الداخلي الذي يهدف إلى تحقيق حالة من التوازن النفسي، النضج، والارتقاء. ويرتبط بالمفاهيم الإنسانية التي تتجاوز الماديات، وتستهدف الرقي الشخصي والحرية الداخلية. فالتغلب على الرغبات نصرًا شخصيًا عظيمًا، والانسان الذي يقاوم الشهوات والإسراف، ويسعى للعيش بتوازن، ينال نصراً، لأنه يسيطر على نزعاته المادية ويسعى للعيش بمسؤولية وتمنحه استقلالية نفسية.والفرد الذي يدرك نقاط قوته وضعفه ويسعى للتغلب على جوانب النقص.
ويستطيع رؤية عيوبه دون أن يشعر بالإحباط، ويسعى لتحسين سلوكه وتعامله مع الآخرين. ويتحمل مسؤولية أفعاله وقراراته، ويتوقف عن لوم الآخرين أو الظروف هو نصر يعكس الوعي المتزايد بأن النجاح والفشل هما نتيجة أفعاله الشخصية، ما يمنحه الاستقلالية وقوة الإرادة.والاهم في ذلك ان النصر الحقيقي هو في تحقيق السعادة. فالنصر هنا هو الوصول إلى حالة من السعادة التي تنبع من الرضا عن الذات، والقدرة على التعامل مع الصعاب بتوازن وهدوء. فالسعادة الحقيقية في تحقيق الذات تكمن في أي الشخص يصل إلى ما يعتقد أنه غاية حياته. ويشعر فيها أنه في المكان الذي يريد، ومع الأشخاص الذين يختار، ويقوم بالأعمال التي يحبها، فهذا يُعد نصرًا بالغ القيمة.والنصر الحقيقي يتعلق ايضا بالتحرر من القيود التي يضعها الانسان على نفسه، كالخوف من الفشل أو الحاجة الدائمة لإرضاء الآخرين. والعيش بحرية أي تكون له القدرة على التفكير بشكل مستقل، ولا يتأثر بالآراء السائدة.
وعليه نرى ان من يقوم مثلا بتقديم المساعدة للآخرين بغض النظر عن الظروف التطوعية ويسهم بوقته وماله لمساعدة الفقراء أو اللاجئين على حساب راحته الشخصية أو موارده. يعد انتصاراً للأخلاق والقيم الدينية التي تدعو إلى الرحمة والتكافل.او نرى اخاً يسعى للتغلب على نقاط ضعفه، كالميل للغضب أو التردد في اتخاذ القرارات. ويعمل على تطوير نفسه والوصول إلى حالة من الاتزان الداخلي. هو نصر شخصي، يتحقق من خلال الوعي الذاتي وتطوير النفس.او نرى شابة تسعى الى التحرر من الضغوط الاجتماعية لتحقيق الذات، بان تتخذ قرارًا بتغيير مسار حياتها الوظيفية إلى مجال تحبه رغم الضغوط العائلية والاجتماعية. هذه الشجاعة للتغلب على المخاوف والخروج من دائرة التوقعات الاجتماعية يعكس نصرًا يتمثل في الحرية والوعي.ان تحقيق النصر الشامل يلبي احتياجات الروح والعقل والواقع الملموس. في هذا التوازن، يصبح النصر ليس مجرد تحقيق نتيجة مادية أو غلبة في معركة، بل إنجازًا يعكس قيمًا معنوية وروحية، ويعزز القوة الأخلاقية والوعي الداخلي.فالإنسان أي انسان قد يسعى لتحقيق النصر في قضية عادلة، مثل تحرير وطنه أو الدفاع عن حقوق المظلومين يستمد من الجانب الديني العزم على تحقيق النصر من إيمانه بأن العدالة واجب ديني وأخلاقي.
اما من الناحية النفسية فلابد له من ان يحرص على الحفاظ على نزاهته وسلامته الداخلية، ويجنب نفسه الوقوع في الفساد أو الانتقام. واما من الناحية المادية فعليه ان يضع خططًا استراتيجية ويستخدم الموارد المتاحة بفعالية لتحقيق أهدافه على أرض الواقع.