م/ مقال
د. عبدالناصر المهداوي
المؤسسة الوطنية للدراسات والبحوث NASR
واحدة من أهم ميزات الشعب التركي بشكل عام تتشكل عبر ولائهم وحبهم بل وتقديس وطنهم تركيا، ولعل الراية الحمراء التي تحمل بين طياتها الهلال والنجمة تعد الجامع الأكبر لجميع الأتراك على مختلف خلفياتهم القومية والسياسية والمجتمعية وحتى الدينية إن صح التعبير باعتبار أن الأتراك شعب مسلم في أغلبه وهنالك إحصائيات تقول بأن 99% من الشعب التركي مسلم، بهذه الكلمات افتتح مقال عن أكبر مسجد تم تشييده في تركيا واشرأبت أعناق مآذنه الست لتعانق أعنان السماء من أعلى مكان في اسطنبول في منطقة تشامليجا التي حمل المسجد الكبير وسمها واسمها، ومع اعتبار عمق الحضارة التركية التي شهدت في قرونها الأخيرة مجد الدولة العثمانية، فإن سلاطين العثمانيين كرسوا عبر بناء المساجد أمجادهم الغابرة التي أخضعت رقاب العالم لحضارتهم وقوة بلادهم وسطروا هذه الأمجاد ببناء مساجد ذات طراز خاص حمل عبر القرون الهوية الإسلامية للأمة التركية من قبل السلاجقة مرورا بأبناء أرطغرل وعثمان وصولا للرئيس أوردغان.
لذلك ونحن نتكلم اليوم عن أوردغان لا نحمله أيا من تبعات الماضي ولا ندعي أنه يسعى لأن يعيد أمجاد الدولة العثمانية، ولا يشكل في المنظومة التركية المعاصرة إلا كونه رئيسا لجمهورية تركيا الحديثة حاز ثقة شعبه من مختلف المكونات الملتزمة التي تحمل هم الإسلام، والمتحررة التي تعلن علمنتها وتؤمن بها وتسعى للحفاظ عليها بعد أفول نجم الدولة العثمانية التي حكمت الدنيا بما يقرب من ستة قرون ونحن هنا نفرق بين العلمانية العامة في تركيا وبين المتشددين الحاقدين على قيم الإسلام والمسلمين فهؤلاء لسنا بصددهم ولا نقصدهم في مجمل المقال، مع اعتبار أن الحراك بين الإسلاميين والعلمانيين في تركيا حراك تنوع واختلاف يثري الواقع التركي ويسعى للحفاظ على منظومات قيمية تتباين بحسب توجهات وأفكار حامليها، لا بل في أحيان كثيرة تتماهى المفاهيم بين الطرفين حتى تتشكل في فلسفة فريدة من نوعها يعطي لكل طرف إيجابية دافعة للعمل من أجل أن تكون تركيا أفضل، من هنا ونحن نتكلم عن تركيا بشكل عام سنخصص كلامنا اللاحق عن معلم من معالم تركيا، ويعد هذا المعلم رمزا وهوية للأتراك كافة إلا ما شذ وابتعد وهو قليل وإن كان صوته في أحيان كثيرة مرتفع، وفي هذا المقام سنتكلم عن المآذن والمحاريب والمنابر التي صدح عبرها ومن خلالها عظماء سطروا أمجاد هذه الأمة العريقة.
تعد المساجد في تركيا معلما من المعالم و علامات فارقة لحضارة هذه الإمة، وتمتاز تركيا بجمال مساجدها الكبيرة ذات الطراز المعماري البديع والتصميم الفريد، بجانب المآذن والقباب التي أصبحت علامة دالة على عمق حضارة الأتراك وبديع صنيعهم وفنهم المعماري الخالد، ومع الانتشار الواسع للمساجد والجوامع بشكل كبير نرصد اليوم ما يقارب 76286 مسجدا وجامعًا، منهم 3 آلاف و317 في إسطنبول فقط بحسب إحصائيات وقف الديانة التركية، وفي هذه العجالة سنتكلم عن مسجد تشامليجا الكبير الذي شيد بزمن الرئيس الطيب أوردغان، فقد شهدت مدينة إسطنبول، الجمعة 3/5/2019، افتتاح أكبر مسجد في تركيا، "تشامليجا عقب صلاة الجمعة "، الذي يقع بالشطر الآسيوي المطل على مضيق البوسفور، وذلك بمشاركة الرئيس رجب طيب أوردغان وممثلين من مختلف دول العالم الإسلامي. وبدأت مراسم افتتاح المسجد بشكل رسمي. وفي كلمة ألقاها خلال حفل الافتتاح، أعرب أوردغان عن سعادته البالغة بافتتاح المسجد أبوابه لجموع المصلين. وقال: "جامع تشامليجا هو الأكبر في تركيا ويمكن مشاهدته بسهولة من جميع مناطق إسطنبول". وأشار إلى أن جامع تشامليجا "ليس مجرد مسجد فحسب بل مجمع كبير يضم قاعة مؤتمرات ومتحفا للآثار الإسلامية التركية ومعرضا للفنون أيضا".
بدأ تشييد المسجد في عام 2013، بدأت عمليات بناء المسجد على أعلى قمة في مدينة إسطنبول بمنطقة أوسكودار على طراز الهندسة المعمارية العثمانية. والمسجد أقيم على مساحة 15 ألف متر مربع، ويتسع لنحو 63 ألف مصلٍ في وقت واحد. كما يضم قاعة مؤتمرات، ومتحفا للآثار الإسلامية التركية، ومكتبة عامة، ومعرضا للفنون، إضافة إلى موقف لسيارت رواد المسجد. ويعتلي المسجد 6 مآذن، 4 منها بطول 107.1 أمتار، واثنتان بطول 90 مترًا، فيما يبلغ ارتفاع قبته نحو 72 مترا وقطرها 34 مترا. وتم تخصيص حدائق حول المسجد بمساحة 30 دونما، ليتمكن الزائرون من التنزّه فيها، والاستمتاع بمنظر إطلالتها التي تعتبر من أجمل إطلالات إسطنبول، كونها تشرف على الشطرين الآسيوي والأوروبي للمدينة، بالإضافة إلى جزء من بحر مرمرة. ويوجد في موقع الجامع متحف بمساحة 11 ألف متر مربع، ومعرض فني بمساحة 3 آلاف و500 متر مربع، ومكتبة بمساحة 3 آلاف متر مربع، وتوجد صالة محاضرات تتسع لألف شخص، وثماني ورشات عمل ومواقف سيارات تتسع لـ3 آلاف و500 سيارة.
ولإيجاد مقاربة موضوعية حول أهمية المساجد في تركيا وقيمة ما تحمله من رمزية للدولة ولحاكم الدولة سنتكلم عن أكبر مسجد في اسطنبول قبل هذا الصرح الكبير، ونلمس ما هي أوجه التشابه العمرانية والفنية كما هو الحال مع القيم الروحية والمعنوية التي تليق بشعب تركيا الكبير، فمسجد السليمانية الذي فقد رمزية كونه أكبر مسجد في تركيا مع افتتاح مسجد تشامليجا إلا أنه يشترك مع الأخير بالعديد من المزايا والسمات ولعل من أهمها الارتباط المعنوي ما بين المسجد والحاكم الذي أمر ببنائه، ولعل موقعه على خليج القرن الذهبي ومدة بنائه التي تتقارب مع مدة بناء مسجد تشامليجا وهي قريبة من سبع سنين، كما أن الأهم اقتران مسجد السليمانية بالسلطان الكبير سليمان القانوني عاشر سلاطين الدولة العثمانية وأعظمهم، كما اقترن مسجد تشامليجا بالرئيس أوردغان باني مجد تركيا الحديثة بعد ما يقرب من قرن من الزمان من سيطرة العسكر والانقلابات على الحكومات المتعاقبة على الرغم من كون تركيا بلد ديمقراطي مدني، بصرف النظر عن ماهية هذه الحكومات وما قدمته عبر العقود العشر الماضية، فقد شهدت هذه العقود مواطن إشراق كما شهدت مواطن إخفاق نحن اليوم لسنا بصدد محاكمتها، بل نقول أن الرئيس أوردغان وحزب العدالة والتنمية أحيت الأمة التركية وبنت لها مجدا جديدا يحاكي أمجاد هذه الأمة عبر ماضيها التليد.
يقول الباحث عدنان عبد الرزاق؛ ينسب جامع السليمانية، نسبة للسلطان سليمان القانوني، وللمسجد خصوصية بين جميع مساجد إسطنبول البالغة، 3317 مسجداً، ولعل الخصوصية لا تتأتى من كونه الأكبر فحسب، بل لكثرة ما قيل قبل بنائه وتوقف بنائه ومن ثم ما حمل من أسرار معمارية، حاول المعماري سنان أن تكون إعجازاً، للحد الذي يقال، إن بعض طلاسمها لم يفكها المهندسون حتى اليوم، ولعل بصمود المسجد رغم نحو مئة زلزال ضربت اسطنبول منذ بنائه، حتى دونما أي تشقق، ما يؤكد تلك الأسرار. بدأ بناء الجامع على تلة مرتفعة تطل على مضيق البوسفور وخليج القرن الذهبي، بقلب اسطنبول، وقد جاء بأمر من السلطان سليمان، عام 1550 ليستمر سبع سنوات، ليأخذ الجامع الشكل المستطيل القريب إلى المربع، حيث يبلغ طوله 69م وعرضه 63م، وتغطى أرضية الساحة بألواح المرمر تتوسطها نافورة الوضوء، تزينه قضبان برونزية، ويحيط بالساحة ممرات جانبية من جهاتها الثلاث، تعلو هذه الممرات 28 قبة، ترتكز على 24 عمودا، وهي مرتبطة بأقواس صغيرة. ويبدو لكل شيء بهذا المسجد رمزيته، إذ تعمّد سنان، إظهار كل براعته وفنه للعمارة، فالمآذن الأربع ترمز لترتيب السلطان سليمان القانوني الرابع من بين سلاطين الدولة العثمانية بعد فتح إسطنبول، وشُرَف المآذن العشرة، تدُلّ على ترتيب السلطان سليمان العاشر بين سلاطين الإمبراطورية العثمانية.
يعد مسجد السليمانية من اكبر المساجد العمرانية في اسطنبول، تمتد أمامه ساحة خارجية كبيرة مزينة بالأشجار الخضراء، ولها أحد عشر بابا تصل إلى مجموعة متكونة من مقبرة وأربع مدارس ومستشفى وفندق ومئذنة، ومجموعة دكاكين وضريح المعماري العثماني الذي أشرف على بناء المسجد المعمار سنان، وبجواره جامعة إسطنبول في منطقة "بايزيد" التي بنيت مكان مبنى قديم كان مشيدا آنذاك. يقول المؤرخ نجم الدين الغزّي متحدثا عن السلطان سليمان القانوني ومسجده والمدارس السليمانية "عمَّرَ السُليمانية بالقُسطنطينية، وهي أعظم مساجدها وأنورها، حُكي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بستانه في المنام، فأشار إليه بتعمير مسجد جامع به، وأراه مكانًا، فلما استيقظ من منامه اقتطع جانبًا من سراياه منه البستان المذكور، وعمّره مسجدًا عظيمًا شيّد بناءه، ووسّع فضاءه، قيل ووضع محرابه في الموضع الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، وعمَّر إلى جانبها المدارس العظيمة أعظمها دار الحديث السُليمانية، وكان مصرف ذلك من غنائم رودس". كانت المدارس العثمانية بمثابة المنبع الذي يتخرج فيه الموظفون العثمانيون، بداية من القضاة نهاية إلى المدرسين وكتّاب الدواوين والدفاتر وغيرهم، ويرجع تأسيس تلك المدارس إلى قيام الدولة العثمانية ذاتها في بدايات القرن الثامن الهجري، وجرت العادة أن تُبنى هذه المدارس بجوار المساجد أو ضمن بنائها.
ولنتابع الرحلة من سليمان إلى أوردغان فإن الأمة لا تموت قد تمرض وقد تضعف لكن نجمها غير قابل للأفول، لقد كان سقوط الخلافة العثمانية في سنة 1924م سقوطًا مروِّعًا كارثيًّا، ليس فقط لغياب رمز الخلافة التي كانت تجمع المسلمين، ولكن لغياب من يحمل أعباء وهموم قضايا الإسلام والمسلمين، ولم يعد هناك صوت مسموع إلا أصوات القوميين والعلمانيين ليس في تركيا فقط ولكن في كل بلاد العالم الإسلامي وبلا استثناء، لم يغب نجم من يحملون هم الدين وإعادة المشروع الإسلامي الذي حكم العالم قرون طويلة كان آخرها ستة قرون في حكم الدولة العثمانية، فالأمة لا تعدم العظماء الذين يصححون المسيرة وينهلون من عبق التاريخ المجيد وأصالته ويكيفونها مع معطيات الواقع الجديد وضمن مقتضيات العصر فبعد أفول نجم العثمانيين حمل الراية عدد كبير في تركيا البلد المسلم ووريث المجد العثماني التليد منهم ابن بيران والنورسي وأربكان وصولا لأوردغان الذي صبر على ظلم بني جلدته حين سجن في بداية مشواره السياسي لمجرد قراءته قصيدة، وبسبب هذه القصيدة التي نظمها الشاعر التركي "زييا كوكالب"، وأنشدها أوردغان في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1997 فسجن ومنع من الترشح للانتخابات العامة، ومن العمل في الوظائف الحكومية، بتهمة التحريض على الكراهية الدينية. لم يفت في عضد الطيب ذلك الفعل بل صبر وعمل بحكمة وحنكة وصدق ونظافة يد إلى أن قبله المجتمع التركي وقدمه على غيره ومنحه الثقة طوال عقود.( https://www.youtube.com/watch?v=-tyct8Z8v7o&feature=youtu.be ) هذا الفديو يحاكي قراءة الرئيس أوردغان للقصيدة، "مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. والمؤمنون جنودنا.. هذا هو الجيش المقدس.. الذي يحرس ديننا".
أوردغان الذي أصبح اليوم رئيسا لجمهورية تركيا، سبق له أن انضم لـ"حزب الخلاص الوطني" بقيادة أستاذه نجم الدين أربكان في نهاية السبعينات، لكن مع الانقلاب العسكري الذي حصل في 1980، ثم إلغاء جميع الأحزاب، وبحلول سنة 1983 عادت الحياة الحزبية إلى تركيا وعاد نشاط أوردغان من خلال حزب "الرفاه"، خاصة في محافظة إسطنبول، وفي سنة 1994 رشح "حزب الرفاه" أوردغان لمنصب عمدة إسطنبول، واستطاع أن يفوز في هذه الانتخابات بعد حصول حزب الرفاه على عدد كبير من المقاعد، ومع اعتبار كون الاعتقال لم يثني أوردغان عن المضي في مشواره السياسي، بل تنبه بعد ذلك إلى كون الاستمرار في هذا الطريق على خطى أستاذه أربكان قد يعرضه للحرمان إلى الأبد من السير في الطريق السياسة كما حدث لأربكان لكون القوانين التركية والموروث العلماني المتشدد من بعض الأطراف التي تملك القرار وخاصة المؤسسة العسكرية ومجلس الأمن القومي والمحكمة الدستورية التي تخضع يومها للطرف المتشنج للعلمانيين، لذا رفع الطيب من سقف استيعاب حزبه ليكون خيمة لكل أمة الترك على مختلف أيدولوجيتهم على الرغم من توجهه الإسلامي المحافظ، لذا تجد في حزبه العدالة والتنمية العديد من التوجهات المتباينة لكنها تجتمع على مشروع نهضوي تولى خلاص تركيا من عقود ران عليها الفساد والكساد والتخلف، فالطيب تبنى استراتيجية سياسية ترتبط بمصلحة تركيا على خلاف أستاذه أربكان الملتزم بالمبدأ الإسلامي المؤدلج وفق معايره التقليدية.
ونحن حين نتابع تسلسل الكبار العظماء في الأمة الإسلامية وخاصة في تركيا فإن نجوما لامعة لا يستطيع أي معادي أو مناكف أو حاقد أن يحجب نورها بغربال، فالأمة لا تعدم الرجال الكبار ومسلسل الأبطال لاينثني ومن ألب الدين أرسلان مرورا بأرطغرل وسلاطين بني عثمان مرورا بابن بيران والنورسي فأربكان وصولا للطيب رجب أوردغان سلسلة من ذهب تعيد لأمة الترك خاصة وللأمة الإسلامية عامة مجدها الغابر، وتجعلنا نفخر بها ونعتز وننادي من السلطان سليمان للرئيس الطيب أوردغان نكرس في الأذهان القيمة الكبرى لإنسانية الإنسان الذي يعز ويكرم عبر الزمان والمكان.
واليوم هذا الشبل من ذاك الأسد فالتأريخ التركي والأمة التركية لم تعدم الرجال والكبار الذين سطروا لها مجدا من حروف من نور، واليوم حين يصدح النداء من مآذن السلطان أيوب مسجد الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري ومن مسجد السليمانية والسلطان أحمد وبايزيد الصاعقة والسلطان محد الفاتح ومسجد يافوز سليم وغيرها العديد من المساجد التاريخية التي عدت عبق الماضي التليد يتعانق هذا النداء مع النداء الصادح من مآذن مسجد تشامليجا الكبير ليشكل حداء يحدو بهذه الأمة للنهوض من جديد وتسطير مجدا يليق بالأمة التركية خاصة وبأمة الإسلام عامة، ولسنا بحاجة لاجترار الآلام والأحزان بل لا بد من النظر إلى أمام ليمخر مركب تركيا لجاج البحار بأمان بربانها الرئيس الطيب أوردغان.